محمد زكريافي الأزمنة الغابرة ، تقول الأسطورة أن البحر ولد وتربى على حجر عدن , وأن أول من صافحت أشعة الشمس من مدن الدنيا هي عدن ، ولقد كانت عدن عبر العصور القديمة والحديثة مطمح الدول التي تعاقبت على حكم اليمن كالدولة الصليحية ، الزريعية ، الدولة الرسولية ، والطاهرية ، ومطمع الأوربيين كالبرتغاليين الذين ظهروا في المياه الدافئة ونقصد بها البحر الأحمر وجنوبه , وتنافس عليها عدد اخر من الدول الأوربية عندما مالت شمس البرتغاليين في النصف الأول من القرن السابع عشر كالهولنديين الإيطاليين ، ولكن في آخر المطاف احتلتها إنجلترا سنة 1839م وضمتها إلى مستعمراتها في عهد الملكة فيكتوريا أعظم ملوك إنجلترا . [c1]مدينة موغلة في القدم[/c]ولسنا نبالغ إذا قلنا أن عدن رغم شهرتها في التاريخ القديم والحديث أو عبر العصور التاريخية ، فإن الحكايات الشعبية تكاد تكون نادرة عنها علماً أن الحكايات الشعبية هي المصدر الرئيس للباحثين والمؤرخين لتزويدهم بالقضايا الاجتماعية المرتبطة بحياة الناس التي لم تذكرها كتب المؤرخين القدامى . فعندما تذكر الحكايات الشعبية أن عدن ولد وتربى البحر على حجرها دليل بأنها كانت من أقدم المدن التي طفت على سطح الأرض أو بعبارة أخرى أنها مدينة موغلة في القدم من ناحية وأنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحياة البحر ، وأن أهلها غالبيتهم صيادون من ناحية أخرى وهذا ما أكده الكابتن ( هينس ) Haines في تقريره في يناير سنة 1839م إلى حكومة بومباي ( Bombay Government the )أن تعداد سكان عدن من المدنيين يبلغ حوالي ستمائة نفس " . ولقد أجمع المؤرخون أن سكان عدن كانوا يعملون في صيد البحر وملحقاته كصناع للقوارب على تباين أشكالها , وأحجامها . وكان البعض منهم من يركب السفن الضخمة يبحر بها إلى بلاد الهند ، والصين ، وشرق أفريقيا ، والخليج العربي .[c1]عدن وسحب الغموض الكثيف[/c]وعندما يذكر مؤرخ عدن عبد الله محيرز في صفحات كتابه (( العقبة )) معنى اسم عدن يورد أسماء عدد من الجغرافيين والمؤرخين المسلمين وغير المسلمين الذين ذكروها في مؤلفاتهم , ولكنه في نهاية المطاف يخرج بنتيجة غامضة وهي أن تفسير أو معنى اسم عدن مازال يغلفه الغموض , وهذا ما أكده عبد الله محيرز ، إذ يقول : " وتعليل اسم عدن نفسه صعب ، ومعرفة العهد الذي سميت به أصعب ، كما صعب التمييز بين ما سميت بها عدن من المدن ، خاصة ما ورد ذكرها قبل أو في صدر الإسلام . وقد نسج متأخرو الإخباريين حول المدينة واسمها صنوفاً من الأساطير ، وتفننوا في تعليل اسماها تعليلات لم تكن تخلو من مبالغة حيناً وطرافة أحياناً . ويقول أن نتيجة ذلك التخبط في تعليل أو تفسير اسمها هو أنه حام حول المدينة سحب كثيفة من الأوهام ، والخرافات والذي زاد من صعوبة معرفة شرح اسمها هو أن المؤرخين القدامى نقلوا تلك الأوهام والخرافات كما هي دون بحثها وتمحيصها , ويوضح عبد الله محيرز أنه لا توجد بارقة أمل إلى الطريق الذي قد يؤدي بنا إلى التفسير الصحيح لأسمها تفسيرًا دقيقاً وحقيقياً بعيدًا عن شطحات الخيال والقفز