محمد زكرياعدن مدينة المدائن اليمنية ، عروس البحر العربي ، والمدخل الحقيقي لجنوب البحر الأحمر ، وأشهر الأسواق على الإطلاق في جزيرة العرب منذ الأزمنة الموغلة في القدم ، وفي تاريخها القديم تعرضت المدينة لغزو روماني لتحطيم مينائها وذلك بعد عدة سنوات من فشل الإمبراطورية الرومانية في حملتها ضد اليمن في سنة ( 24 ق . م ) ، وكان الغرض من تدمير مينائها هو أنّ روما خشيت من نشاط حركتها التجارية على موانيها المطلة على البحر الأحمر. وكيفما كان الأمر ، فلم تمر سنوات عديدة حتى استعاد الميناء عافيته وازدهاره التجاري مرة أخرى . وذهبت الإمبراطورية الرومانية في مهب الرياح ، وبقيت عدن بمينائها تتألق بالحركة التجارية . وفي تاريخها الإسلامي تعاقبت الدول على حكمها كالدولة الصليحية التي كانت تدور في فلك سياسة مصر الفاطمية ، والأيوبيين الوافدين من مصر في عصر السلطان صلاح الدين الأيوبي المتوفى ( 589هـ / 1193م ) وبعدها الدولة الرسولية التي ولدت من ضلع الدولة الأيوبية ، والدولة الطاهرية التي أحاطت بها المخاطر الخارجية علاوة على المؤامرات الداخلية. فنرى المماليك المصريين ينزلون إلى السواحل اليمنية بغية حمايتها من الأسطول البرتغالي ، وفك الحصار الخانق على موانئ البحر الأحمر الذي فرضته الأساطيل البرتغالية ولكن محاولات المماليك باءت بالفشل الذريع . وفي ( 945هـ / 1538م ) فتحت الخلافة العثمانية اليمن وكانت عدن من أوائل المدن التي سيطرت عليها . ورغم تاريخ عدن الطويل والمليء بالأحداث الجسام ، والأمور العظام التي ذكرنا مشاهد منها قبل قليل . فإنّ المؤرخين القدامى لم يسجلوا في صفحاتهم الأعياد والمناسبات الدينية ومظاهرها في عدن كشهر رمضان ، وكيف كانت المدينة تستقبل هذا الشهر الكريم ؟ . وهذا بامخرمة المتوفى سنة ( 947 هـ / 1540م ) صاحب (( تاريخ ثغر عدن )) الذي سخر عقله وقلبه وقلمه لكتابة تاريخ مدينة عدن، ترجم الكثير عن علمائها ، وفقهائها ، وأقطاب صوفيتها ، ووجهائها ولكنه لم يشر من قريب ولا من بعيد إلى شهر رمضان ومظاهره في المدينة.[c1]ابن الديبـــــــع [/c]وإذا يممنا وجوهنا شطر مدينة زبيد مدينة العلم والعلماء ، والفقه والفقهاء في اليمن والتي كانت في يومٍ من الأيام إشعاعاً للحضارة اليمنية الإسلامية والتي كانت تقف في مصافِ الأمصار الإسلامية المشهورة بالعلوم والمعارف كالقاهرة ، دمشق ، والقيروان ، فإننا لا نعثر في صفحات كتاب المؤرخ ابن الديبع المتوفى ( 944 هـ / 1537م ) ــــ وهو مؤرخ مدينة زبيد ــــ الذي يحمل عنوان (( بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد )) ، أي ذكر لشهر رمضان أو الأعياد والمناسبات الدينية الأخرى كعيد الفطر ، والأضحى . ماعدا ما ذكره في سياق حديثه عن زبيد وسوقها المشهور وهو سوق السبت ، وعادات زواج أهلها بأنهم كانوا يرفضون أن تفارق بناتهم بلدتهم إلى بلد آخر وبسبب ذلك كانوا يرفضون أن يصاهروا الأغراب أو الذين خارج مدينتهم . ولقد قلنا سابقا إنّ كتابات هؤلاء المؤرخين اليمنيين القدامى كانت مليئة بمآثر ومناقب السلاطين ، والملوك والحكام ، فضلا عن بعض المظاهر الطبيعية التي كانت تحدث بين الحين والآخر ، كسقوط نيزك