صباح الخير
- علمتني مهنة الصحافة على مدى أكثر من ثلاثة عقود أشياء كثيرة لا أعتقد أنني كنتُ سأتعلمها لو امتهنت مهنة أخرى .. وليس كل ما تعلمته جميلاً، بل أكثره يوجع القلب ويقصر العمر .. ويراكم الأمراض .. وهناك أشياء أضافت جديداً في حياتي وجعلتني قريباً من الناس ومعروفاً بين أوساطهم .. لكن ما يهمني من كل تلك الحقيقة التي تعلمتها ورسخت في دواخلي ولا أعتقد أن هناك حقيقة مغايرة لها، وهذه الحقيقة تقول «الكلمة التي تخرج من أقلامنا وتخاطب عقول ووجدان وقلوب الناس خاصة البسطاء وتعالج همومهم ومشاكلهم وتتطرق إلى معاناتهم، هي الكلمة التي لاتموت أبداً وإن مات صاحبها وتوقف قلمه من الكتابة، لأنها كلمة تظل تنبض بالحياة يتناقلها الناس جيلاًُ بعد جيل» .. هذه الحقيقة تذكرتها وأنا أقرأ في صحيفة أكتوبر، مدرستي الأولى، سطوراً تنعي الأستاذ الكبير والصحفي الجليل/ إبراهيم محمد الكاف، رئيس مجلس إدارة مؤسسة (14 أكتوبر) للصحافة والطباعة والنشر، رئيس تحرير صحيفة (14 أكتوبر) سابقاً، الذي انتقل بهدوء وصمت إلى جوار ربه في مسقط رأسه مدينة تريم الغناء عروس وادي حضرموت في ساعة مـتأخرة من مساء الأثنين الماضي ليوارى الثرى ظهر الثلاثاء .. ليرتاح هو بين يدي الله سبحانه وتعالى ونبقى نحن في حزن شديد نقلب الذكريات التي عشناها معه في محراب صاحبة الجلالة «الصحافة» وفي مجالات عديدة أبرزها ثقافية وفنية إلى جانب قريب منه في الحياة الاجتماعية المليئة بالكثير من صور المشاغبة التي تجسد حب وتمسك الأستاذ «الكاف» بالحياة، غير أن الموت وهو حق علينا قد هزمه في لحظة كنا ننتظره لنواصل الاستفادة من خبراته وتجاربه المهنية والحياتية.- ابراهيم الكاف مدرسة صحافية متميزة ويراع يجيد فن ترقيص الكلمات ليصنع منها لوحات أدبية قصصية غنائية .. أمتد ارتباطه بالحرف والكلمة وهو شاب منذ نحو خمسة عقود بعد سنوات قليلة من تركه مدينة تريم ليستقر في احضان معشوقته التي حلم بها منذ طفولته مدينة عدن، فكانت عدن بوابة تحقيق احلامه الشخصية والعملية والابداعية .. تزوج فيها وانجب في ربوعها ثلاثة أبناء «خليل، سامي، منير» وابنة «ناهية» جذبته عدن للعمل السياسي فانخرط في صفوف الرابطة وكان إعلامياً في الحزب .. وعمل مع العديد من عمالقة الصحافة أمثال محمد علي باشراحيل ولقمان، وباخبيرة وأحمد سالم الحنكي .. كما عمل وهو في مطلع شبابه في صحيفة «الأيام» ثم في صحف أخرى حتى نال شعبنا الاستقلال عام 1967م وعاد من مدينة «تعز» الذي فر إليها هرباً من ملاحقة قوات الاحتلال البريطانية .. فعمل في مجلة «الجندي» وصحيفة «الراية» التابعتين للقوات المسلحة وفي عام 1974م وهو مشرفاً على (الجندي) و(الراية) جاءت معرفتي به، حيث جندت في مؤسسة (الجندي) للطباعة والنشر .. وكانت معرفتي بالأستاذ /الكاف/ في ذلك العام بداية رحلتي في عالم الصحافة واستمرت علاقتي به تتوطد يوماً بعد يوم وساعد في ذلك قرب سكنه من منزلنا .. وعملت معه حتى منتصف عام 2005م حيث غادر مؤسسة (14 أكتوبر) للصحافة والطباعة والنشر للتقاعد بعد أن تبوأ منصب رئيس مجلس الإدارة رئيس تحرير صحيفة ( 14 أكتوبر) .- ابراهيم الكاف أو كما أطلق عليه الأستاذ/ علي فارع الشيباني رحمه الله لقب «بوذا» فهو قليل الكلام، عميق الرؤية، كريم النفس ضليع في اللغة العربية، الأمر الذي ساعده في كتابة بعض النصوص الأدبية والغنائية، كما كان رحمه الله واسع الصدر، يرفض الظلم عاشق الحياة .. يخاف الموت رغم ايمانه العميق بأن الموت حق على كل إنسان.كان العمل الصحفي يغلب مهمته الإدارية التي كما قال: (اخذتني عن مبادلة معشوقتي «الصحافة» الحب .. اثقلت قلمي كثيراً وأبعدتني عن الكتابة حول هموم ومعاناة ومتطلبات الناس) «الكاف» رحمه الله كان إنساناً بكل ما تحمله الكلمة من معنى إذا اغضبك جاء إليك للاعتذار .. واذا رآك تشكو حاجة يحاول مساعدتك حتى من جيبه الخاص .. دخل أكتوبر فقيراً وخرج منها كما دخل ما عدا معاش ضئيل وسيارة أكرمته القيادة السياسية نظير مشواره الصحفي والأدبي الطويل.- ما زلت أتذكر نصيحة أسداها لي «الكاف» قبل عقد من الزمن وهي مأخوذة من الأستاذ الكبير الصحفي العملاق/ مصطفى أمين، وتقول النصيحة: (أجمع كل الحجارة التي يقذفونك بها .. واصنع منها هرماً تقف فوقه .. ستظل دائماً أعلى من قصار القامة الحاقدين .. واعلم أنهم لايقذفون بالأحجار سوى الأشجار المثمرة».- وداعاً «أبا خليل» .. وداعاً يا قلم كان مداده ذهباً .. وابتسامته ياسمين .. وداعاً وتموت مبتسماً غير مهزوم من الموت.