على حواجز العقل والمنطق , وفي هذا الصدد ، يقول : " واستشهد بها أجيال من المؤرخين : إما لعدم وجود بديل لها ، أو للطرافة فحسب ... والأمل ضئيل ــ بما هو متوفر حالياً من مصادر - للوصول إلى نتيجة حاسمة لتفسير اسم مدينة أوغلت في القدم ، وطوى النسيان كثيرًا من تاريخها " . ويؤكد عبد الله محيرز أن الاعتماد على تفسير وتعليل اسم عدن في إطار الاشتقاقات اللغوية يعتبر انزلاق ومجازفة , وبعيدة كل البعد عن التحليل والتفسير العلمي السليم لأسم المدينة . وهذا ما أكده ، بقوله " وينطوي الاعتماد على الاشتقاقات اللغوية - لعهود قد تكون سابقة لانتشار اللغة العربية - على قدر من المجازفة ، وكذا نسبتها إلى إعلام لم يثبت وجودهم على الإطلاق " . [c1]عدن في التوراة [/c]ويبحث ويمحص عبد الله محيرز عن تفسير ، وتعليل اسم عدن أو بعبارة أخرى عن معنى مدينة عدن في عدد من المصادر القديمة مثل التوراة ، فهو يورد في فقرة من الإصحاح والعشرين من كتاب حزقيال ، أن اسم عدن قد ذكر في صفحات الكتاب وأنها تقع في مصاف المواقع التجارية الهامة في التاريخ القديم " إلى جانب سبأ , وقنا في اليمن ، وحواضر أخرى في شمال الجزيرة العربية ، كصيدا ، وصور فهو ينقل لنا بالنص ما ذكره كتاب التوراة عن عدن ، فيقول : " تجار شبا , وزعمه هم تجارك ، بأفخر كل أنواع الطيب ، وبكل حجر كريم والذهب أقاموا أسواقك ، حران ، وكنه وعدن ، وتجار شبا ، وأشور ، وكلمد تجارك " . ويعقب عبد الله محيرز على ما جاء اسم عدن في كتاب ( حزقيال ). وفي هذا الصدد ، يقول : " وإذ صح نسبة عدن الحديثة إلى عدن وحزقيال ( ويعتقد أنه كتب ستة قرون قبل الميلاد ) ، فإن هذا يضعها ( أي عدن ) في مصاف حواضر العالم القديمة ، كميناء تجاري بلغ أهمية معينة قبل أكثر من ألفي وخمسمائة عام على الأقل " . [c1]عدن في الفرات[/c]ولكن يعود مرة أخرى عبد الله محيرز إلى بعض النصوص القديمة التي تذكر اسم عدن في مواقع وبلدان أخرى ، فيقول : " إلا أن بعض المصادر تبدي شكوكاً حول موقع عدن المقصود في حزقيال, وأن ما قصد بها في الواقع هي ( عَدن ) . وزعموا أنها حوض الفرات ، وأن ( شبا ) مستوطنة سبأ في شمال الجزيرة العربية " . [c1]عدن وملوك سبأ[/c]ويشير الأستاذ حسن صالح شهاب بأن عدن كانت واقعة تحت سيطرة ملوك سبأ ، وأنها كانت مزدهرة بالحياة التجارية بسبب ارتباطها بتجارة البر الداخلي والتي كانت تخرج منها القوافل التجارية إليها ومن المحتمل أن عدن الحديثة والذي نحن في صدد الحديث عنها ، قد تكون ذكرت في عهد حكم السبأيين . وهذا دليل واضح على أن عدن كانت مشهورة في تاريخ اليمن القديم باعتبارها مركزي تجاري بري هام لليمن إلى جانب كونها ميناءاً بحرياً مهماً أيضاً . وفي هذا الصدد ، يقول : " لكن مما لا شك فيه أن عدن ، عبر تاريخها الطويل ، كانت دائما مرتبطة بالبر الداخلي ، بل إن ازدهار وساطتها التجارية كان متوقفاً على استمرار حركة القوافل التجارية بينها وبين الأسواق في البر الداخلي . وعلى هذا يصح اعتبار من ورد ذكرهم من الملوك في كتابات المسند التي عثر عليها ، والتي سيعثر