إننا ندير الحوار بمفاهيم ومناهج أو برامج تسد أبوابه، بقدر ما تفضي إلى تمزيق نسيج المجتمعات العربية. وأبرز هذه المفاهيم هو مفهوم (التسامح) الذي يلغّم الحوار قبل أن يبدأ، لأنه يعني التساهل مع الآخر، ولكن مع الاعتقاد بخطئه أو بالانتقاص من إيمانه وربما من إنسانيته. وليعذرني القارئ إذ أكرر القول بأن (التسامح) هو مجرد هدنة بين فتنتين، سواء في ما يخص العلاقة بين السنة والشيعة أو بين المسلمين والمسيحيين) هذه المقدمة اقتطفتها من مقالة بعنوان {لماذا تندلع الحرب المذهبية وتستيقظ الفتنة النائمة؟« للكاتب والمفكر(علي حرب) مجلة المجلة 3/2/2007لقد جال في خاطري سؤال يحضرني دائما، وهو أننا إنما نسعى للحوار بين بعضنا وبيننا وبين الآخر بغية التعرف والفهم حتى نصل إلى الإنصاف والعدل فيما بيننا، لكننا حين نتأمل آيات القرآن الكريم فسنرى أننا مأمورون بالعدل والإنصاف بشكل مطلق، تحاورنا أم لم نتحاور، وتناقشنا أم لم نتناقش، وفهمنا بعضنا أم لا.نحن مأمورون بالعدل بين الناس بعيدا عن معتقداتهم وأديانهم ومذاهبهم، إن مجرد إنسانيتهم كافية ووافية في ضرورة انبعاثنا لإقامة العدل والإنصاف بيننا وبينهم، في مقابل ذلك هنالك من يشكك في كوننا مأمورين بالحوار مع الآخرين؟ فآيات القرآن الكريم ليست لها دلالة مباشرة على هذا المعنى، بل إن قسما من هذه الآيات ليست في سياق المبادرة للحوار، بل هي في صدد التجاوب معه إذا صدر من الآخرين {وان جادلوك فقل الله اعلم بما تعملون«.على العكس من ذلك تماما الآيات المتكاثرة في العدل والقسط بين الناس، والتي تدل على أمر الهي واضح وباعث للإنسان باتجاهه {يا أيها الذين امنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى واتقوا الله ان الله خبير بما تعملون} {إن الله يأمر بالعدل والإحسان«، {يا أيها الذين امنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين».ثم إن أقصى ما يقال عن الحوار هو أنه مفردة أخلاقية قيّمة غايتها الوصول إلى المعرفة والعلم بما عند الآخر وتقويم ما تحوزه الذات بغية الوصول للمشتركات، إلى أن نصل إلى ما نفتقده بيننا وهو العدل وإنصاف الآخر، في الجهة المقابلة لا يمكن التعامل مع الآيات القرآنية الباعثة نحو العدل، والمتوعدة للظلم والظالم باعتبارها في منزلة المفردة الأخلاقية، خصوصا في مثل النص القرآني السابق {إن الله يأمر بالعدل والإحسان».أكتب هذا ليس كرها للحوار ولا للانتقاص منه، ولكن لأنه كما أظن لم يتحول إلى قوة حقيقية تبعثنا نحو احترام بعضنا، بل ربما أصبح بديلا عن صناعة الواقع المتعاون والمتعاضد، وحولنا من الأحداث والمنصات الحوارية ما تخفي تحت طاولتها الكثير من الصراعات والتشنجات، لقد تعامل كثيرون مع الجلسات الحوارية كفقاعات إعلامية، وتعامل معها آخرون للاستعراض، واستفاد منها قسم آخر لتسجيل النقاط ضد الآخر.هناك نقطة أخرى تتحرك في نفسي، وأرى لها من الأهمية ما تستحق وهي ضرورة أن تتوجه الكثير من الجهود الدينية والثقافية والفكرية لتعزيز ثقافة الإعذار لتكون لها الأولوية في الكتابة والخطابة والكثير من الدراسات التي نعدها لأجيالنا وأبنائنا.يبدو لي أن إعسارنا لبعضنا أوسع لنا من تسامحنا مع بعضنا، لأنه يحمل معنى القبول النفسي والرضا الداخلي بأن يمارس الآخر تصوراته وقناعاته وهو غير منتقص في أنفسنا وغير محتقر في وجداننا، له الاحترام منا ولنا حق الاختلاف معه، له القبول منا ولنا تأكيد قناعاتنا في ناشئتنا بكل مناسبة وإن عارضته، له كماله وتقديره، ولنا أن لا نتابعه في ما يذهب إليه بل نحصن أجيالنا وأنفسنا بإيجابية وعقلانية.بقي أن أشير إلى أن المعذور هو من استنفد جهوده في سبيل الحق والحقيقة، وأعمل تفكيره ليكون على الجادة، وبذل ما بوسعه ليصل إلى الصواب، لكن الطرق قد انقطعت به هاهنا، وأسلمته قدراته وتحليلاته إلى هذه النقطة أو تلك، فهو يعمل من خلال اجتهاد لا هوى وبحث وعناء لا تهاون واستهتار، ودليل وحجة لا أكاذيب وأباطيل، ومثل هذا حقيق بأن يُحترم ويُكبر ويعذر.إننا لن نجد عملا يصلح أمورنا أفضل من أن نعذر بعضنا بعضا فيما تفارقنا فيه فهو الطريق الأمثل لتستقيم حياتنا مع أولادنا وعوائلنا وأصدقائنا ومجتمعنا وأحبتنا في العمل والنشاط والدين والمذهب والمدرسة والفكر، وهو السبيل لكي تستمر قوتنا ومهابتنا كمجتمع إسلامي كبير يعيش ظروفه الحساسة والخطيرة في زمن الفتن وسياسات التفرقة التي يبرع فيها الأعداء ويمارسونها علانية في كل نقطة وبقعة من عالمنا العربي والإسلامي الكبير.[c1]نقلا عن جريدة "اليوم" السعودية [/c]
بالعدل والإعذار نُميت الفتن
أخبار متعلقة