من السماء على أحدى قرى تهامة أو زبيد ، أو ظهور أضواء غريبة في السماء وغيرها من مظاهر الطبيعة غير المعتادة التي كانت تذهل الناس حينئذ ويعتبرونها من العجائب والخوارق . [c1]صنعــــــاء والأعياد الدينية[/c]ويذكر مؤرخنا الكبير القاضي إسماعيل بن علي الأكوع بشيء من التفصيل الأعياد الدينية كعيد الفطر أو الأضحى في صنعاء في كتابه القيم (( أعراف وتقاليد حكام اليمن في العصر الإسلامي )) . وكيف كان الحكام والناس على تباين فئاتهم الاجتماعية يحتفلون بهما احتفاء رائعاً ، يليق بمقامهما الجليلين وكيف كان أهل مدينة صنعاء يرشون الماء أمام منازلهم بعد كنسها ؟ ، وكيف كانوا يعتنون بمصلى العيد اعتناء كبيراً ؟ ، فينشرون البخور في كل مكان فيه وكيف كانت مدينة صنعاء القديمة في تلك المناسبات والأعياد الدينية ترتدي أحلى الحلل الزاهية لاستقبال تلك المناسبتين الدينيتين العظيمتين . وذلك نقلاً عن المؤرخ أحمد بن عبد الله الرّازي المتوفى سنة ( 460 هـ / 1068م ) صاحب (( تاريخ صنعاء)) .[c1]في التراث الشعبي [/c]وإذا بحثنا في كتاب الأديب والكاتب القاص حسين سالم باصديق الذي يحمل عنوان ((في التراث الشعبي اليمني )) نجد أنه يروي قضايا الموروث الشعبي المرتبطة بعادات وتقاليد وأعراف حياة المجتمع اليمني التي كانت سائدة حينذاك من خلال الشعر الشعبي النابع من بيئة اليمن والذي يعد مرآة صافية تعكس صورة المجتمع ، ونورد بعض العناوين التي تحدث الشعر فيها عن أبرز المسائل الاجتماعية التي كانت سائدة حينئذ في المجتمع اليمني بصورة عامة وثغرها عدن بصورة خاصة على سبيل المثال : الشعر الشعبي ومجالس الأدب، تأثيرات القهوة ، تأثيرات الشاي ، تأثيرات التمباك. ويتطرق سالم باصديق كذلك إلى الأغاني الشعبية التي تحدثت عن الزواج ،والأغاني الشعبية في العمل ، والمعتقدات الشعبية في حياة الناس اليومية وغيرها من الموروث الشعبي. رغم هذا الجهد الذي بذله الأستاذ حسين باصديق في ربط التراث الشعبي بإيقاع الحياة الاجتماعية بصورة تدعو إلى الإعجاب . ولكنه ـــ مع الأسف العميق ــــ لم يتطرق إلى رمضان وانعكاس مظاهره على عادات وتقاليد المجتمع . وأغلب الظن أنّ حسين باصديق وغيره من الكتاب والمؤرخين المحدثين والباحثين الحاليين من اليمنيين لم يلتفتوا إلى رمضان ومظاهره في المجتمع اليمني وغيره من الأعياد الدينية بسبب كونها من الأمور المعتادة في حياتهم أو من الأمور الطبيعية التي لا تحتاج إلى تدوينها ولا التعليق عليها , ويبدو أنّ ذلك حدث أيضاً مع المؤرخين القدامى .[c1]الرواية الشفوية[/c]والحقيقة أنّ المصادر التراثية تتكئ على أساسين هما التاريخ المكتوب أو المقروء من ناحية والرواية أو الروايات الشفوية من ناحية أخرى ، والجدير بالذكر أنّ المؤرخين بصورة عامة لم يلتفتوا إلى الرواية الشفوية بأنها من المراجع المهمة في كتابة التاريخ من فترة ليست طويلة ، وكانوا يأنفون من الإطلاع على الروايات الشفوية ، ويظنون أنها ضرب من العبث ولا يمكن الاعتماد عليها في كتابة التاريخ ولكنهم يرون أنّ المؤلفات التاريخية التقليدية المكتوبة هى التي ينبغي الاستناد عليها في كتابة التاريخ فقط . ولكن الدكتور قاسم عبده قاسم