عليها في المستقبل ، في المناطق المجاورة لعدن ، من ملوك عدن في تاريخ هذه الكتابات " . [c1]نقش يوناني[/c]ومن النقوش التي أشارت إلى قدم تسمية مدينة عدن في التاريخ هو " نقش باليونانية ، عثر عليه في ( فقط ) : مدينة على النيل في صعيد مصر ، كانت لها علاقة تجارية مع عدن " . ويقول عنه عبد الله محيرز : " وهذا نقش يفوق كافة النقوش التي أشارت إلى عدن ، فهو يشير إلى مدينة ساحلية ، وسوق تجارية على البحر الأرتيري ، وهذا يشمل في الكتابات الكلاسيكية البحر الأحمر الحالي ، والبحر العربي بما فيه خليج عدن " . ولأهمية النقش نرى أنه من الضرورة بمكان أن نورد نصه بالحرف ، فجاء فيه: (( وقد قدم النقش هيرميوس ابن أثنيون ، يوناني ، مهاجر إلى ( عدن ) أحد بلدان المهجر في بالعهد الروماني ، حيث أصبح مواطناً فيها . وكتب نصبًا تذكارياً للآلهة إيزيس وهيرا في فقط في 9 أغسطس سنة 70 ميلاديًا ، يذكر فيه مهنته وجنسيته )) . والحقيقة أن ذلك النقش اليوناني يؤكد بالملموس أن بين عدن واليونان علاقة تجارية قديمة جدًا ومن الطبيعي أن تحمل تلك العلاقة والعلاقات التجارية في ثناياها علاقة ثقافية , وعلاقة دينية , والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل كان هناك امتزاج بين الديانة الإغريقية اليونانية القديمة والديانة اليمنية القديمة ؟ . هذا السؤال يحتاج من الباحثين الحاليين المختصين في تاريخ اليمن القديم بحثه ودراسته وتمحيصه في إطار علمي سليم .[c1]عدن والرومان [/c]ويذكر الدكتور سيد مصطفى سالم في كتابه (( البحر الأحمر والجزر اليمنية )) أسباب تدمير الرومان لميناء عدن هو : " الالتفاف حول الجزيرة العربية لمحاصرة الفرس لتأمين طريقهم إلى الهند ، فقد خافوا من منافسة عدن التي كانت أحدى المحطات الهامة لاستقبال التجارة الشرقية قبل دخولها إلى البحر الأحمر ، كما خشوا أن تصبح عدن بؤرة لمقاومة النشاط التجاري الروماني وخاصة بعد حملة آليوس جاليوس على شمال اليمن " . وهذا دليل بأن تسمية عدن كانت قديمة قدم التاريخ ، وأنها كانت تحظى بشهرة واسعة في العالم القديم ــ حينذاك - , فقد نعتت في الجاهلية بأنها سوق العرب . [c1]عدن بين التاريخ و الفولكلور[/c]تروي الحكاية الشعبية عن عدن ، بأنها مدينة موغلة في القدم، فتقول بما معناه : " عندما سولت قابيل نفسه قتل أخيه هابيل ، خاف من عقاب أبيه آدم ، ففر من بلاد الهند إلى عدن ، وأقام هو وأهله بجبل صيرة ". وتواصل الحكاية روايتها ، فتقول : " وأنه لما استوحش بمفارقة مسقط رأسه ، تبدى له إبليس ومعه شيء من آلة اللهو كالمزامير ونحوها ، فكان يسليه باستعمالها فهو أول من استعمل ذلك على ما قيل " . ونخلص من تلك الرواية أو الحكاية الشعبية كالتالي : - أن الحكاية الشعبية نسجت من الحقيقة والخيال ، الأولى أن قصة قابيل وهابيل مذكورة في القرآن الكريم ، وكذلك في العهد القديم ( التوراة ) ، ومذكورة أيضاً في الإنجيل . - أما جبل صيرة الذي ذكر في الحكاية الشعبية فهو حقيقة ماثلة للعيان يطل على بحر صيرة والذي هو امتدادًا لمياه البحر العربي . - ولقد