ساره باكثير عندما كان فرنسيس فوكوياما لا يزال شابًا في الثلاثين من العمر، مشغوفًا بالسياسة، يعمل في وزارة الخارجيّة الأميركيّة، فاجأ الجميع بنظريّة جعلت منه مثقّفًا ذائع الصيت. إذ قام بكتابة مقالة مهمّة جدًّا تحت عنوان "نهاية التاريخ" نشرت في صحيفة محليّة. أحدثت مقالته هذه ضجّةً كبيرة في عالم الأكاديميين. فقد كتب فوكوياما في مقالته الشهيرة: "ما نشهده اليوم لا يشكّل نهاية الحرب الباردة وحسب أو مجرّد مرحلة انتقاليّة وإنّما نشهد نهاية التاريخ. فنحن نقف عند نقطة نهاية التطوّر الايديولوجي الإنساني وعولمة الديمقراطيّة الليبرالية الغربيّة المتمثّلة بالحكومة الإنسانية. كان ذلك في صيف 1989 يوم كان حائط برلين على وشك السقوط. ومن ثمّ اندلعت ثورة أوروبا الشرقيّة غير المتوقعة وتبعها سقوط الطاغية السوفياتي، فسُنحت الفرصة لفوكوياما أن يجمع أفكاره في كتاب أصبح فيما بعد من أكثر الكتب مبيعًا على الصعيد العالمي. وقد شكّل فوكوياما بخلفيّته الأميركيّة اليابانيّة الوسيلة الفضلى لنشر نظريّته. ومن المفترض أن تكون مارغريت تاتشر قد قالت في وقت سابق:" نهاية التاريخ؟ بداية اللامعنى" ولكن كان من المذهل رؤيته يصدق في توقعاته. هذا ما يردده الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش مرارًا وتكرارا للمقاومين العراقيين فهم لم يحققوا شيئًا بعد من البرنامج المحدّد لهم باستثناء بعض العمليّات الانتخابيّة. وكذلك الأمر بالنسبة لفوكوياما الذي رأى في حرب العراق غلطة جسيمة. وبعد مرور شهر على سقوط الرئيس العراقي السابق صدام حسين في العام 2003 قام فوكوياما بتناول طعام الغداء مع صديق أميركي له كان من مؤيدي خلع الرئيس العراقي السابق. وقال فوكوياما في ذلك :"راهنت معه على أنّه في خلال خمس سنوات ستفلت زمام الأمور وأتوقّع أن أكتب عن ذلك". وقد يتنبّأ البعض بأنّ فوكوياما سينضمّ إلى جوقة جورج بوش المتفائلة بالديمقراطيّة والمؤيدة لها. فلسنوات مضت قام فوكوياما بالانخراط في صفوف الأخوان الذين يشكّلون جماعة المحافظين الأميركيين الجدد أي المثقفين الملتزمين تغيير النظام في العراق. وتجدر الإشارة إلى أنّ فوكوياما قدّم إلى بيل كلينتون في العام 1998 رسالة موقّعة باسم مشروع القرن الأميركي الحديث الذي يتولاه المحافظون الجدد، حثّ فيها الرئيس الأميركي السابق على الإطاحة بصدّام وذلك قبل أن يبدأ الأميركيّون بالتعبير عن أفكارهم وآرائهم حيال هذا الموضوع بوقت كثير. وكان دونالد رامسفيلد وبول وولفوتز من الأشخاص الذين وقعوا على هذه الرسالة والذين سعوا إلى الحصول على موافقة البنتاغون على الاجتياح من دون علم بوش. وكذلك وقّع فوكوياما رسالة مشابهة بعد أحداث 11 أيلول 2001 ، كما كتب في صحيفة "وول ستريت" مقالة بعدما اجتاحت الدبابات شوارع بغداد واصفًا فيها الاحتفال بسقوط صدّام "بالاحتفال المحقّ". وكان فوكوياما يبدو حتّى هذه اللحظة على وفاق تام مع أصدقائه. في هذا السياق قال فوكوياما:"من لا يحتفل بهكذا حدث؟ مع العلم أنّه لطالما كان يغذّي الشكوك بصحّة الاجتياح الذي بات الآن واقعًا ملموسًا". ثم أضاف بنبرة صارمة: "لقد ارتدّيت". فلقد انفصل فوكوياما بشكل نهائي عن المحافظين الجدد لأنّه رأى في حرب العراق خطأ فادحًا نظريًا وعمليًّا على خلاف المحافظين الجدد الذين لم يقتنعوا بذلك حتّى الساعة، رغم كلّ سيئاتها. وتابع قائلاً:" كذابون، معظمهم يدرك أنّ القضيّة التي يدعمونها لم تحقق شيئًا وهم ما زالوا يؤمنون بحدوث أمر من شأنه أن يغيّر مسار الأمور". في الواقع، فوكوياما هو متحدّث لبق ذو صوت منخفض يصعب سماعه أحيانًا لكن في كتاباته هو واضح وصريح ويتمتّع بصوت جهوري. ففي كتابه الجديد "بعد المحافظين الجدد" الذي نشر هذا الأسبوع، كتب فوكوياما:"لقد استخلصت أنّ نظريّة المحافظين الجدد بلغت حدًّا لم يعد بمقدوري تقديم الدعم له". وبعدما راجع فوكوياما مفكرة مواعيده، استقبلني أخيرًا في مكتبه الصغير الذي يعجّ بالكتب في جامعة "جون هوبكنز" في واشنطن حيّث يدرّس مادة الاقتصاد السياسي الدولي. إذ يصعب العثور عليه كأيّ فيلسوف مشهور عالميًّا. وقد بدأت شكوك فوكوياما حول مشروع المحافظين الجدد تتبلور في بريطانيا منذ بعض الوقت. قال فوكوياما:"أذكر أنيّ صعقت بعدم الشعور بالسعادة الفعليّة مع الولايات المتحدة. فأحد الأخطاء التي اقترفها الشعب الأميركي هو إساءة الحكم على هذا الشعور. إذ كان من السهل جدًّا تصنيفه في الخانة المعادية لأميركا إلا أنّني كنت أسمع ذلك من أفراد يُعتبرون أصدقاء لأميركا". ومن الجدير ذكره أنّي أخبرت فوكوياما أنّ نهاية التاريخ من الممكن أن تكون قد أثّرت على بلير الذي من المحتمل أن يكون قد تنشقها مع مميّزات تلك الحقبة من دون أن يكون قد قرأها حتّى. أرى أنّ ثمّة عدداً قليلاً من المؤمنين البارزين أكثر من رئيس وزرائنا في التطبيق الكوني للديمقراطيّة الليبرالية. هذا وقادت فظاعات التطهير العرقي في الجمهوريّة اليوغوسلافية السابقة في التسعينات العديد من المعلّقين إلى الصراخ عاليًا "أي نهاية تاريخ؟" في ظلّ ديمقراطيّة بلير التي بلغت بلغراد بفضل كياسة الجنود الأميركيين والبريطانيين. ورغم ذلك كانت تلك الحرب ناجحة. بالنسبة لفوكوياما حرب العراق حرب سيّئة وهو لا يهتمّ لاقتراحاتي القائلة بأنّه ساهم بشكل غير مباشر بالتدخل البريطاني فيها. ويعتقد بلير أنّه أصبح "محافظًا جديدًا فخريًّا" يحاول خداع نفسه من خلال التفكير بأنّه يمكن فرض الديمقراطيّة بسرعة البرق. إلا أنّه لم يقصد ذلك عندما تكلّم عن نهاية التاريخ التي اتخذت رؤية أخرى تختلف اختلافًا كلّيًا عن العثرات التي تواجه الفرد في وجهته الأخيرة. قال فوكومايا:" مع بلير من الصعب جدًّا التنبؤ بما يعتقده مقارنةً مع ما حسب له حسابًُا في مصالحه الخاصّة. من المؤكد أنّه أراد المحافظة على علاقة طيّبة مع الولايات المتحدة ومن ثمّ أقنع نفسه أنّ الحرب مهمّة تاريخيًّا". ويتابع