يرى أنّ الرواية أو الروايات الشفوية تعد مرجعاً مهماً من مراجع التاريخ التي يجب بل ويتوجب الاعتماد عليها ولا تقل أهميتها عن التاريخ المكتوب بسبب أنّ التسجيل الشعبي يعبر عن آمال وآلام الناس أو بعبارة أخرى هو مرآة صادقة تعكس بوضوح مشاعر وأحاسيس الناس اليومية التي لم يدونها التاريخ المكتوب المجرد من العواطف والمشاعر. ويضيف قاسم عبده أنّ الرواية الشعبية تسد الفراغ الذي لم تتناوله المراجع التاريخية التقليدية ، وأنّ الرواية الشفوية هي جزء من نسيج الموروثات الشعبية من خلالها نستطيع أنّ نتعرف ونفهم بعمق روح حياة أهل العصر الحقيقية . وفي هذا الصدد ، يقول : “ الموروثات الشعبية مصدر مهم للمؤرخ الذي يدرس التاريخ الاجتماعي ، أو النتاج الثقافي لأمة من الأمم لأنها تعبر عن هذه الجوانب العاطفية والوجدانية والأخلاقية “ .[c1] صفحة مفقودة[/c]والحقيقة أنّ عدن كانت محط اهتمام العديد من الرحالة على سبيل المثال الرحالة المسلم ابن بطوطة المتوفى ( 779 هـ / 1378م ) الذي وصف أهل عدن بالطيبة والكرم ، ووصف كذلك الرخاء الذي كان يسودها في عصر الدولة الرسولية ( 626 ـــ 858هـ / 1228 ـــ 1453م ). وهناك بعض الرحالة الغربيين في العصر الحديث والمعاصر تحدثوا عن عدن أمثال الرحالة الألماني هانز هولفريتز الذي قام بزيارة اليمن في سنة 1934م ، وذكرها في صفحات كتابه (( اليمن من الباب الخلفي )). ونقل عنها انطباعات جميلة , وخاصة لحج الخضراء , وكذلك كتبت عنها الطبيبة الفرنسية كلودي فايان في كتابها (( كنت طبيبة في اليمن )) التي خدمت في اليمن سنة 1951م ، ومكثت بها قرابة العام ونصف العام ، وقبلهما زار الشاعر الفرنسي المشهور آرثر رامبو مدينة عدن في أواخر القرن التاسع عشر وتحديدًا في سنة 1880م واستقر بها قرابة أربع سنوات وغيرهم من الرحالة والكتاب العرب والغربيين، لكنهم لم يذكروا المناسبات والأعياد الدينية كشهر رمضان في عدن بصورة خاصة واليمن بصورة عامة باستثناء الطبيبة الفرنسية التي ذكرناها قبل قليل التي التقطت صوراً سريعة عن رمضان في صنعاء . ونستخلص من ذلك أنّ عدن ( عين اليمن ) ــــ على حد تعبير وليم هارولد إنجرامز المستشار المقيم البريطاني في المكلا ( 1937 ـــ 1944م ) ــــ ورغم الشهرة الواسعة التي اكتسبتها لكونها ميناء مهماً يربط بين الشرق والغرب وبعبارة أخرى يربط بين البحر الأحمر والمحيط الهندي ، والمدخل الحقيقي للبحر الأحمر الجنوبي ـــ كما قلنا سابقاً ـــ ، فإن تاريخها الاجتماعي مثله مثل باقي المدن اليمنية المهمة كصنعاء ، تعز ، والحديدة وغيرها من المدن لايزال في حاجة ماسة إلى نفض الغبار عنه والذي يعد صفحة مفقودة حتى الآن . [c1]عــــدن والصوفيـــة [/c]ولسنا نبالغ حين نقول إننا إذا أردنا أنّ نفهم ونتعرف على المظاهر والأجواء الرمضانية في عدن في تاريخها الإسلامي ، فإنه من الضرورة أنّ نلقي أضواء على الحياة الصوفية في هذه المدينة الراقدة في أحضان البحر . فقد ذكرت الروايات التاريخية بأنّ عدن كانت تمور مورًا بالطرق الصوفية المختلفة في تاريخها البعيد على سبيل المثال : الشاذلية ، الأحمدية ، والرفاعية ، والقادرية بالإضافة إلى الطرائق الصوفية المحلية . وكانت أضرحة شيوخ الصوفية منتشرة في كثير من مناطق مدينة عدن القديمة . وهذا ما أكده الأستاذ الباحث عبد الله محيرز بأنه عثر في سوق أبان ــــ وهو يعد من أقدم الأسواق التجارية في عدن بل واليمن ــــ بعيد الاحتلال الإنجليزي للمدينة بفترة قصيرة على أضرحة ، وقباب وقبور للصوفية وذلك بناء على ما ذكره أحد الضباط الإنجليز الذي عاصر الكابتن هينس ، في حملته على عدن سنة 1839م ، فقال : “ . . . إنه ( أي حي أبان ) مليء بالأضرحة والقباب والمقابر “ . وفي الخساف بالقرب من العقبة أو باب عدن ، كان يوجد كذلك الكثير من القبور والمشاهد والأضرحة لمشايخ الصوفية ، وكانت حتى وقت قريب ماثلة للعيان ، ولكن توسع العمران أخفى ملامحها . وكيفما كان الأمر ، فإن الطرق الصوفية تعد من المصادر التاريخية الرئيسة في التعرف على مظاهر الحياة الاجتماعية في رمضان في ثغر عدن . [c1]حي الشاذلية[/c] ويذكر محيرز عن حي الحسين الذي يعد أقدم الأحياء الشعبية في عدن القديمة بأنه كان مقرًا للطريقة الشاذلية . وفي هذا الصدد ، يقول بما معناه : “ بأنّ حي حسين الأهدل ــــ وهو أحد مشايخ الصوفية في عدن ــــ وسمي الحي باسمه ظهر على سطح التاريخ في أواخر حكم الدولة الطاهرية ( 858 ـــ 933هـ / 1453هـ / 1528م) ، وكان يسمى قديما بــحي الشاذلية. وأغلب الظن أنّ الحي سمي بذلك الاسم بسبب وجود الطريقة الشاذلية الصوفية والتي كان لها نفوذ وحضور قوي في هذا الحي إلى جانب الطرق الصوفية الأخرى التي كانت منتشرة ومنها الطريقة الأحمدية ، التي انتقلت إلى مدينة الشيخ عثمان بعد فترة من الزمن ، بعد أنّ رأت الأخيرة أنها لن تستطيع أنّ تزاحم الطريقة الشاذلية في عقر دارها في عدن القديمة التي ثبتت أقدامها فيها “ . وتذكر الروايات الشفوية أنّ حي الحسين ، كان في ليالي رمضان شعلة من نور حيث تضاء القناديل في كل مكان فيه . ويذكر الباحث الأستاذ عبد الله محمد الحبشي في كتابه (( الصوفية والفقهاء في اليمن )) أنّ : “ الشيخ أبوبكر عبد الله العيدروس ، كان من أكابر الأولياء واشتهر بالكرم ، فكان يذبح في سماطه ( مائدته ) في كل يوم في رمضان نحو ثلاثين كبشا ً . . . وكان يحسن إليه سلاطين الدولة الطاهرية وبعض أمراء الصومال، توفي سنة 914هـ ( 1508م ) . [c1]رؤية هلال رمضان[/c]وتذكر الروايات الشفوية التي تناقلها الناس من جيل إلى آخر أنّ أول مظاهر شهر رمضان يبدأ مع رؤية هلال رمضان بعيد صلاة المغرب مباشرة ، حيث يتجمع الناس على تباين فئاتهم الاجتماعية ، واختلاف أعمارهم ، فيتجهون صوب ساحل صيرة في عدن ينتظرون أنّ يعلن العلماء والفقهاء ثبوت هلال رمضان ، وما أنّ يعلن عن ثبوته حتى يسري الفرح والسرور في قلوب الناس ، وتضاء القناديل في السفن الشراعية على اختلاف أحجامها ، وأشكالها ، فيتوهج الشاطئ بالأضواء الباهرة , ويتلألأ وجه مياه البحر كأنّ النجوم سقطت من قبة السماء على صفحة وجهه . وعلى أية حال ، وبمجراً أنّ يعلن عن رؤية هلال رمضان ، فإن المدينة يصير ليلها نهاراً ، ونهارها ليلاً . وترى الصيادين بجانب شاطئ بحر صيرة يرقصون رقصات جماعية على شكل حلقة دائرية تسمى ( الغية ) تعبيرًا عن غبطتهم وبهجتهم بقدوم رمضان الكريم . وينشدون الأغاني ، قائلين : [c1]يا قريب الفرج يا قريب يا الله مع الصابرين يا قريب ليال رمضانيــــة[/c]ويعود الأهالي إلى أحياء عدن , وفي الأحياء تقرع الطبول ، وتعزف المزامير ، ويصدح صوت المنشدين بالمدائح النبوية . وتخرج مختلف الطرق الصوفية الشاذلية ، الأحمدية ، القادرية ، والرفاعية وغيرها من الطوائف الصوفية إلى الأحياء الشعبية كحي الحسين ، وحي القاضي وغيرهما بملابسهم البيضاء وعليها الوشاح الأخضر، فيلوحون بالأعلام الخضراء والتي هي شعارهم لكون اللون الأخضر هو شعار السادة العلويين الذين ينتسبون إلى آل البيت ، ويطوفون في شوارع المدينة بصورة منتظمة على إيقاع الطبول والمزامير ، ويرددون الأناشيد الدينية ترحيبا بشهر رمضان الكريم فضلاً عن المدائح النبوية ـــ كما قلنا سابقاً ــــ . ويظل هؤلاء الأتباع والمريدون للطرق الصوفية ينشدون الأهازيج الدينية حتى منتصف الليل . وبعد منتصف الليل تفتح أبواب المساجد وتضاء بها القناديل فتقام فيها صلاة التراويح حتى وقت السحور . وفي التكية أو التكايا أو الزوايا أو الأربطة الخاصة بالصوفية يتجمع مريدو وأتباع الطرق الصوفية المختلفة ، فيتلون القرآن . ويسبحون ، ويحمدون الله على قدوم رمضان شهر الخيرات والبركات ، والرحمة ، والمودة ، ويدعون الله سبحانه وتعالى أنّ يتقبل صيامهم. وفي شهر رمضان يحرص أصحاب الطرائق الصوفية المتنوعة على أنّ يظهروا شعائرهم الخاصة بهم . وتتنافس كل من الطرائق الصوفية في رمضان بإظهار عطفها وكرمها على الفقراء والمساكين وذلك من خلال تقديم وجبات السحور لهم ، وتوزيع الملابس عليهم وبذلك يكسبون الكثير من الأتباع والمريدين لطريقتهـم بغية أنّ يكون لها صوت مسموع بين الطرائق الصوفية الأخرى .[c1]موائـــد الرحمــــن[/c]ومن المظاهر الرمضانية التي كانت منتشرة في عدن في التاريخ البعيد أو في التاريخ الإسلامي وتحديداً في عصر الدول التي تعاقبت على حكمها، هي اعداد موائد الإفطار للفقراء والمساكين، وكانت تسمى بموائد الرحمن ، وكان الحكام ، و التجار الأثرياء ، والوجهاء ، وبعض البيوت المشهورة والغنية هم الذين يتكفلون بموائد الإفطار يوميا حتى نهاية شهر رمضان . وتصف الرواية أو الروايات الشفوية، بأنّ تلك الموائد كانت تحتوي على الثريد ، والخبز، والحلوى بمختلف أنواعها ، وأشكالها ، وكانت بحق أطباقاً دسمة ، فيقوم الفقراء والمساكين من موائد الرحمن ، وقد امتلأت بطونهم من كل ما طاب ولذ , وقد ارتسمت على وجوههم ابتسامة عريضة حامدين شاكرين الله على ما أعطاهم من هذه النعم. ومثلما كانت موائد الإفطار تمد في داخل المساجد ، كانت تمد أيضا في طرقات الأحياء الشعبية .[c1]رمضان في عيون أجنبية[/c] ويصف أحد الرحالة الغربيين وهو Wrest الذي زار عدن في النصف الثاني من القرن التاسع عشر( 1860م ), وقد صادفت زيارته شهر رمضان ، فيقول عن مظاهره وعاداته وتقاليده ، في عدن ، نورد ما ذكره بمعناه نظرًا إلى أن وصف عدن في رمضان جاء على رؤية أجنبية , فيقول بما معناه : “ مدينة عدن في شهر رمضان الذي يقدسه المسلمون تقديساً كبيراً تسودها أجواء من التكافل الاجتماعي بأروع صوره ، و ترى الناس البسطاء ( الفقراء والمساكين ) قبل الغروب يتحلقون حول موائد الطعام ، وقد مدت على طرقات الأحياء الشعبية. وترى السعادة مرسومة على الناس البسطاء وكذلك الأغنياء ، تشعر بأنّ الناس على قلب رجل واحد “ . ويتعجب Wrest بأنّ روح المودة والرحمة التي كانت تسود المجتمع في عدن ، كان المجتمع الأوربي يفتقر إليها .