ذكرت الحكاية الشعبية أن إبليس أحضر معه بعض آلات اللهو كالمزامير وملاحقاتها , ومن المحتمل أن آلة المزمار أو المزامير تعد من أقدم الآلات التي دخلت عدن أو عرفتها في التاريخ القديم . وهذا الموضوع في حد ذاته يحتاج من المؤرخين المحدثين والباحثين الحاليين دراسته بإسهاب وعمق وأن يكون محور عنوان الدراسة هو (تاريخ الموسيقى في عدن ) وربما نخرج من تلك الدراسة إلى معلومات غاية في الأهمية والإثارة في نفس الوقت . - لفت نظرنا أن الحكاية الشعبية ذكرت عدن بأنها كانت مستقر قابيل , وهذا دليل واضح على مدى قدم تلك المدينة في التاريخ . [c1]ذو القرنين في عدن[/c]وتروي رواية شعبية عن كيف تكوّن بحر صيرة ، فتقول بما معناه : " أن ذا القرنين في أثناء طوافه في مغارب الأرض ومشارقها وطئت قدميه جبل صيرة ، وكان يقع ويطل على أرض صخرية يابسة جرداء لا بحر فيها وعندما وصل ذو القرنين إلى ذلك الجبل ، فكر وقرر أن يحفر حفرة واسعة وعميقة لتصب فيها البحار السبعة ، فكان بحر صيرة . ونرى من الضرورة بمكان شرح ما جاء في تلك الحكاية الشعبية وهي كالآتي : - فجبل صيرة - كما سبق وأن ذكرناه - حقيقة واقعة وملموسة ماثلاً للعيان يطل على البحر في بياض النهار ، وسواد الليل ، وأما عن شخصية ذي القرنين حقيقة واقعية، فقد ذكرت في القرآن الكريم في سورة ( أهل الكهف) - ولكن الخيال هنا هو ما رسمه الإخباريون الذين يمزجون الحقائق بالخيال حول حفر ذو القرنين مجرى عند جبل صيرة لتصب عند سفحه مياه البحار السبعة . وربما حملت في ثناياها تلك الحكاية أو الحكايات الشعبية شيء من الحقيقة الجيولوجية حول أنشاق منطقة البحر الأحمر . فقد كانت منطقة البحر الأحمر متصلة فيما بينها لا يعترضها عائق مائي وإنما كانت تلك المنطقة أرض يابسة ، ولكنه حدث زلزال شديد في الأزمنة السحيقة - على حد قول علماء الجيولوجية ــوهنا يأتي دور الأسطورة أو الفولكلور الشعبي المتمثل بالحكايات الشعبية ، والسير, والقصص ، بتعويض النقص الفادح للأحداث الغامضة التي وقعت في فجر الإنسانية والذي يقف أمامها التاريخ المكتوب عاجزاً عن الإجابة أو الإجابات عنها. [c1]بندر عدن والبرتغاليون[/c]ذكر عيسى بن لطف الله المتوفى سنة ( 1048هـ / 1638م ) ، في كتابه (( روح الروح )) في حوادث سنة 919هـ ، ( 1513م ) هجوم البرتغاليين الفرنج على مدينة عدن ، فيقول : " في محرم منها وصل الخبر بقدوم ثمانية عشر مركبًا إلى بندر عدن من الفرنج ( يقصد البرتغاليون ) فجهز السلطان ( عامر بن عبد الوهاب ) عسكرًا إلى بندر عدن وأمر بالتحفظ منهم ، وأمر بالقنوت في الصلوة ( الصلاة ) في جميع المساجد ، وفي خطب الجمعة ، وكان وصولهم عدن في 17 محرم ، وأمر الأمير ( أمير عدن مرجان الظافري ) أهل عدن بالتغافل عنهم والتشاغل بتحصين البلد ، والأخذ بالحزم ثم أن الفرنج خرجوا إلى الساحل بسلالم قد صنعوها ووضعوها على اقصر جانب من سور عدن فطلعوا ودخل بعضهم إلى عدن ، فأمر الأمير أهل عدن أن يخرجوا إليهم ، فخرجوا فحازوا السلالم وقتلوا منهم بضعة ، وأسروا أربعة ، وهزموا الفرنج ولله المِنة " . [c1]حكاية