فوكوياما:"أمر مماثل حصل مع بوش. فعندما انتخب رئيسًا صرّح أنّه يملك سياسة خارجيّة متواضعة وهاجم عمليّة بناء الدولة ومذذاك أقنع نفسه بذلك". يشعر فوكومايا بالإحباط نظرًا لتبدّل الأحداث. ويقول في ذلك:" صوتت لبوش في العام 2000 تحديدًا على أمل أن يتمكن عدد كبير من أصدقائي من إدارة السياسة الخارجيّة بشكل أفضل ممّا فعله مناصرو كلينتون سابقًا. لذلك استحال الأمر خيبة أمل كبيرة. فلقد انقلب كلّ شيء رأساً على عقب". وتجدر الإشارة إلى أنّ فوكوياما كان في الأساس ضدّ أيّ حرب وقائيّة عملاً بقول بسمارك "فهي كمن ينتحر هربًا من الموت". إلا أنّ اندلاع هذه الحرب شكّل له صدمة كبيرة. والأمر سيّان عندما توجه الملامة لصديق بسبب فشل ذريع. وأضاف "لست مصدوما وحسب بل أشعر بالاشمئزاز الكلّي من مستوى عدم الاحتراف لديهم. فإن كنت تريد أن تتطوّع لمنصب المهيمن الفردي مشيرًا بذلك إلى الولايات المتحدة كونها القوّة العظمى الوحيدة، فمن المستحسن أن تكون جيّدًا في ذلك". ويردف فوكوياما أنّ زوجته لورا هولمغرين الحائزة شهادة في الدراسات السوفياتيّة وهي أمّ لثلاثة أولاد كانت ضدّ الحرب في العراق من البداية. وفي هذا السياق يقول فوكوياما إنّ زوجته بدأت كمحافظة جمهوريّة وانتهى بها الأمر تكره بوش كرهًا شديدًا. ومن الجدير ذكره أنّ فوكوياما يقدّر إلى حدّ بعيد قدرة زوجته على النظر أبعد من ولائها. وكان لفوكوياما علاقات أخرى متينة مع أفراد من المحافظين الجدد. ومن بين ناصحيه ومعلّميه نذكر أيضًا المحارب الذي يتمتّع بدم بارد ألبرت وهلستيتر الذي يضع وولفوفيتز ومستشار البنتاغون السابق ريتشارد بيرل إضافةً إلى السفير الأميركي في العراق زلماي خليل زاد تحت رعايته. يعرّف تحديد النظرية المحافظة الجديدة المحافظين الجدد "بالليبراليين الذين أخافتهم الحقيقة". ويتساءل فوكوياما عن سبب عودتهم إلى النظرة اللينينيّة للتاريخ. فإن كانوا قد فقدوا الثقة في محاولات الإتحاد السوفياتي الهادفة إلى بناء مجتمع فكيف بإمكانهم أن يتخيّلوا أنّ مجتمعًا معقّدًا بتركيبته الاجتماعيّة كالمجتمع العراقي يمكن إعادة هيكليّته على أسس الديمقراطيّة؟ ربّما هذا وحي نابع من الكتاب. قبل أن ألتقي فوكوياما استمعت إلى مناقشة دارت في واشنطن بينه وبين كريستول والفيلسوف الفرنسي اللامع برنار-هنري ليفي. كانوا جميعًا دمثي الأخلاق ولطفاء لا سيّما ليفي الذي كان يقول باستمرار عزيزي فرنسيس وعزيزي وليام. لكّن ملامح السأم بدت بوضوح على وجه كريستول الأنيس الذي ضاق ذرعًا من تصنيفه في خانة اللينينيّين. ويضيف كريستول أنّه قد يكون من الجيّد أن نعيش في عالمٍ خالٍ من المجاهدين حيث لن نكون مضطرّين لأخذ أعداء الديمقراطيّة الليبرالية على محمل الجدّ. "أن نحكم هو أن نختار وأن نتحمّل بالتالي مسؤوليّة اختياراتنا. أن نحكم لا يعني بالضرورة أن ننتظر نهاية التاريخ". فوكوياما ينظر إلى قوّة المجاهدين بشكل مختلف تمامًا وهو يرى في أحداث 11 