ذات يوم حين كنت أدرس اللغة الفرنسية في المستوى الثاني بالجامعة دار بيني وبين أحد الأصدقاء جدل أطلق خلاله هذا الصديق اصطلاحا ً سمعته لأول مرة حيث قال : (( أنتم لستم إلا أنصاف مثقفين ))!!حينها ثارت ثائرتي وأخذت أدافع عن أرائي وكلماتي التي دار حولها الجدل رفضا مني لهذا الاصطلاح . بالعودة إلى الواقع نسمع كثيرا عن أنصاف المتعلمين وأنصاف المثقفين والعودة إلى منابع الأمية في كثير من المجتمعات المنغلقة على ثقافات تحددها عاداتها وأعرافها ونظمها القيمية.يوجد المثقفون ويوجد المتعلمون ويوجد أنصاف المثقفين وأنصاف المتعلمين كل بحسب قدراته وقدرات بيئته التي يكتسب منها علومه ومهاراته الأدبية والثقافية .فالأمي الذي يتعلم أبجدية القراءة والكتابة ويمحو أميته بحاجة إلى مزيد من التعلم والى مزيد من القراءة فان لم يجد أو يفعل ذلك يعود تلقائيا إلى منابع الأمية من جديد .. ولذلك تسعى الحكومات والمجتمعات الى التحرر من خطر الأمية بتوفير البيئة التي تساعد أنصاف المتعلمين على توسيع قدراتهم ومداركهم من خلال توفير المكتبات و الأنشطة المحفزة للتعليم وتوسيع المعارف .ما ينطبق على أنصاف المتعلمين ينطبق أيضا على أنصاف المثقفين ويندرج ضمن هؤلاء مع الأسف الشديد الكثير من حملة الشهادات الثانوية والجامعية بل و الأدهى من ذلك حملة الشهادات العليا الذين تنحصر معارفهم في حدود ضيقة جدا لا تتجاوز ما تعلموه في مناهج التعليم الثانوي والجامعي . هناك مفهوم خاطئ شاع كثيرا بين الناس مفاده أن المثقف هو من حصل على فرصة التعليم الثانوي الجامعي والعالي . ويرجع وجه الخطأ في هذا المفهوم الى أن الثقافة ليس لها حدود ولا تنحصر في نطاق محدد كالمدرسة والجامعة والمجتمع .. فالثقافة تحتاج إلى المزيد من القراءة والاطلاع والتعرف على ما يحدث حولنا من جديد ومتغيرات وتحولات ، والتعلم كذلك يحتاج إلى الممارسة والقراءة . في هذا السياق هناك عوامل مؤثرة في تشكيل الثقافات على نحوما ذكرته سابقا ومن بينها البيئة التي يعيش فيها المتعلم والمثقف ونصف أو نصف المتعلم ونصف المثقف ولعلكم تتفقون معي حين أقول أن هذه البيئة أصبحت جافة جدا وخالية من الحوافز التي تشجع على القراءة والتزود بالمعارف في وطننا العربي .من نافل القول ان البيئة العربية تعيش حالة من الركود اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ن كما أن التثقف يحتاج إلى عامل الاستقرار .. والشعور بالأمان يحتاج إلى الغذاء . فحين يجوع الإنسان لا يكون همه الأساسي إلا أن يعمل ويوفر لنفسه لقمة العيش... ومن جانب أخر إذا توفرت المادة تعيقنا مكتباتنا الفقيرة جدا والتي تخلو من كتب الأدب والفنون والمعارف القيمة حيث اصبحنا لانجد ما نبحث عنه من روائع الأدب العربي والعالمي القديم والحديث ، بل أن مكتباتنا تكاد تكون محصورة في كتب أحادية الفكر ومنغلقة على الماضي .فكما نلاحظ في الجانب الديني انحصر الفكر الشائع في كتب الفقه السلفي الذي ادى الى انغلاق العقل وحبسه في الماضي دون الاخذ باجتهاد العقل ودون طرح الأسئلة حول الامور الفقهية التي تصلح لهذا الزمان أم لا! مما ادى الى انتشار ثقافة التحريم والتكفير والتشدد ، فلا يجوز بموجب الكتب التي تنتشر كالفطر هذه الايام في مكتباتنا ، أن تعمل المرأة أو ان تكون عضوا في البرلمان أو أن تكون وزيرة ودبلوماسية لان في ذلك ( فتنة ) الاختلاط والاستماع الى صوتها الذي تعتبره هذه الكتب عورة !!! وغير ذلك من الافكار التي وضعت المجتمع الاسلامي في قالب ثقافي منغلق على أفكار بدوية ، رافضا التقدم والاخذ بسبل التحديث والتطوير ، الأمر الذي كان ولا يزال سببا في تخلف العالم الاسلامي وتوقف نهضته الحضارية وتقدم الاخرين.في جانب آخر من صورة المشهد الثقافي السائد برزت الى السطح ثقافة الانترنت التي اذا ما استخدمت بطريقة خاطئة فانها ستولد التشتت وعدم القدرة على التركيز والفهم بسبب كثرة وزخم المادة الالكترونية المتناثرة في هذا الموقع وذاك وتعدد مصادرها ، فاذا ترك طالب الثقافة والعلم العنان لنفسه في تصفحه دون تنظيم أو رؤية محددة تثري معلوماته فسوف يفقد قدرته على استيعاب وفهم ما يقرأه .لا شك في أن استمرار تأثير العوامل السلبية المشار اليها في هذه العجالة ، تساعد على بناء نصف مثقف ونصف متعلم فلا هو مثقف ولا هو جاهل ! مما يخلق عدم الثقة بالنفس وعدم القدرة على بناء شخصية ناضجة متزنة ومنسجمة مع مجريات الاحداث لهذا العصر المتسارع.ان معالجة هذه الاشكاليات يفرض على الدول والحكومات أن تهتم بمحاصرة الظروف والعوامل التي تخلق هذه الاشكاليات . ويمكن البدء بانشاء المكاتب وتوفير الكتب في كافة المجالات والتخصصات العلمية والادبية العربية والعالمية والاهتمام باثراء المناهج المدرسية والجامعية وتوسيع علومها ومداركهاوانشاءمراكز لمحوالامية مؤهلةومجهزة بواسائل تعلمية تحفزالذين يتلقون التعليم فيها علىحب التعلم والتقدم في دراستهم وتوسيع مداركهم ومعارفهم .. وقبل كل ذلك يجب الاهتمام بالانسان بشكل عام وبذل أقصى الجهود لتأمين بيئة اقتصادية واجتماعية آمنة تتوفر له سبل العيش الكريم وتحرره من الخوف على مستقبله ومستقبل أولاده . .
أخبار متعلقة