صباح الخير
رتب الإسلام جزاءً شرعياً على أداء الفرائض والواجبات وكذا على تركها .. كما بين ما يترتب على الفضائل والسنن من أجور يكتسبها الفاعلون عند الله. بيد أن هذا الجزاء لم يقتصر على الفرائض والواجبات بل شمل ترتيبه الأبعاد الانسانية للقيم والمثل والأخلاق سلباً او إيجاباً .. وهو باب عظيم يستحق الوقوف عليه والتأمل فيه ببصر ثاقب لينعكس جلياً وزن هذه الاعمال المطلوبة في كل زمان ومكان ! . هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء عنه أنه دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ! ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ! . وهذه بغي من بغايا بني اسرائيل ، ادركت كلباً يلهث من العطش ، ويدور حول بئر طمعاً في إرواء الظمأ ! .. فتحركت بواعث الرحمة في نفسها ، فنزعت خفها ، ونزلت البئر ، وملأته ماء ، ثم أمسكته بفيها ، وسقت ذلك الكلب العطشان ، فغفر الله لها !! . هذا المصير المتباين للمرأتين يقرر بوضوح أن في أعماق النفس البشرية بواعث ومشاعر تستحق التقييم والتمييز اللذين يسحبان عليها بالضرورة استحقاق الثواب أو العقاب ! وتسليط الجزاء كما رأينا آنفاً انما ينصب على أبعاد إنسانية للقيم المثلى والمثل العليا .. وهو يدور معها حيث دارت كما يحرك تلك البواعث للخير نحو الطمع في الفوز بفضل الله ورضوانه .. ويكبح جماح انحراف الضمير وتهاوي الفضيلة عن الوقوع في سخط الله !!. كما يرفض هذا الترتيب العظيم للجزاء على قيم الخير ونزعات الشر يرفض (( لف ودوران )) الشروح والتأويلات الجامدة - اذا جاز التعبير - والتي تضع الشروط والعراقيل بهدف جعل هذه الأبعاد الاخلاقية هامشاً من هوامش العبادات والأعمال المطلوبة من البشر ! . وهذه فريضة الحج ، وقد فرضها الله بقوله : (( ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا )) .. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )) .. وقال كذلك : (( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته امه )) .. وأمام هذا الإغراء العظيم لهذا الركن الخامس من الأركان الخمسة للاسلام .. نجد الامام الحبر العظيم عبدالله بن عباس - رضي الله عنه - يقول : (( لأن أعول أهل بيت من المسلمين شهراً أو جمعة - أي أسبوعاً - او ما شاء الله ، أحب إلي من حجة بعد حجة )) !! . لقد أدرك ابن عباس - رضي الله عنه - ان بلوغ درجة الإحسان عن طريق تفعيل المشاعر الإنسانية النبيلة وقيم الخير والإحساس بالآخرين بمساعدة الناس المعدمين أرقى وأرفع من بلوغه في تكرير الشعائر والعبادات مرة بعد مرة ! . فالصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها قد لا ترفع أصحابها عند الله إذا كانوا قساة القلوب جفاة الطباع ، لا تعرف بواعث المعروف مكاناً في نفوسهم ولا يظهر لها اثر في أفعالهم ! . وابن عباس - رضي الله عنه - إنما أراد تصحيح النظر لمن أراد إنفاق المال في تكرير فريضة الحج عاماً بعد عام دون تنويع منابت استثمار الإحسان في فضائل الخير ، وإشباع المعدمين ومواساة المحتاجين ! . وحب فعل الخير عند الإنسان لا يبلغ عتبته إلا بإحساسه هو بوجوده كانسان وهو يرعى من يستحق رعايته ليترك سيرة فاضلة صالحة للاقتداء بها ويتمثل قول الله تعالى : (( واجعلنا للمتقين إماما )) . وبعد هذا العرض .. استطيع القول الآن .. إنني تجولت في أكثر المساجد وتنقلت لسماع خطبة الجمعة في غير ما مسجد .. وجدت الخطباء أكثرهم يتفننون في الحديث عن تحريم الموسيقى والغناء .. وتحريم الاختلاط وفداحة فاحشة رؤية المرأة وهي تمشي في الأسواق وتتواجد في الأعمال .. وتركب الباصات حتى وان كانت محجبة لا يظهر منها شيء !! وسمعت حديثاً مملاً مدراراً عن أعداء الإسلام والمؤامرات المحاكة ضده مما يصور الإسلام ديناً مضطهداً مظلوماً على اطراد ! ويصنع الهزيمة في ناشئة الأجيال كوضع طبيعي للمسلم ! ولم اسمع الحديث عن النظافة ولا عن الأجر العظيم المترتب على من يتبرع بأعضائه البشرية لآخرين يحتاجون اليها ، ولا من يتكلم عن جرم السرعة الجنونية التي تأتي بالكوارث ولا عن أهمية ربط حزام الأمان أو أهمية الحفاظ على الثروة المائية أو توضيح مخاطر التهريب على الاقتصاد والوطن والفقراء وغير ذلك من عادات غير حميدة انتشرت في مجتمعنا جعلت من هذه الأشياء المذكورة آنفاً هامشاً لا يستحق الاهتمام !! . لم أسمع الحديث عن فضيلة إنقاذ الغريق ومساعدة الجار وتفقد أحواله .. ولا عن تحريم الغش والتلاعب والاحتكار وغيرها من القيم الساقطة والهابطة ! . كل الذي أفرزته لنا ثقافة السرة والركبة وكذا ثقافة تجريم الصغائر وتقويم الكبائر هو أن حالق اللحية مثل الأنثى مائع لا يعرف من الرجولة شيئاً !! والغناء وأهله في النار حتى لو كان نشيداً دينياً أو وطنياً أو علمياً ! . والنصارى وغيرهم أعداء للإسلام لا تجوز مهادنتهم ولا الحوار معهم ولا استعمالهم في شيء ! ، والهجر مشروع وهو تحريم السلام والابتسام لمن يخالفك في الرأي وضربوا عرض الحائط بل نطحوا بقرن ثور كل الأحاديث الموجبة للمحبة وإفشاء السلام !! . فيا هؤلاء كفى ما ألحقتموه بالإسلام من غبن ! وعودوا إلى عقولكم المعطلة .. وافتحوا أبصاركم العمياء وقفوا ولو لحظات على قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا أركعوا واسجدوا وافعلوا الخير لعلكم تفلحون )) صدق الله العظيم . وقفوا على قوله - صلى الله عليه وسلم - (( صنائع المعروف تقي مصارع السوء )) !! وهذا الرسول - عليه الصلاة والسلام - يخبرنا أن الله تعالى تجاوز عن رجل كان ميسوراً ويداين الناس ويبعث بريده بين الأفقين ويرشدهم قائلاً : انظروا الموسر ، وتجاوزوا عن المعسر !! فلما لم يوجد له في صحائف أعماله من العبادة شيء غير هذا الصنيع قال الله لملائكته : أنا أحق من يتجاوز عن عبدي ، فتجاوزوا عنه !! . كل ذلك يدل على أن نيات العباد مردها إلى الله .. وان أعمالاً للناس تبدو في نظر هؤلاء الغوغاء لا شيء ، هي عند الله من القبول بمكان ! ولكن غوغاء معطلة العقل لا يفقهون .. وصدق الله القائل : (( قل كل يعمل على شاكلته فربكم اعلم بمن هو أهدى سبيلا )) .