الأميرة شمس [/c]وهذا ما ذكره لطف الله حول محاولة البرتغاليين السيطرة على مدينة عدن ولكن محاولتهم باءت بالفشل الذريع بسبب صمود أهل عدن البطولي . ولكن الحكاية الشعبية أو الحكايات الشعبية ترسم صورة مغايرة تمامًا عمّا ذكرته المراجع المكتوبة وهي أن أمير عدن مرجان الظافري من قبل الطاهريين وعدد غير قليل من كبار الأمراء من بني طاهر في عدن ، هربوا من المدينة إلى لحج , وأخذوا معهم القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، وتركوا المدينة وأهلها يواجهون مصيرهم المحتوم وهو مواجهة الفرنج البرتغاليين المعروفين عنهم ببطشهم ، وجبروتهم , وتدميرهم ، وقتلهم الوحشي , وتروي الحكاية الشعبية ، أنه كانت هناك فتاة لم تبلغ من العمر ثمانية عشرة ربيعًا، كانت صاحبة جمال بارع ، وذكاء متقد ، ورباطة جأش . حرمها البرتغاليون الغزاة والدها الذي أغرقوا السفينة الذي كان ناخوذة ( قائدًا ) عليها في وسط البحر ، بعد أن ضربها الأسطول البرتغالي بالمدافع الضخمة . ومنذ مقتل والدها على يد الفرنج البرتغاليين صممت الانتقام منهم . وحانت فرصة الانتقام ، عندما قرر الأسطول البرتغالي الاستيلاء على عدن . فحثت الفتاة شمس المتقدة حماسة ، وشجاعة ومعها عدد من الفتيات أهل عدن الطيبين على مقاومة الغزاة الفرنج البرتغاليين والتصدي لهم ، بعد أن رأوا بأعينهم هروب أمراء بني طاهر من المدينة ، وعلى رأسهم أمير عدن مرجان الظافري ، فتركوا المدينة وأهلها لقمة سائغة للبرتغاليين.[c1]الغزاة على أسوار عدن[/c]وتسارعت الأحداث ، ودقت طبول الحرب ، وأقترب الأسطول البرتغالي الضخم المجهز بأحدث الأسلحة الفتاكة - حينذاك - ونزل عدد من الجنود إلى سفح جبل صيرة , والغرور يتملكهم , ووضعوا السلالم على سور المدينة , وبدأت المعركة قاسية وغير متكافئة بين أهالي عدن الذين لا يملكون الأسلحة الفتاكة والجنود البرتغاليين الذين في حوزتهم البنادق الفتاكة التي لم تكن معروفة في اليمن حينئذ , ولكن كان السلاح الذي يمتلكه الأهالي هو العزيمة والإصرار على مواجهة البرتغاليين مها كلفهم ذلك من تضحيات جسام . ورأت الفتاة شمس بنظرتها الثاقبة أن المواجهة المباشرة مع البرتغاليين تعني الموت والهزيمة لأهالي عدن ، ولذلك فكرت وقررت في الحال أن ينسحب المقاومين عن سور المدينة إلى الداخل , ويتركون وسط المدينة خاليًا ، وبعدها يطبقون عليهم من كل مكان بالسيوف ، والرماح والسهام ، والعصيان ، وكل ما يملكون من أدوات يقضون فيها على الغزاة . [c1]وتناثرت جثث الغزاة[/c]ويقول الراوي أن الغزاة البرتغاليين ، عندما انسحب المقاومين عن السور إلى داخل المدينة ظنوا أن النصر أصبح قاب قوسين أو أدنىَ ، وأن عدن ساقطة في قبضتهم لا محالة , ويواصل الراوي روايته ، فيقول : " ولقد وقع الغزاة في الشباك الذي نصبه الأهالي لهم , وتوغلوا في وسط المدينة , ويقال سوق العيدروس ( الحالي ) في عدن القديمة ، والصمت يلف المكان ، والبيوت المحيطة بالسوق خالية من السكان , وظن البرتغاليون أن أهلها تركوها خوفاً منهم. وفجأة ودون مقدمات صار المكان الذي