أفكار
هناك نشاط ملموس لوزارة التنمية الإدارية في مكافحة الفساد, من أهم ملامحه تشكيل لجنة الشفافية والنزاهة التي أصدرت تقريرها الثاني الشهر الماضي, ولكن ستظل المشكلة التي تواجه هذه اللجنة, ولجان أخري كثيرة علي شاكلتها, هي غياب الصلاحيات التي تمكنها من لعب دور حقيقي. فمن يطالع اختصاصاتها يجد أن الكلمة الأكثر شيوعا في الاستخدام هي اقتراح, وهو ما يعني أن اللجنة دورها استشاري ويفترض أن ما يصدر عنها في صورة توصيات يكون موضع اهتمام من جانب مؤسسات وأجهزة الدولة.في المجتمع المصري, مفهوم العمل الاستشاري غير مستقر في الوعي العام, والسبب يعود إلي أن السلطة التنفيذية التي تهيمن علي الإدارة الفعلية للشأن العام, لديها حرية تقدير واسعة في قبول ما تري جدوى تنفيذه, وعادة ما تتأثر التقديرات الداخلية في ماكينة العمل الحكومي بالخبرات السابقة, ورؤية النخب البيروقراطية المهيمنة وطبيعة الثقافة التنظيمية السائدة أكثر ما تتأثر بتقارير اللجان الاستشارية وبيروقراطية المجتمع المصري ـ الموغلة في القدم ـ لا تري في غيرها قدرة أو إمكانية علي طرح أفكار للتطوير أو التغيير. من هنا فإن الفجوة بين العمل الاستشاري والعمل التنفيذي هي إحدى مشكلات التنمية الأساسية, وبعد كل كارثة ـ آخرها صخرة الدويقة ـ نسمع من يقول إن هناك دراسات أجريت لم يلتفت إليها أحد مما يعني أن التغيير الجاد في المجتمع يقوم علي أكتاف سلطة تقرر وليس لجان تقترح!بعيدا عن ذلك, فإن الإشكالية التي تحتاج إلي نقاش جاد هي اتجاه وزارة التنمية الإدارية ـ ربما بحكم التخصص الفني ـ إلي حصر الفساد في الشق الإداري منه, أي يدور الحديث حول الفساد الإداري, دون النظر إلي أنماط أخري من الفساد أكثر استنزافا لموارد المجتمع, أعني بذلك الفساد الناجم عن التدخل غيرالصحي بين الرأسمالية والسلطة السياسية فساد الموظفين في دواوين الحكومة هو بالتأكيد أمر يستحق الاهتمام, لأنه يتصل مباشرة بمصالح المواطنين اليومية, وما يتحملونه من أعباء مالية إضافية في سبيل الحصول علي خدمات عامة يستحقونها. ولكن ما أتحدث عنه هو الفساد الناجم عن التداخل بين السياسة والمال, والذي تتضاعف خطورته في ظل بروز أنماط من الرأسمالية العائلية الريعية, التي كونت تراكما ماليا ضخما دون عمل إنتاجي حقيقي.هؤلاء يدخلون العمل السياسي بذات المنطق الريعي, الذي لا يعرف سوي الكسب السريع, وغياب الشعور بالمسئولية الاجتماعية, ويتعامل معهم الجمهور بالمنطق نفسه, خاصة في الانتخابات العامة, حيث يصبحون مصدرا للانفاق المذهل, الذي لا تحده ضوابط وهو ما يطرح تساؤلات جادة حول طبيعة المشروع السياسي لهذه الشريحة من رجال الأعمال, عرف المجتمع المصري هذا النمط من الرأسمالية منذ الانفتاح المشوه في السبعينيات من القرن العشرين, ولمعت أسماء من بين رجال أعمال ذلك الزمان بوصفهم رموزا للفساد, واستمرت هذه الحالة حتي كشفت عن وجهها بشكل سافر خلال الأعوام الماضية في سلسلة من الكوارث الاقتصادية والبشرية التي تنطوي علي وقائع فساد مروعة لاتزال تتداولها المحاكم, وتستحوذ علي مساحة واسعة من النقاش العام في مجتمع ينشط فيه الخيال الشعبي وينسج أساطير وروايات حول هذا النمط من الرأسماليين, مما يزيد من إحباطه ويرفع مستويات الحقد الاجتماعي.بالتأكيد هؤلاء ليسوا كل الرأسمالية المصرية هناك رأسماليون ينتجون ولا نكاد نسمع عنهم أو نعرف حتي أسماءهم لأنهم متوارون عن الأضواء, لا نراهم في الحياة العامة إلا في أضيق الحدود, مما جعل قطاعات من المجتمع تربط الرأسمالية بالفساد, وهو أمر غير واقعي ولا يوجد ما يدعمه.القضية ليست في رجل أعمال فاسد أخلاقيا أو ماليا, يخضع لحكم القانون مثل غيره ولكن المشكلة حين يكون جزءا من السلطة السياسية في المجتمع يؤثر علي التوجهات العامة لها, ويسعي لفرض تصوراته التي تخدم مصالحه الضيقة, ويلتمس أو يظهر في صورة من يتمتع بحماية أو حصانة لا يتمتع بها غيره. هذه هي الإشكالية التي تجعل ـ في النهاية ـ السلطة السياسية تبدو في موقع من يتحمل تبعات تجاوزات رجال أعمال في صورة تراعي مستويات الثقة الشعبية التي تتمتع بها وكثرة اللغط السياسي حول توجهات السياسات العامة في المجتمع وما يرتبط بذلك من شائعات وروايات.الفساد ـ إذن ـ ليس فقط سلوكا منحرفا إداريا مثلما يجري تفسيره حاليا لكنه مرض كامن في بنية العلاقات التي تجمع بين المال والسياسة, مما يعطيه مبررات البقاء, نظريا وعمليا, وما من فساد إداري كبير إلا خلفه علاقات سياسية تمنحه السند والحماية, وتحتاج مواجهة الفساد إلي لجنة وطنية تتمتع بصلاحيات تنفيذية, ولديها القدرة علي دراسة ملفات متعددة, بحيث يصبح الملف الإداري الذي تعني به وزارة التنمية الإدارية جزءا من جهد عام لمواجهة ظاهرة متشعبة, وشديدة التداخل بالتأكيد لجنة الشفافية والنزاهة ليست هي اللجنة المقصودة, لمحدودية دورها, واقتصارها علي الفساد الإداري دون سواه, ولكن اللجنة الوطنية التي نتحدث عنها هي لجنة سياسية في المقام الأول تضم شخصيات غير حزبية, تتسم برحابة النظرة إلي الشأن الوطني العام, وتضع خلاصة عملها أمام مؤسسات الدولة والمجتمع, بحيث يبحث كل منها عن دوره في مواجهة هذه الظاهرة.[c1]*عن/ صحيفة «الأهرام» المصرية[/c]