تدور منذ بضع سنوات حوارات ومساجلات فكرية ونقد متبادل في الساحة السعودية، وخصوصاً في الصحف والفضائيات.. وربما أكثر ما يدور هذا الحوار الحامي هو بين التيارات الإسلامية والليبرالية....... وكثيراً ما تكون هذه الحوارات صحية على الرغم من الحدة الزائدة في بعض الحالات والخروج عن الموضوعية في بعضٍ آخر. ومنذ بضعة أسابيع ظهرت أقلام تتذمر وتنتقد بشدة وتتهم الأصوات الليبرالية أو التنويرية باتهامات متنوعة، خصوصاً بعد علو صوت التنويريين في الإعلام السعودية وإذا جاز لي أن ألخص هذه الاتهامات بثلاثة، ستكون على النحو التالي: الأولى هي القول بتطرف الليبراليين ومصادرتهم لأفكار الآخرين، مما حدا ببعض الكتاب إلى تسميته إرهاباً!! والثانية، هي اتهام الليبراليين بعدم الاهتمام بهموم المواطن اليومية المعيشية الاقتصادية والخدمات التي يحتاجها من بلدية وصحية، مقابل التركيز على مناكفة الإسلاميين وجلب أفكار غريبة على مجتمعنا. والثالثة هي القول إن الليبراليين يتصيدون أخطاء المؤسسات الدينية (خصوصاً هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، بحجة حقوق الإنسان، ويتناسون الأخطاء الحقوقية في بقية المؤسسات. بالنسبة للنقد الأول واتهام بعض الليبراليين بالتطرف الفكري ومصادرة آراء الآخرين، فهو نقد مقبول موضوعياً، إذا تمكن الناقد من رصد هذا التطرف المزعوم، لكن أن يأخذ النقد وجهة خطيرة باتهام الليبراليين بالإرهاب، فذلك تشويه للنقاش سواء كان حواراً أو مساجلة محتدمة. فمصطلح (إرهاب) يستدعي هذه الأيام حالة أمنية خطيرة، الحوار بريء منها، إلا ما يكون من منظرين وشيوخ للإرهاب يدعمونه أو يبررون العمليات الإرهابية، وتلك بعيدة كل البعد عن الليبراليين.. وهنا أخشى أن يكون الزج بهذا المصطلح محاولة يائسة لتأليب السلطة والمجتمع على التنويريين. كما أن استدعاء هذا المصطلح يعمل (عن غير قصد) على نوعٍ من التطبيع لفكرة الإرهاب، وكأنه مسألة طبيعية يتم التعاطي معها بالحوار.. إنها (عن غير قصد) تحسين لصورة الإرهابيين من الطبيعي أن يتم الاعتراض على أفكار ليبرالية ونقد آراء بعض الليبراليين، لكن من المدهش حقاً، أن يصل ضيق السعة النقدية لاتهامات عمياء وخطيرة مثل تلك.. إنه ينم عن أناس اعتادوا على نوعية معينة من التيارات والأفكار، وليس في مقدورهم التعاطي مع الأفكار الجديدة وأساليب الحوار الجديدة، سواء بالاتهامات العمياء.. وهو ينم أيضاً، عن أناس اعتادوا على القمع للفكر الآخر والخضوع لأفكار معينة، حيث لم يتمكنوا من استيعاب معنى مرحلة الإصلاح ورفع سقف الحريات ووجود مركز وطني للحوار الفكري.. إلخ. مثلاً، لم يعتادوا أن يقوم كاتب بنقد لفتوى شيخ أومشايخ، بل اعتادوا على إعطاء قدسية لبعض المشايخ وقدسية لفتاويهم، ولا يستطيعون فهم أن أولئك المشايخ الفضلاء مجتهدون، وأن من حق الكتاب المثقفين محاورتهم ونقدهم وبالانتقال للاتهام الثاني بأن التنويريين لا تعنيهم هموم المواطن اليومية الخدماتية، بل يركزون على التنظير الفكري وحقوق الإنسان النظرية ومناكفة الإسلاميين وجلب أفكار غريبة على مجتمعنا، فهو اتهام يحول مسار النقاش والحوار الفكري تماماً من وجهته الثقافية والحقوقية إلى وجهة الهموم اليومية الخدماتية، فالأخيرة مسألة تقنية يتعرض لها كافة الكتاب التنويريين وغيرهم، لكن المرتكز الفكري الأساس للتنويريين