( أحمد الحبيشي )احتلت قضية مكافحة التطرف والإرهاب مكانا ً بارزا في أجندة ونتائج المؤتمر العام السابع للمؤتمر الشعبي العام الذي انعقد الأسبوع الفائت في مدينة عدن ، كما حظيت القضية نفسها بمكانة محورية في أجندة وقرارات مؤتمر قمة مكة الإسلامية والمؤتمر السادس والعشرين لقمة مجلس التعاون الخليجي الذي انعقد مؤخراً في مدينة ابوظبي .اللافت للإنتباه ان الاهتمام اليمني والاقليمي والعربي الملحوظ بهذه القضية التي ارتبطت بتحول الأفكار الضالة الى أجساد مفخخة تهدر دماء االأبرياء وتهدد الأمن والسلم الدوليين ، لم يقف هذه المرة عند حدود الإدانة فقط ، بل تجاوزه الى بلورة اتجاهات استراتيجية جديدة لمواجهة خطر الأفكار المتطرفة تشمل تعديل المناهج الدراسية وحماية المساجد من أن تتحول الى وسيلة لنشر الأفكار المتطرفة ، والتحريض على العنف وتكفير اتباع المذاهب الاسلامية المختلفة ، وإثارة الكراهية ضد أهل الكتاب من أتباع الأديان السماوية . من نافل القول ان جميع القوى السياسية والتيارات الفكرية ــ وبدون إستثناء ــ توّرطت بأشكال ومستويات مختلفة في إنتاج ثقافة العنف والتعصب عبر تسويق مشاريع سياسية شمولية ذات نزعة إستبدادية وإلغائية أضاعت فرصا ً تاريخية لتطور المجتمع ، وأهدرت طاقات وإمكانات هائلة ، وخلقت جراحا ً غائرة وطوابير من ضحايا الصراعات السياسية وأعمال العنف والحروب الأهلية والإغتيالات السياسية والتصفيات الجسدية التي كان يتم تبريرها سياسيا ً وايديولوجيا ً سواء بذريعة الدفاع عن الوطن والثورة ، أو بذريعة مناهضة القوى الرجعية ، أو بذريعة حراسة الدين ومحاربة الكفر ، بما في ذلك فكرة (( التـتـرس )) الدخيلة على الإسلام ، والتي تجيز قتل المدنيين من الشيوخ والنساء والأطفال والشباب الذين يعيشون أو يتواجدون في محيط الطائفة المتتنعة ، ويوفرون لهذه الطائفــــــة (( المرتدة )) فرصة التترس .. والمثير للدهشة ان الذين روجوا لهذه الفكرة الفاشية زعموا بأن (( العلماء أجمعوا على قتل هؤلاء المسلمين من أجل دحر الكفر عن دار الإسلام )) بدعوى أنهم سوف يبعثون يوم القيامة على نياتهم !! لا ريب في أن أطرافا ً سياسية بعينها تتحمل مسؤولية مباشرة عن الخطاب التكفيري التحريضي الذي أدّى الى إنتشار التطرف لدى بعض المنفعلين بهذا الخطاب ، وأنتج من بين صفوفهم بعض القتلة والمجرمين القساة الذين تورطوا في إرتكاب جرائم إرهابية ، بيد أن الأمانة التاريخية توجب الإشارة الى أن رواسب ثقافة العنف والتطرف ، وبقايا نزعات الإستبداد والإقصاء والإلغاء والإنفراد والأحادية ، ليست حكرا ً على طرف سياسي دون آخر ، وإن كان ثمة من لم يساعد نفسه بشكل خاص والمجتمع بشكل عام على التخلص من تلك الرواسب . بوسعنا القول أن ثقافة الإستبداد في مجتمعنا اليمني والمجتمعات العربية إمتلكت أجهزتها المفاهيمية من خلال طبعات مختلفة للإيديولوجيا الشمولية التي إشتغل مثقفوها على أدوات وأطر تتسم بالإفراط في تبسيط الظواهر والوقائع والإشكاليات والتناقضات القائمة في بيئة الواقع ، والسعي الى إخضاعها للأطر الفكرية والأهداف السياسية للإيديولوجيا ، بما هي منظومة جاهزة ونهائية من الأفكار والأهداف والرؤى والتصورات والآليات والتهويمات التي تسعى الى السيطرة على وعي وسلوك الناس ، وصياغة طريقة تفكيرهم وتشكيل مواقفهم وإستعداداتهم ونمط حياتهم على أساسها . ولمـّا كانت الآيديولوجيا ــ سواء كانت ذات لبوس ديني أو قومي أو إشتراكي ــ تنزع دائما الى ممارسة الوصاية على الحقيقة والمعرفة ، إذ ْ تزعم بإحتكار الحقيقة وتسعى الى أدلجة المعرفة ، فإنها تـُعطـَّـل في نهاية المطاف دور العقل كأداة للتفكير والتحليل ، حين ترى العلة في الواقع لا في الأفكار والتهويمات التي تؤثر على طريقة فهم الواقع والتفاعل معه .. بمعنى فرض سلطة الصنم الإيديولوجي بصرف النظر عن لبوسه ، وما يترتب على ذلك من إفتقاد الموضوعية