نهى حوا بات يصيبنا الملل عند سماعنا هذه الأيام تصريحات وخطب عن المنطقة العربية. فالخطاب الذي يجري تكراره على مسامعنا بات معلوماً وممجوجاً حتى السقم، من « الحرب على الإرهاب» إلى «الدفاع عن حقوق الإنسان» إلى الشعارات التي لم تدم طويلاً حول «تحقيق الديمقراطية». من جهة أخرى، إن إضفاء بعض الكلمات بات له مفعول مهين. في حين أن إضفاء تعبير آخر يشكل مصدر اعتزاز، فكلمة استبداد أو ديكتاتورية تشير إلى أمر غير مرغوب فيه في حين إطلاق صفة الديمقراطية مدعاة افتخار، أما الفاشية فهي الأسوأ لأنه يجري ربطها تلقائياً بالمتطرفين والقوميين. كلمات كبيرة بمعزل عن صحتها تستخدم غالباً بطريقة ملتوية وبشكل واعٍ، بمعنى أن من يستخدمها لديه تعريفه الخاص ويشير لسامعيه الذين لابد أن يفهموا الرسالة، كما أن الكثير من هذه الكلمات إنما يقصد منه الخداع ويستخدم في عالم السياسية في هذا الإطار. يشير جورج أورويل الكاتب الإنجليزي الشهير في مقالة كتبها عام 1946 تحت عنوان «السياسة واللغة الإنجليزية» إلى أن العدو الأكبر للغة الواضحة هو غياب الصدق، أي عندما يكون هناك فاصل بين الأهداف الحقيقية والمعلنة للشخص، عندها يجري اعتماد أسلوب التضخيم للدفاع عن المواقف السياسية وتتحول الأكاذيب حقيقة وتصبح الجريمة مدعاة للاحترام. فالخطاب السياسي والكتابة هما «في عصر الانحطاط» للدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه، ولأن الجرائم التي تجري لا يمكن الدفاع عنها فلابد من اعتماد أسلوب كتابة يقوم على لطف التعبير عن أشياء بغيضة وتكثيف حالة الغموض. تقصف قرى معزولة تحت ادعاء «الدفاع عن النفس» وتسرق أراضي الناس تحت حجة عملية نقل السكان ويغتال الناس تحت ذريعة إزالة العناصر غير المرغوبة، وهذه التعابير مطلوبة إذا ما أريد تسمية الأشياء دون استحضار صور ذهنية عن الضحايا. واليوم من منا لا يرى كيف تتحول صور من لحم ودم إلى كلمات مجردة بعيدة عن الواقع، وكيف يجري تحويل الكتابة إلى عموميات واستخدام لتعابير جاهزة يعاد تكرارها باستمرار. «وبمجرد أن تطرح مواضيع محددة حتى تذوب المادة الصلبة في عموميات وتجريدات ولا يعود بالاستطاعة التفكير إلا بكلام مبتذل. وتصبح الكتابة أقل وأقل كلمات منتقاة في خدمة المعنى». غدت أساليب التعبير هذه مستخدمة في الإعلام على شكل واسع والمشكلة أنها باتت مستخدمة من قبل المستهدفين بها بنفس الطريقة، وكثيرة هي الكتابات المقولبة التي تؤثر فينا ونلجأ إليها في كتاباتنا سعيا للاستسهال وطلبا للسرعة، كما كثيرة هي التعابير المستخدمة من دون التمحيص فيها أو على الأقل محاولة تفادي استخدامها في حالة عدم فهم معناها. يربط أورويل بين انحطاط الفكر واللغة كأداة تعبير ويؤكد على التأثير المتبادل بينهما، ويرى أن اللغة أصبح ينقصها الجمال والدقة لأن الأفكار غدت هراءً، كما ان انحطاط اللغة يسهل تكوين أفكار حمقاء، مشيرا إلى أن التخلص من العادات السيئة في الكتابة يعيد الصفاء إلى التفكير كخطوة ضرورية لولادة سياسية. فعندما تفتقر الكتابات إلى التعابير المعجونة بيد صاحبها والتي تضفي حياة على المادة المكتوبة ويصبح التقليد في الكتابة دارجاً فإن تأثيره في الفكر لابد من أن يكون سيئاً ويمثل نوعاً من الامتثال السياسي. اللغة بإمكانها إفساد الفكر والعكس صحيح. والمشكلة أن هذا الاستخدام السيئ للغة ينتشر من خلال التقليد واللجوء إليه يريح. يقول اورويل «المطلوب هو جعل المعنى يختار الكلمة وليس العكس، والأفضل لتوضيح المعنى اللجوء إلى الصور والأحاسيس، فالفوضى السياسية الحالية مرتبطة بانحطاط اللغة وربما بالإمكان البدء بالتحسين من اللغة نفسها»، لغة نابعة من العقل والقلب. [c1]نقلاً عن / صحيفة «الاتحاد» الظبيانية[/c]
روح اللغة
أخبار متعلقة