محمد زكريا:في يوم الأربعاء الموافق 17 شوال 1427هـ / 8 نوفمبر 2006م ، أقام مركز البحوث والدراسات اليمنية بجامعة عدن الملتقىَ البحثي حول المؤرخ العلامة محمد بن محمد بن يحيى زَبارة. ولقد قدمت على طاولة الملتقىَ البحثي عدد من الأبحاث منها بحث بعنوان (المسار الحياتي للمؤرخ زَبارة) للباحث حسين بن أحمد بن محمد زَبارة . ويكتسب ذلك البحث أهمية لكون صاحبه من أهل زَبارة ، قريباً من حياة ذلك العلامة الجليل ، والمؤرخ الكبير محمد بن محمد بن يحيى زَبارة المتوفى سنة (1380هـ / 1960م ) . [c1]بيت أهل علم ورئاسة[/c]العلامة والمؤرخ الكبير محمد بن محمد زَباره تعود جذوره إلى بيت أهل علم ورئاسة ولد وتربي في أحضان العلم والمعرفة ، وسمع وشاهد أقاربه يتولون المناصب العلية ، وينكبون على العلوم الدينية ، وصاروا كواكب مضيئة في سماء الفكر والثقافة اليمنية . وكان من الطبيعي أن يولد في نفس مؤرخنا وعالمنا حب العلم والمعرفة وأن يجعلهم نصب عينيه . فالباحث حسين بن أحمد زَبارة يسرد نسبه الذي يعود إلى الإمام الهادي وبعبارة أخرى يعود نسب عالمنا ومؤرخنا إلى آل البيت . فهو يروي عن الجد الأكبر لآل زَبارة قائلاَ : " هو محمد بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن أحمد بن إسماعيل بن الحسين بن أحمد بن صلاح بن أحمد بن الأمير الحسين المعروف بزَبارة بن علي بن الهادي ... " . ويوضح لنا أن الأمير الحسين بن علي كان أحد رجال الدولة في عهد المتوكل على الله شرف الدين ـ في (القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي ) الذي وقف بصلابة ضد الدولة الطاهرية ، وتمكن من القضاء عليها بمساعدة المماليك أولا ثم بمساعدة العثمانيين ثم أنقلب على العثمانيين أنفسهم ودارت بينه وبينهم حربًا ضروساً . ويفهم ـ أيضاَ ـ أن الأمير الحسين بن على ( زيدي المذهب ) يعود نسبه إلى الإمام الهادي المتوفى سنة ( 298هـ / 911م ) الذي غرس في تربة اليمن المذهب الزيدي ، وأقام أول دولة زيدية على أرضها .[c1]دار الشريف[/c]ويعرف لنا المؤرخ القاضي إسماعيل بن علي الأكوع في مجلده الضخم الجزء الثاني عن دار الشريف ، أين موقعها ؟ ومن أسسها ؟ ولماذا سميت بذلك الاسم؟، قائلاً : " قرية عامرة في أعلى وادي مسور ، بجوار بلدة جَحانة ، وهجرة ( زَبار) ، وثلاثُتها من خولان الطيال ( خولان العالية ) . أسسها هجرة الشريف سين بن علي زَباره حينما بنى له هنالك داراَ وسكنها فعُرف بدار الشريف ، وهو أول من عُرف بزَباره " . ويوضح الباحث حسين زَباره سبب لقب الأمير حسين بن علي بزَباره إنه نسبة إلى هجرة زبار بين جحانة وقرية دار الشريف ذات الأعناب " . أن زَباره بفتح ( الزاى ) . ويسرد الباحث عدداً من العلماء الكبار الذين خرجوا من معطف آل زَبارة والذين وضعوا بصمات مضيئة في ميدان تأليف العلوم الدينية المتنوعة والمختلفة وكان من أشهرهم العلامة الحسين بن أحمد بن صلاح بن أحمد زَباره ولد سنة (1068هـ / 1658م ) بهجرة دار الشريف . وهناك ـ كذلك ـ العلامة الحسين بن يوسف بن الحسين ولد سنة ( 1150هـ / 1737م ) . [c1]مولده[/c] ويروي لنا الباحث حسين زَباره بأن مؤرخنا العلامة محمد بن محمد بن يحيى زَباره. توفىَ والده هو في السابعة من عمره . ولقد كفله أخوه الأكبر علي بن محمد زَباره . ويضيف أن مولده كان في ( 1301هـ / 1884م ) . والحقيقة أنه كان من الأجدى والأجدر أن يسرد الباحث حسين زَبارة بالتفصيل عن شخصية الأخ الأكبر لمؤرخنا محمد زَباره فإنها من المحتمل أنها أثرت على تكوّين شخصيته ولكنه مر عليها مرور الكرام . وحاولنا الوقوف على ترجمة له في مجلد ( هجر العلم ومعاقله في اليمن ) للقاضي المؤرخ إسماعيل بن علي الأكوع ولكن لم نعثر عليها . ومن المرجح أن أخوه الأكبر لم يكن من العلماء الكبار مثل الآخرين من آل زَباره .