هو مرتكز التحرر وحقوق الإنسان، خصوصاً حرية التعبير والحرية الشخصية، وتلك هي نقطة الخلاف مع الآخرين، وليست المسائل الخدماتية من توفر الماء أو الكهرباء أو ارتفاع الأسعار فتلك لا خلاف فيها بين التيارات الفكرية، وبالتالي لا يمكن تمييز التيارات المختلفة في مواقفها من تلك الخدمات التقنية وإذا وصلنا للاتهام الثالث بأن الليبراليين يتصيدون أخطاء المؤسسات المحافظة والدينية (خصوصاً هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، بحجة حقوق الإنسان، ويتناسون الأخطاء الحقوقية في بقية المؤسسات.. مثلاً يقال لماذا يتم التركيز على أخطاء موظفين في هيئة الأمر بالمعروف ولا يركز على أخطاء الموظفين في إدارة المرور أو الشرطة؟ وعلى الرغم من وجاهة السؤال من الناحية الشكلية إلا أنه يفتقد للموضوعية، فجزء أساس من طبيعة عمل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو عقدي فكري يمس تصرفات وسلوكيات وممارسات الناس الجماعية أو الفردية الشخصية والتدخل في تلك السلوكيات، وتلك لها علاقة مباشرة ووطيدة بمسألة حقوق الإنسان، بينما عمل المؤسسات الأمنية أو المؤسسات الحكومية الأخرى هو نظامي تقني يمس أنظمة إجرائية متفق عليها لتسيير حياة الناس، ومن يتجاوز هذه الأنظمة فإنه يعطل تسيير حركة المجتمع.. وبطبيعة الحال فإن التنويريين والحقوقيين سيركزون على تلك الأعمال التي تمس المسائل الفكرية ومعتقدات الناس وحقوقهم الشخصية أكثر من تلك التي تمس المسائل التقنية النظامية والتي لا علاقة مباشرة لها بالمسائل الفكرية أو التصرفات الشخصية.. وعلى الرغم من ذلك فإننا نرى أن هناك انتقادات من التنويريين لكثيرٍ من المؤسسات الرسمية غير الدينية إذا حدثت تجاوزات حقوقية واضحة أو إذا كانت هناك أنظمة تحتاج إلى تطوير أو إعادة نظر نحن في مرحلة إصلاح بما تتضمن من مصارحة ومكاشفة وشفافية وحوار وطني وإدارة الاختلاف، يتم خلالها الكثير من المساجلات والجدل والاحتدام، وقد تشمل اتهامات مجانية بائسة لكل طرف تجاه الطرف الآخر، إلا أن الأهم هو أن يبقى المسار الرئيس للحوار ضمن سياقه الصحي وفي إطاره الموضوعي، وذلك لن يتم إلا بالإدراك والاقتناع بحق وجهة النظر الجديدة بالتعبير عن نفسها، وحق المعترضين عليها في نقدها موضوعياً ومنهجياً وليس في التجني عليها لمجرد عدم الاعتياد عليها.. والمنهجية لا تمنع أن الخلاف قد يكون حاداً ومتأزماً، ولا تمنع من انتقاد من نختلف معهم في طرق تفكيرهم وأدواتهم المعرفية، بل لا يخلو الأمر من الدخول في الشخصي عبر تحليل الشخصية منهجياً، وليس عبر القدح والذم والنقمة، ولكن كل ذلك يبقى في نهاية الأمر ضمن إطار الموضوع والفكرة المختلف عليها حين اختلف معك في الأفكار، فهذا لا يعني ألا أنصف أفكارك.. فالغاية لا تبرر الوسيلة.. من حق كل منا الاعتراض أو الاختلاف في وجهة النظر، ولكن هذا الحق يتبعه مسؤولية الالتزام بالمنهج الذي يضعه كل منا لنفسه، والذي يطالب الآخرين بالالتزام به.. فإذا كان الإنصاف ضرورياً، فإن من أساسيته هو الالتزام بالمنهج العدلي (الموضوعي) الذي يضعه كل إنسان لنفسه (قانونه الخاص).. في تلك الحالة ستتاح للعقول بأن تتفتح، وسيتاح للحوار أن يضيء الجوانب المعتمة والملتبسة بين الأطراف المتحاورة. [c1]* نقلاً عن صحيفة الجزيرة السعودية[/c]
هجمة على التنويريين
أخبار متعلقة