[c1]مجالـــــس القـــات[/c] ويصف Wrest مجالس القات التي كانت تقام في المساء بالمدينة ، فيقول : “ وفي المساء وتحديدا بعد أداء صلاة العشاء والتراويح التي يؤديها الناس جماعة في المساجد . ويلفت نظرك كثرة القناديل المضاءة في كل ركن من أركان المساجد ، فتشعر بروحانية كبيرة تسري في المسجد ، وبعد الفراغ من أداء الصلاة يتجهون أفرادًا وجماعات على تباين مشاربهم الاجتماعية إلى سوق القات وبعدها يتحلقون في أماكن تسمى ( مجالس القات)، فيمضغون القات ، ويتحدثون في تلك المجالس أو ( المبارز) في الكثير من الأمور الاجتماعية ، والثقافية حتى وقت متأخر من الليلطس. ويصف الرحالة Wrest مجالس القات ، بأنها أشبه بصالونات الأدب والثقافة التي كان يقيمها الأمراء والبارونات في المدن الأوروبية المشهورة”. [c1]أطباق الحلوى المصرية [/c]وتذكر الروايات الشفوية أنّ مدينة عدن اشتهرت بصناعة أطباق الحلوى المصرية المتنوعة في عهد بني زريع الذين استمروا في حكم المدينة من سنة ( 532 ـــ 569هـ / 1137 ـــ 1173م ) أي أنهم حكموها أكثر من 30 عاماً ، وكانوا من عمال الصليحيين في عدن ولحج ، قبل أن ينسلخوا عن الدولة الصليحية في عهد حكم الملكة سيدة بنت أحمد الصليحي . وكانت الدولة الصليحية ( 439 ــ 532هـ / 1047 ـــ 1137م ) امتدادًا للدولة الفاطمية في اليمن . وكانوا يترسمون خطواتهم في كل شيء ، ويدورون في فلكهم أينما داروا ، فكان دعاة الصليحيين يطبقون تقاليدهم وعاداتهم بحذافيرها في اليمن . وهذا ما أكده مؤرخنا الكبير القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ، قائلاً : “ . . . دعاتها ( أي دعاة الدولة الصليحية ) ترسموا عادات وتقاليد الحكام الفاطميين ( العبيديين ) ــــ نسبة إلى مؤسس الدولة الفاطمية عبد الله المهدي ــــ بحذافيرها بسبب التبعية والولاء لهم في المذهب والعقيدة ، فمنهم كانوا يستمدون سجلات ( مراسيم) التعيين لهم ، ومنهم كانوا يأخذون الألقاب الرسمية الممنوحة لهم ، والتي يتعين على الناس إذا كتبوا إليهم أنّ يخاطبوهم بها “ . ويضيف مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع : “ فلا جرم إذا صاروا ( أي الصليحيين ) تبعا لهم يدورون في فلكهم ، ويلتزمون بتعاليمهم ، ويأتمرون بأمرهم ، وينتهون بنهيهم ، ويقلدونهم في شؤونهم كلها ، وما ذاك إلا لأنهم امتداد لنفوذهم في اليمن “ . ومثلما دخلت عادات وتقاليد الفاطميين في مراسيم الحكم ، فكان من الطبيعي ، أن تدخل أطباق الحلوى المصرية بمختلف أنواعها إلى اليمن وعدن وغيرها من المدن لكونها من التقاليد الفاطمية الاجتماعية في صناعة أطباق الحلوى، وقد اشتهر بها الفاطميون قبل مجيئهم من بلاد المغرب إلى مصر ـــ كما تذكر الروايات التاريخيةــــ. وهناك أيضاً أسباب أخرى أدت إلى اشتهار صناعة أطباق الحلوى المصرية والشامية في عدن وهي أنه كان بها من