[c1]شيوخه[/c]والحقيقة أن العلامة والمؤرخ محمد بن محمد بن يحيى زَباره كان مثل أبناء عصره الذين كانوا يدرسون العلوم الدينية بالطريقة التقليدية التي كانت سائدة في اليمن والتي كانت امتداداً إلى مدرسة العصور الوسطى الإسلامية حينذاك وهي الدراسة على يد الشيوخ الكبار في مختلف فروع العلوم الشرعية كالفقه ، والحديث ، والتفسير وما شابه ذلك بالإضافة إلى اللغة العربية وفروعها المتنوعة . وعندما يصل الطالب إلى درجة من العلم تأهله أن يكون معلما يجاز له من قبل شيوخه الكبار بأنه يستطيع أن يكون شيخاً يلقي العلوم على الطلاب . وكان مؤرخنا ينتقل من شيخ إلى شيخ آخر ينهل منه العلوم والمعارف العلمية المختلفة والمتنوعة بل أنه كان ينتقل من مدينة إلى مدينة أخرى من اليمن ليدرس العلم على يد شيوخها المشهورين. وفي بداية خطواته العلمية درس في صنعاء على عدد من الشيوخ الكبار أمثال العلامة محمد بن قاسم الظفري ، العلامة إسماعيل بن علي الريمي ، والعلامة محمد بن محمد السنيدار . وبعدها أنتقل إلىَ مدينة روضة صنعاء ، فدرس على يد العلامة محمد بن محمد العراسي ، والعلامة أحمد بن عبد الله ألكبسي . وفي خولان درس على العلامة محمد بن علي أمير الكبس والعلامة عبد الله بن أحمد ، والعلامة علي بن حسين الشامي . [c1]شاعر مجيد[/c]ويذكر حسين زَبارة بأن مؤرخنا العلامة محمد بن محمد زَباره حضر دروس الإمام يحيى حميد الدين من سنة 1326هـ / 1908م إلى سنة 1327هـ / 1909م " ... كما سمع عليه كتاب ( شفاء الأوام ) للأمير حسين ، و( الترغيب والترهيب للمنذري و ( الروض النضير ) " . وفي مدينة تعز درس على الشيخ العلامة علي بن أحمد السدمي . وكان من البديهي أن يتمكن صاحب الترجمة من العلوم الدينية المتنوعة علاوة على اللغة العربية من نحو ، وبلاغة ، ونثر ، وشعر . ومن يطلع على قصائده المختلفة والتنوعة يجد أنه كان شاعراَ مجيداَ ، متمكنا منها لدرجة أنه كان يكتب التقارير بالشعر . وقد حدث ذلك عندما كتب تقريراَ للإمام يحيى حميد الدين شعراَ عن مهمة تتعلق بحل الخلاف بين أمير لواء ذمار عبد الله أحمد الوزير والشيخ أحمد الحبابي وكيل عامل يريم . فأعجب بها الإمام يحيى أيما إعجاب ، ويقول عن تلك الواقعة : " ... وقدمت للإمام مهمتي هذه بنحو ثلاثين بيتا فأعجب بها " . [c1]في صنعاء[/c] والحقيقة أن بقاء العلامة والمؤرخ محمد بن محمد بن يحيى زَباره في صنعاء ، ساعده على أن يلتقي بعدد غير قليل من رجالات الدولة ، وأصحاب النفوذ فيها منهم بعض شيوخه الكبار أمثال العلامة محمّد بن قاسم الظفري ، والعلامة محمد بن محمد السنيدار والعلامة حسين بن علي العمري ، والعلامة يحيى بن محمد الأرياني وغيرهم . ويقال أنهم كانت لديهم حظوة عند الإمام يحيى لا ترد كلمتهم . فمكوثه في صنعاء جعله يطلع على الكثير من الأمور في دهاليز الحكم والسلطة في عهد الإمام يحيى حميد الدين المقتول سنة ( 1367هـ / 1948م ) من ناحية وأكتسب معرفة واسعة من الحياة الثقافية التي كانت ترد على العاصمة صنعاء لكونها كانت تضم العديد من البعثات الدبلوماسية العربية والأجنبية من ناحية أخرى ما كان يستطيع أن يجدها في المدن الأخرى في المملكة المتوكلية التي كانت غارقة في الظلام الحالك . وهذا ما أكده العلامة محمد زَباره في كتابه ( الأنباء عن دولة بلقيس وسبأ ) : " وأنه لما كان من نعم الله تعالى عليّ نشأتي بموطني صنعا اليمن واتصالي ببعض الأعلام فيها ... " .