أيلول ضربة حظّ. وهو يقول في هذا السياق:" من المحتمل أن يمتلك المجاهدون قنبلة نوويّة لكنّ سيناريو واحداً أدى إلى موجة خوف عارمة". ويعبّر فوكوياما عن رغبته برؤية العديد من المؤسسات المتعددة الجنسيّات، كما يدعوها هو، تدعم عمل الأمم المتحدة الهادف إلى ممارسة الضغط الدولي. بالنسبة الى حظوظ نجاح العمليّة في العراق في وقت مبكر جدًّا يقرّ "بأنّه من غير الناضج التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور". ويتابع:" ليس من الواضح ما إذا ستكون النتيجة النهائيّة سلبيّة أم لا. فمن المحتمل أن يستحيل العراق ديمقراطيّة لكنّ السببيّة ستكون مخيفة جدًّا". بتعبير آخر، إذا انقلبت الأمور في العراق إلى الأفضل، فالتاريخ سيذكر ذلك على أنّه حصل رغم، لا بفضل، الجهود الحثيثة التي بذلها كلّ من بوش وبلير. هذا يبدو مجحفًا بالنسبة لي لكن لفوكوياما هذا أمرٌ لا مفرّ منه. فهو يعتقد أنّه سواء ربحوا رهان التاريخ أم خسروه، يجب محاسبة أبطال الحرب لأنهم كانوا السبب في اندلاعها.عن "التايمز" من هو؟ ترعرع فوكوياما الذي يبلغ الآن 53 سنة من العمر في مدينة نيويورك حيث كان والده قسًا بروتستانتيًّا وناشطًا في الحقوق المدنيّة ذا ضمير اجتماعي حيّ. نشأ الصبي على خطى والده وكان مستقيم الصراط . وفي هذا السياق يقول فوكوياما:"لقد اختلفنا كثيرًا حول المواضيع السياسيّة". ويصف نفسه "بالوليد الجامعي" ويعتقد انّه ربما يكون قد ورث عن جدّه، مؤٍٍسس قسم الاقتصاد في جامعة كيوتو في اليابان، شغفه للعلم. هاجرت أمّه إلى أميركا في العام 1949 وأصبحت عاملة اجتماعيّة ناشطة في مدينة نيويورك. فرانسيس يطالع الأدب الكلاسيكي في جامعة كورنيل حيث استمع إلى محاضرة ألقاها ألين بلوم، تلميذ الفيلسوف ليو شتراوس، حول جمهوريّة أفلاطون. وتجدر الإشارة إلى أن أفكار شتراوس الثقافيّة هي النقطة المشتركة بين جميع المحافظين الجدد لاسيّما وولفوفيتز الذي صادف أن التقى فوكوياما في كورنيل وقدّم له وظيفةً في السنوات الأولى من ولاية ريغين. ومن الجدير ذكره أنّ الرجلين لم يتبادلا الكلام منذ وقت. ويقول فوكوياما في ذلك: "أعتقد أنّه يشعر ببعض السأم". فوكوياما هو من خريجي جامعة هارفارد التي بنى فيها صداقة متينة مع وليام كريستول الذي أصبح في ما بعد قوّة مشروع القرن الأميركي الحديث الدافعة. وهو رئيس تحرير الصحيفة المحافظة الجديدة THE WEEKLY STANDARD التي تمتلكها NEWS CORPORATION مالكة صحيفة THE SUNDAY TIMES . ويذكر أنّ فوكوياما ورث عن كريستول شقّته الجامعيّة ويقول في ذلك:"كان من الصعب الحصول على شقّة مماثلة". وكان والد ويليام، إيرفانغ كريستول، من مؤسسي النظريّة المحافظة الجديدة وواحدًا من نخبة العاملين المثقفين في نيويورك في الثلاثينات الذين تجذبهم نظرية تروتسكي ويثير فيهم ستالين الاشمئزاز. ويذكر أنّ والده التزم مكافحة الشيوعيّة في مرحلة ما بعد الحرب.
فوكوياما .. الخطأ والصـواب
أخبار متعلقة