وليس ثوار الصحوة هم أول من وظف (الضائقة النفسية) أو الخلل النفسي لجر الأتباع إلى الانتحار خدمة (طموحاتهم) السياسية؛ فقد عرف التاريخ كثيراً من الحالات المشابهة التي توظف الشعور بالهزيمة والانكسار والتضعضع النفسي والثقافي والشعور بتدهور (الأنا) العليا للانتقام من المنتصر المتفوق، ففي الأندلس نشأت في القرن الثالث الهجري - القرن التاسع الميلادي حركة مسيحية متطرفة (حركة الراهب أيولوخيو eologio)، إذ كان أتباعها يتعمدون الإساءة للإسلام، وسب رسول الإسلام، فيُقتلون من قبل السلطات المسلمة الحاكمة في ممارسة هي أشبه ما تكون (الانتحار الجماعي)؛ لذلك يمكن القول إن الظروف الموضوعية، وأهمها (الهزيمة) في هذا الخصوص، متى ما توافرت، فيجب أن ننتظر النتائج نفسها، لا فرق بين الراهب أيولوخيو وبن لادن في الموضوع، وإن اختلفا في الملة. ورغم أن فقهاء كباراً بحجم الشيخ ابن باز، وكذلك الشيخ العثيمين - رحمهما الله - قد رفضا فكرة (الاستشهاد - الانتحار)، وفنّدا أدلتها؛ ورغم شهرتهما ومكانتهما الدينية في العالم الإسلامي وليس المحلي فحسب، إلا أن ذلك لم يقف عائقاً في مواجهة كثير من الفتاوى (الصحوية) التي أباحت العمليات الانتحارية، حتى أصبحت بالفعل وبال العصر. ثوار الصحوة، ذوو التوجهات السياسية، هم كأي سياسيين آخرين (ميكافليون)، لا يهمهم سلامة (الوسيلة) وأخلاقيتها بقدر ما يهمهم (الغاية) وتحقيق الهدف النهائي؛ لذلك تلمسوا دليلاً يبيحون من خلاله الانتحار، فوجدوا في قصة (غلام أصحاب الأخدود) دليلاً يتكئون عليه، واشترطوا للإباحة أن يغلب على ظن (المجاهد) النكاية بالكفار وإرهابهم؛ (لينسف) هذا الدليل الهش، وهذا الشرط المفبرك، في النتيجة (حرمة) قتل النفس في الإسلام، ويدفع هؤلاء (المرضى النفسيين) نساء وذكوراً إلى الانتحار في سبيل مشروع (الأساطين) السياسي؛ واعتبروا أن من يقدم على هذه الفعلة (الشجاعة)، فإنه - بلا شك - سيحظى بما يحظى به الشهيد من الأجر والثواب. وقد رد الاستدلال بقصة غلام أصحاب الأخدود الشيخ العثيمين وقال: (من فعل هذا مجتهداً، ظاناً أنه قربة إلى الله عز وجل، فنسأل الله تعالى أن لا يؤاخذه لأنه متأول جاهل)! ولأن المرض النفسي بلغ من بعض (الصبية) مبلغاً تهاوت فيه كل حصون الدفاع عن الذات، وتلاشت فيه غريزة حب الحياة، فإن مثل هذه الفتاوى وجدت (قبولاً) لدى هؤلاء الذين لم تعد تعني لهم الحياة إلا مزيداً من العذاب والمعاناة، في حين أنهم إذا أقدموا على قتل أنفسهم في (سبيل الله)، فالجنة والحور العين - كما يعدهم أساطينهم - في انتظارهم؛ فماذا ينتظرون؟ وفي تقديري أن فتوى (جواز) الانتحار ستبقى ذريعة فقهية سيجد فيها المتأسلمون السياسيون خير داعم لهم ولمشروعاتهم السياسية؛ وبالذات في زمن (انتكاساتهم)؛ ففي هذه الظروف لا بد من تسخير كل المفاهيم، بما فيها (النصوص) الدينية، وليِّ أعناقها لمواجهة الانتكاسات؛ وغني عن القول إن انتكاسة ما يُسمى ب (الصحوة)؛ وانحراف مفاهيمها إلى الغلو، حقائق ملموسة لا ينكرها إلا جاهل أو أعمى، وما لجوء متطرفي كوادرها إلى الانتحار بعدما شعروا بالهزيمة والانكسار إلا دليل يثبت هذه الحقيقة. بقي أن أقول إن (الثقافة الانتحارية) هي حلقة مكملة في (منظومة) التطرف والتشدد؛ فقد يعترض فقيه عرف بالإغراق في التشدد والتزمت - مثلاً - على إباحة قتل النفس، وقد يكون لآخر بعض التحفظات على ممارسات (غلاة الصحوة) نظرياً، غير أنه - دون أن يعي - قد يكون هو ذاته مسوغاً ومحرضاً ومشجعاً لثقافة الإرهاب من خلال تشدده في قضايا أخرى موازية، أو قل: مساندة لأصول هذه الثقافة ومرجعياتها. وغني عن القول إن ثقافة (التشدد والغلو) هي التي أباحت كل محذور، ووصلت بنا حداً من التطرف لم يعرفه هذا الدين في تاريخه. [c1] * نقلا عن صحيفة (الجزيرة) السعودية [/c]
الانتحاريون 2
أخبار متعلقة