فيه الجنود البرتغاليين قطعة من الجحيم ، والعذاب الغليظ ، فقد أطبق عليهم الأهالي من كل مكان بالسيوف ، والسكاكين ، والرماح ، والحجارة , ومن فوق أسطح المنازل ألقيت عليهم كرات من النيران الملتهبة المغموسة بالنفط , وتناثرت جثث جنود الغزاة البرتغاليين في وسط سوق المدينة ، وتم اسر عدد من الجنود بعد أن سلموا أسلحتهم للأهالي . [c1]أول أميرة على عدن[/c]وتمضي الحكاية الشعبية روايتها ، فتقول : وبعد أن أنقشع غبار المعركة ، وانهزم الغزاة وعاد الأسطول البرتغالي إلى وسط البحر ، يجر أذيال الخيبة والفشل الكبيرين قرر أهالي عدن ، أن يمنعوا الأمير مرجان الظافري ، والأمراء الطاهريين من دخول عدن ، بعد أن هربوا من مواجهة قتال الغزاة البرتغاليين ، ونفضوا أيديهم عن تحمل مسؤولية الدفاع عن المدينة وأهلها . على أية حال ، قرر أهالي عدن أن يولوا على مدينة عدن الفتاة الشجاعة شمس الذي حثت وحرضت الأهالي على الصمود والتصدي للغزاة البرتغاليين والتي وضعت خطة محكمة في القضاء على هؤلاء الغزاة . ويروي الراوي ، أن الفتاة شمس لقبت بالأميرة شمس وجلست في دار السعادة بالقرب من جبل صيرة وهو المقر السابق لأمير عدن الأمير مرجان. وبمناسبة ذلك الانتصار على الفرنج البرتغاليين ، علقت الزينة على أبواب عدن ، وأسوارها ، وخرجت الطوائف الصوفية المختلفة والمتنوعة تنشد الأناشيد الدينية عن الجهاد . وفرشت الموائد الدسمة لأهالي عدن على تباين أعمارهم , ومشاربهم الاجتماعية . وتنهي الحكاية الشعبية بأن أهالي عدن عاشوا تحت ظل الأميرة شمس حياة سعيدة مزدهرة حتى جاء هادم اللذات ، ومفرق الجماعات ، فطويت صفحة من صفحات ثغر عدن . وبعد أن سردنا الحكاية الشعبية عن الأميرة شمس ودورها الرائع في مقاومة والتصدي للغزاة الفرنج البرتغاليين . نرى أنه من الضرورة بمكان أن نستخلص منها بعض الملاحظات التي جاءت في أحداث تلك الحكاية الشعبية ، وهي كالتالي : · الحكاية الشعبية تتعاطف بقوة مع أهالي عدن الطيبين ، أو بعبارة أخرى ترسم صورة مشرقة ومشرفة عن أهالي عدن في مقاومتهم للفرنج البرتغاليين . · رسمت الحكاية الشعبية أيضا صورة مضيئة عن دور الفتاة والفتيات اللواتي حرضن أهل المدينة على الصمود ضد الغزاة وحريُُ ُ بنا أن نقول أن الحكاية الشعبية أولت عناية فائقة بالمرآة اليمنية من خلال الفتاة ( شمس) في وقائع الحكاية , ووصفتها بأنها فتاة ذكية ، متقدة بالحماسة والشجاعة ، ورباطة الجأش , وقدرتها الحكيمة في وضع الخطط لمواجهة البرتغاليين ومن جراء ذلك فشلوا فشلاً ذريعًا في الاستيلاء على المدينة . والحقيقة أن الحكاية الشعبية عندما أظهرت دور الفتاة اليمنية المتمثلة بالأميرة شمس ، دليل واضح على احترامها و تقديرها الكبيرين على المسرح السياسي . · وكانت هزيمة البرتغاليين في عدن سنة ( 919هـ / 1513م ) أول هزيمة لهم في جنوب البحر الأحمر أو بعبارة دقيقة أول انكسار لهم في سواحل اليمن . فأثر ذلك فقدان هيبة وقوة أسطولهم في جنوب البحر الأحمر . · ومثلما تعاطفت الحكاية أو الرواية الشعبية مع أهالي عدن ، فإنها صوبت سهام الكره ، والبغضاء لأمراء بني طاهر ، و أمير عدن الأمير مرجان الظافري بأنهم هربوا من وجه الفرنج البرتغاليين ، وتركوا المدينة قائمة دون حماية ، وأخذوا معهم الأحمر ( الذهب ) ، والأبيض ( الفضة ) وذخائر المدينة وكنوزها النفيسة . وبعبارة أخرى أن الحكاية الشعبية صورتهم بصورة الخيانة بسبب هروبهم من الغزاة البرتغاليين من ناحية وصورتهم أيضاً بأنهم جبناء ولصوص من ناحية أخرى . وهذا أن دل على شيء فإنه يدل أن أهالي عدن كانوا يمقتون حكم الدولة الطاهرية في أواخر حكمهم للمدينة الذي اتسم بالبطش ، والعنف ، والظلم من قبل أمرائها في فرض الضرائب ، والجبايات ، والإتاوات الجائرة على أهالي عدن , ومثلما حدث الظلم من عمال بني طاهر في عدن ، حدث أيضاً في زبيد وغيرها من مدن تهامة الذين ثاروا عليهم ، وساعدوا المماليك المصريين بالقضاء على دولتهم حتى يتخلصوا من ظلمهم .· وأكدت الحكاية الشعبية بأن أهالي عدن يحترمون المرأة ، ويقدرونها تقديرًا عاليًا ولا يرون بأسًا أن تتولى شئون الحكم ، فرفعوا الأميرة شمس الفتاة اليمنية إلى سدة حكم المدينة باختيارهم , وتروي كذلك الحكاية أو الراوي الشعبي أن في عهد حكمها شهدت مدينة عدن الأمن والأمان والطمأنينة والاستقرار السياسي والذي انعكس إيجابياً على ازدهار الحركة التجارية في مينائها .[c1]التاريخ ربيب القصور[/c]والحقيقة أن التاريخ يختلف اختلافاً كلية عن الحكايات الشعبية أو بمعنى دقيق أن التاريخ يدون في سجله الضخم والكبير مجريات الأحداث الخطيرة والهامة التي تؤثر في حياة البلاد والعباد تأثيرًا سياسياً وماديًا عميقاً من ناحية ويحتفي بسير الملوك والأباطرة ، والأمراء ، والقادة الكبار , ولا يعتني بشئون الناس البسطاء اليومية ودورهم في صنع الأحداث الجسام ، والأمور العظام ، ولا يلتفت إليهم من قريب أو بعيد كأنهم على هامش الحياة . وهذا ما أكده الدكتور قاسم عبده قاسم - منتقدًا بمرارة وحدة المؤرخين الرسميين الذين وضعوا أقلامهم في خدمة الملوك ، والأباطرة ، فيقول : " وعندما انتقل الفكر الإنساني من تبرير الخضوع للحكام باعتبارهم آلهة ، أو مندوبين عن الآلهة ، وبدأت فكرة المَلك الذي يملك ويحكم ؛ يملك البلاد ومواردها العامة ويحكم البشر ويتحكم في مصائرهم . كان التاريخ مرُادفاً لسير الحكام ؛ ملوكاً ، وأمراء، وأباطرة يسجل كل حركة أو تصرف من تصرفاتهم ، ويعني بتفاصيل حياتهم ، يسعى في ركابهم إلى ميادين القتال ، وينصت إلى مفاوضاتهم ، ومحاوراتهم ، ويحكي عن حيلهم ودسائسهم " . ويمضي في حديثه ، قائلاً : " وكان طبيعيا أنذاك أن يكون التاريخ ربيب القصور ، ومن يسكنونها ، كما كان طبيعيا أن يكون غالبية المؤرخين دعاة في خدمة الحكام ، وأن تكون كتاباتهم في الغالب الأعم دعاية وتبرير لسلوك الملوك والأباطرة والسلاطين والأمراء .