والعجز عن معرفة الواقع وإكتشاف الحقيقة !! لم يعد الإعلان عن قبول الديمقراطية كافيا لدمج أي طرف سياسي في العملية الديمقراطية ، ما لم يتم التخلص من الجمود العقائدي والتعصب للماضي القريب او البعيد ، ومراجعة التجارب والأفكار والمواقف تبعا ً للمتغيرات التي تحدث في العالم الواقعي ، وتستوجب بالضرورة تجديد طرائق التفكير والعمل ، والبحث عن أجوبة جديدة على الأسئلة التي تطرحها متغيرات الحياة ، وإبداع أفكار جديدة وتصورات وحلول مبتكرة للقضايا والإشكاليات التي تفرضها علينا تحولات العصر والحضارة ولا يمكن معالجتها بوسائل وأفكار قديمة وماضوية . لعل أهم ما يميز الرئيس علي عبدالله صالح هو إدراكه منذ وقت مبكر خطورة الإنغلاق والتعصب والأحادية والجمود العقائدي والإقامة الدائمة خارج العصر .. وقد تجسدت في سلوكه السياسي ميولٌ واضحة للتسامح مع خصومه ومعارضيه ، والإنفتاح عليهم ، الأمر الذي إنعكس على تراكم وتطور خبرته القيادية الطليعية بفضل قدرته على المبادرة في مراجعة الصيغ المعيقة للتقدم ، وعدم التعاطي مع قوالب التـفكير والعمل الجاهزة ، وقدرته على إجتراح المبادرات الجسورة ألأمر الذي شكل مساهمة فاعلة في تأسيس ثقافة سياسية جديدة تتجاوز ثقافة التعصب والإنغلاق والأحادية . على هذا الطريق دعا الأخ الرئيس في وقت سابق من عام 2002 كافة القوى السياسية الى مراجعة أفكارها ومواقفها ، والمبادرة في تجديد مشاريعها والتخلص من رواسب الثقافة السياسية القديمة ، كما دعا أواخر عام 2003 م الى بناء إصطفاف وطني لمكافحة الإرهاب والتطرف . ما من شك في أن تأكيد الرئيس على ضرورة نبذ ثقافة العنف والتعصب وإدانة التعبئة الخاطئة التي أفرزت قاتل جارالله عمر بذريعة حراسة الدين ومحاربة المرتدين وقاتل اطباء مستشفى جبلة بذريعة محاربة الكفار والمبشرين ، وزجت بعشرات الشباب في معارك دموية بمديرية مران في محافظة صعدة ، تحت تأثير الأفكار الإمامية الرجعية التي تدعو الى حصر وتوريث الحكم في سلالة البطنين ، كان من أبرز أسباب دعوته الى إقامة إصطفاف وطني لمكافحة الإرهاب والتطرف وحماية الوطن والمجتمع من مخاطرهما المدمرة. يقينا ً أن ثقافة العنف والتعصب لا تنحصر في طرف سياسي بعينه أو طبعة محددة من طبعات الآيديولوجيا الشمولية التي عرفها المجال السياسي لمجتمعنا ، بل تتجاوز ذلك بالنظر الى مفاعيلها المتنوعة في البيئـة الفكرية والثقافية والتعليمية والإجتماعية التي تعاني من تشوهات لا تحصى ، بما في ذلك السيولة التي تتجسد في إنتشار وإستخدام السلاح تحت ذريعة المحافظة على العادات والتقاليد وحماية الخصوصية !! تأسيسا ً على ما تقدم يمكن القول بأن إجماع القوى السياسية على إدانة الإرهاب والتطرف من شأنه أن يفسح الطريق لبناء إصطفاف وطني ضد هذا الخطر الماحق ، وصياغة إستراتيجية وطنية شاملة لتجفيف منابعه ، وصولا ً الى بلورة مشروع وطني شامل لتحديث الدولة والمجتمع في مختلف ميادين السياسة والإقتصاد والثقافة والعلوم والإدارة والتعليم والإعلام على طريق الخروج من فجوة التخلف والإنقطاع عن إبداع الحضارة التي تهدد حاضرنا ومستقبلنا بأوخم العواقب . ان مستقبل الديمقراطية الناشئة في اليمن يتوقف على مدى النجاح في إنضاج المزيد من شروط نطورها اللاحق ، عبر مراكمة خبرات وتقاليد تؤسس لثقافة سياسية ديمقراطية ، وتمحو من ذاكرة المجتمع رواسب الثقافة الشمولية الموروثة عن عهود الإستبداد والتسلط ، بما تنطوي عليه من نزعات إستبدادية تقوم على الإقصاء والإلغاء والتكفير والتخوين والزعم بإحتكار الحقيقة ، وعدم قبول الآخر ورفض التعايش معه ، الأمر الذي يفضي في نهاية المطاف الى تسويق مشروع إستبدادي غير قابل للتحقيق بالوسائل الديمقراطية ، ويبرر بالتالي العدوان عليها من خلال إستخدام العنف بوصفه الوسيلة الناجعة للإقصاء والإنفراد .عن / صحيفة " 26 سبتمبر "
صنم الآيديولوجيا
أخبار متعلقة