الأجناس المختلفة: المصرييــــــن والشاميين و المغاربة، و ساحل شرق أفريقيا ، والهند وفارس , والحبشة وغيرها من الأجناس ، وكانت تلك الأجناس تحمل تقاليدها وعاداتها وتراثها الاجتماعي المتمثلة بالمأكولات التي اشتهرت بها في مسقط رأسها إلى عدن . وقيل أنّ أثرياء عدن ، جلبوا معهم من زيارتهم إلى مصر الفاطمية أعداد كبيرة من صانعي الحلوى وإزاء هذا صارت عدن من أهم المدن اليمنية في صناعة أطباق الحلوى المصرية و الهندية و الفارسية . وقيل إنّ السيدة بنت أحمد الصليحية المتوفاة سنة ( 532 هـ / 1138م ) آخر ملوك الدولة الصليحية ، كانت تجلب إليها أطباق الحلوى المصرية من عدن وخصوصا في شهر رمضان . ويفهم من ذلك أنّ عدن تمتعت بشهرة عريضة في يوم من الأيام بصناعة الحلوى المصرية إلى جانب الحلوى الشامية والفارسية والهندية . وكان يزداد الإقبال عليها في شهر رمضان ، والأعياد والمناسبات الدينية الأخرى . [c1]سيرة توران شاه [/c]في سنة 569هـ / 1174م ، جرد السلطان صلاح الدين الأيوبي المتوفى ( 589هـ / 1193م ) حملة عسكرية بقيادة أخيه توران شاه المتوفى ( 576هـ / 1181م ) إلى اليمن ، وتمكنت الحملة الأيوبية من أنّ تقضي على البقية الباقية من النفوذ الفاطمي في اليمن وذلك من خلال القضاء على بقايا الصليحيين الذين كانوا امتدادًا لهم في المنطقة من ناحية، وإعادة اليمن مرة أخرى إلى حوزة الخلافة العباسية من ناحية ثانية، وبسط الأيوبيون سيطرتهم على موانئ اليمن وأهمها ميناء عدن الذي كان يدر أموالا ً كبيرة مما يساعد على مد الأيوبيين بالأموال الهائلة لمواصلة الحروب ضد الصليبيين في بلاد الشام التي كانت تكلف الخزانة الأيوبية أموالاً ضخمة من ناحية ثالثة . ولذلك اهتم الأيوبيون بميناء عدن اهتماما كبيراً ، فصار يرفد الخزانة الأيوبية في مصر بالذهب والفضة والأموال الهائلة . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، قائلاًً : “ ومن المعروف أنّ الأيوبيين ، قد اهتموا بتنمية ميناء عدن بعد دخولهم إلى اليمن, فارتفعت إيراداته إلى أربعة أضعاف ما كانت عليه في العهد السابق القديم “ . واستمر الأيوبيون في حكم اليمن قرابة نصف قرن من الزمن . وكيفما كان الأمر ، تذكر الروايات التاريخية أنّ عدن سقطت في يد توران شاه في يوم الجمعة 20 ذي القعدة سنة ( 569هـ / 1174م ) , وعندما دخلها العسكر الأيوبي ، بدؤوا بنهب وسلب المدينة ولكن توران شاه منعهم ، وقال : “ ما جئنا لنخرب البلاد ، وإنما جئنا لنملكها وننتفع بدخلها ، وقد سار توران شاه في الناس سيرة حسنة عادلة ، فأحبوه وأقام فيها أياما “ .[c1]رمضان في عهده[/c] وتذكر السيرة الشعبية أنّ توران شاه مكث في عدن فترة من الوقت وصادف ذلك دخول شهر رمضان الكريم ، وفي هذا الشهر الفضيل بذل توران شاه الكثير من العطاء والكرم والخيرات . ووزع العطايا على الفقراء والمساكين ، والمحتاجين من أهل عدن . وقيل إنه كان يشرف بنفسه على إعداد موائد الرحمن التي كانت تمد في الأحياء الشعبية الفقيرة من المدينة . وتذكر بعض الروايات الشفوية، أنّ توران شاه ، كان يطلب من الطباخين المصريين والشوام الذين أصطحبهم معه في الحملة إعداد أطباق الحلوى المصرية والشامية بكميات وفيرة ، وتوزيعها على الفقراء ، والمساكين ، والوجهاء من أهل البلد . وتذكر الروايات الشعبية أنه عندما سمع أهالي عدن بأنّ توران شاه ينوي مغادرة المدينة والسفر إلى مصر ، ضجوا بالبكاء ، والنحيب ، وحاولوا أنّ يثنوه عن الرحيل .