[c1]صناع التاريخ مغيبون[/c]ويهاجم قاسم عبده قاسم بشدة المؤرخين الذين يغيبون دور صناع التاريخ الحقيقيين وهم الناس البسطاء أصحاب المصلحة الحقيقة في التاريخ ، فيقول : " والناظر في تراث الكتابة التاريخية في الفترة التي نعنيها يكتشف في يسر وسهولة أن المدونات التاريخية والحوليات والسير ؛ كلها تدور في فلك الملوك والحكام ، وأن الرعايا ، صناع التاريخ الحقيقيون غائبون عن صفحات تلك التسجيلات الرسمية . وهكذا ينسب عصر بعينه إلى عدة أفراد يقال إنهم صنعوا نهضة هذه الأمة أو تلك . وسنجد كتبًا كثيرة في تراث الأمم الإنسانية على اختلافها ، كرسها من كتبوها لهذا الحاكم أو ذاك ، دون أن يلقوا بالاً إلى الناس في حياتهم الاجتماعية ونشاطهم اليومي باعتبارهم القوة التي تحرك تاريخ البشرية [c1]التسجيل الشعبي للتاريخ[/c]ويوضح لنا الدكتور قاسم عبده قاسم الفرق الجوهري بين التاريخ والتسجيل الشعبي ، فيقول : " والفرق الجوهري بين بالتسجيل الرسمي للتاريخ ، والتسجيل الشعبي هو أن التسجيل الرسمي قصد به أن يكون تاريخاً أي أنه مقصود أ يصل للأجيال على النحو الذي تمت به كتابته . أما التسجيل الشعبي فهو تسجيل شفاهي تراثي تتناقله الأجيال ، وتزيد عليه وتعدل في مضمونه بما يخدم أهداف الجماعة والإنسانية ، دون أن يقصد به أن يكون تاريخاً يقرأه الناس في الأجيال التالية " ويصل إلى نهاية الفكرة الذي يرغب بها أن يبلغها للقراء ، فيقول : " ذلك أن الموروثات الشعبية تعبير تلقائي عن الناس في حياتهم اليومية ، وعن رأيهم في أحداث تاريخهم ورؤيتهم له " . [c1]عدن مدينة الأسرار [/c]ويصف الرحال الفرنسي ( Michel Talons ) - الذي زار عدن في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر -ـ مدينة عدن ، قائلاً : " لقد زرت عددًا غير قليل من المدن المطلة على شواطئ البحار , ولكن مدينة عدن المطلة على البحر العربي ( المحيط الهندي) ، والمدخل الحقيقي والهام لجنوب البحر الأحمر ، سحرتني من أول نظرة فهي مدينة البحر والأسرار ، أنها لا تفتح قلبها إلا لمن تحبه ، فيصعب على المرء أن يفتح كنوز أسرارها ويخترق شباكها ألا مرئية , وكلما حاولت الاقتراب إليها تبتعد عنك , وعندما تظن أنك وضعت يدك على سرها الدفين في أعماق البحر ، فإن الحقيقة الماثلة أمامك تصير سرابًا , وتتسرب من بين أصابعك . أنها حقاً مدينة البحر و الأسرار " . [c1]الهوامش : [/c]عبد الله أحمد محيرز ؛ الأعمال الكاملة : العقبة ، صهاريج عدن ، صيرة ، سنة الطبعة 1425هـ / 2004م ، الناشر : وزارة الثقافة والسياحة ، ــ الجمهورية اليمنية - صنعاء - . حسن صالح شهاب ؛ عَدَن فرضة اليمن ، الطبعة الأولى 1410هـ / 1990م ،مركز الدراسات والبحوث اليمني - صنعاء - . الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ البحر الأحمر والجزر اليمنية تاريخ وقضية ، الطبعة الأولى 2006م ، الناشر : مؤسسة الميثاق للطباعة والنشر .عيسى بن لطف الله شرف الدين ؛ روح الروح ، تحقيق : إبراهيم بن أحمد المقحفي, الطبعة الأولى 1424هـ / 2003م ، مركز عُبادي للدراسات والنشر،- صنعاء - الجمهورية اليمنية - . دكتور قاسم عبده قاسم ؛ بين التاريخ والفولكلور ، الطبعة الثانية 2001م ، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية - القاهرة - جمهورية مصر العربية .
|
تاريخ
عدن مدينة البحر و الأسرار
أخبار متعلقة