وعلى أية حال تذكر الروايات أنّ توران شاه غادر عدن سنة ( 571هـ / 1176م )، متوجها ً إلى الشام حيث توفي فيها سنة ( 571هـ / 1181م ) .[c1]سيرة السلطان عامر [/c]أفاضت السير و الحكايات الشعبية في ذكر مناقب ومآثر السلطان عامر بن عبد الوهاب المتوفى مقتولا سنة ( 923هـ / 1517م ) والذي أجمعت كتب التاريخ على أنه كان أعظم سلاطين الدولة الطاهرية التي سيطرت على عدن والكثير من أجزاء اليمن . وتذكر الروايات التاريخية أنّ الدولة الطاهرية استمرت في حكم اليمن أكثر من 80 عاما . هذا وقد تقلد السلطان ( عامر ) أمور الحكم في ( 894هـ / 1489م ) وكانت مدة حكمه 29 عاما شهدت اليمن في عهده ازدهاراً واسعاً على مختلف الجوانب . وتذكر المراجع التاريخية أنّ حركة التجارة في عدن في حكمه كانت تمور مورًا بالنشاط بسبب أنه كان حريصا على أنّ يشرف بنفسه على سير الحركة التجارية في ميناء عدن . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، بقوله : “ . . . كان السلطان عامر بن عبد الوهاب يتوجه أحيانا ً إلى (( عدن )) في موسم الرياح ليشرف بنفسه على خروج القافلة البحرية إلى الهند “ . حقيقة أنّ المصادر التراثية لم تذكر المظاهر الرمضانية في عدن في أيام حكمه , ولكن الحكايات والسير الشعبية تروي بأنّ السلطان ( عامر) ، كان يبدي اهتماما بالغ بقدوم شهر رمضان من خلال الاحتفاء والاحتفال به ، وكان يتجه بنفسه إلى مشايخ كبار الصوفية في عدن ليشاركهم في كثير من الأحيان في حلقات الذكر التي كانت تقام في ليالي رمضان ويوزع عليهم الهدايا والعطايا . وكان السلطان ( عامر ) يقيم موائد الإفطار للعامة من الفقراء والمساكين والمحتاجين والمعوزين طوال شهر رمضان ، ويقيم كذلك الموائد لمشايخ الصوفية ، والوجهاء ، وكبار الدولة في دار السعادة بجانب حقات المطل على بحر صيرة . [c1]الهوامش : [/c]د . قاسم عبده قاسم ؛ بين التاريخ والفولكلور ، الطبعة الثانية 2001م ، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ج . م . ع .القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ أعراف وتقاليد حكام اليمن في العصر الإسلامي ، الطبعة الأولى 1994م ، دار الغرب الإسلامي ــــ بيروت ـــ لبنان ـــ .عبد الله محمد الحبشي ؛ الصوفية والفقهاء في اليمن ، سنة الطبعة 1396 هـ / 1976م ، مكتبة الجيل الجديد ـــ صنعاء ـــ .عبد الله أحمد محيرز ؛ الأعمال الكاملة ، 1425هـ ـــ 2004م ، الجمهورية اليمنية ـــ وزارة الثقافة والسياحة ـــــ صنعاء ــــ . حسين سالم باصديق ؛ في التراث الشعبي اليمني , الطبعة الأولى 1414 هـ / 1993م ، إعداد وتوثيق مركز الدراسات والبحوث اليمني ـــ صنعاء ــــ .الدكتور محمد كريم إبراهيم الشمري ؛ عدن دراسة في أحوالها السياسية والاقتصادية 476 ــــ 627 هـ / 1083 ــــ 1229م . الطبعة الثانية 2004م ، إصدارات جامعة عدن .
|
تاريخ
عـــــــدن في رمضان
أخبار متعلقة