[c1]رؤية عربية وإسلامية واسعة[/c] والحقيقة أن العلامة محمد بن محمد بن يحيى زَباره قد سنحت له الظروف أن يقوم برحلات عديدة إلى الكثير من البلدان العربية والإسلامية ، فكانت من نتائجها أن أطلع عن كثب على الهوة العميقة و الشاسعة التي كانت تعيشها تلك البلدان ويعيشها اليمن من ناحية وأطلع كذلك عن قرب على الأوضاع السياسية التي عاشتها تلك البلدان العربية والإسلامية تحت قيود الاستعمار الأجنبي ( إنجلترا ، وفرنسا ) . وفي الواقع أن العلامة محمد بن محمد زَباره كانت لديه رؤية سياسية واسعة وعميقة لقضايا الوطن العربي والعالم الإسلامي بصفة عامة وقضية احتلال انجلترا لليمن الجنوبي بصفة خاصة والتي سلخته من جسد وكيان اليمن ( الأم ) . ولقد عبر العلامة محمد بن محمد زَباره بقصيدة طويلة عن ذلك إبان زيارة الملك سعود إلى اليمن سنة ( 1373هـ / 1954م ) . وفي هذا الصدد ، يقول : " ... وبهذه المناسبة حررت إليهما ( الإمام أحمد ، والملك سعود بن عبد العزيز ) قصيدة طويلة راجياَ اهتمامهما بأمر الجهاد في التسع النواحي اليمنية المحتلة ، وواحة البر يمي السعودية ، وقناة السويس المصرية ، والقدس ، وفلسطين ، واستقلال دول المغرب مراكش ، وتونس وغير ذلك " . [c1]مع العلماء والزعماء[/c]والحقيقة أن العلامة والمؤرخ محمد بن محمد بن يحيى بن عبد الله زَبارة التقى بعدد غير قليل من زعماء ، وحكام ، وملوك الدول العربية والإسلامية في إبان رحلاته إلى تلك الدول ومن ناحية أخرى التقىَ علماء تلك الدول العربية والإسلامية. ويقول الباحث حسين زَباره في هذا الصدد: " وقد أثمرت هذه الرحلات عن اتصالات وصداقات متينة بينه وبين العلماء الذين التقى بهم في البلدان ... ومنهم إبراهيم الراوي في بغداد ومحمد حبيب الله مفتي الموصل ( شمال العراق ) ويوسف الدجوي في مصر وغيرهم " . ومن أبرز من قابلهم في عصره من كبار الزعماء المسلمين هو الزعيم شوكت علي في بومباي بالهند . [c1]مع الملك غازي الأول [/c]ومن الملوك والحكام العرب الذين كانوا يتحرقون شوقا إلى التحرر من قيود إنجلترا والعمل على مقارعتها بمختلف وتنوع السبل هو الشاب الملك غازي الأول ملك العراق حينذاك والذي قتل في حادث سيارة والتي تشير أصابع الاتهام إلى أن ذلك الحادث كان مدبراً من قبل الإنجليز الذين ضاقوا به ذرعاً بسبب مواقفه الوطنية تجاههم . ولقد كانت للملك غازي الأول أيادي بيضاء على اليمن منها سفر البعثة الرسمية التي سافرت من صنعاء للدراسة في العراق في سنة 1354هـ / 1935م. ولقد مدح العلامة محمد بن محمد زَبارة الملك الشاب الوطني غازي الأول ، ملك العراق في قصيدة ، تقول مطلعها : ظفرت بكنز الدهر فاخترت غازياً[c1] *** [/c]وناديت بالوادي المقدس وادياً "[c1]عالم جليل ، ومؤرخ كبير[/c]والحقيقة أن العلامة محمد بن محمد زَباره على الرغم من مشاغله الكثيرة ، ورحلاته العديدة إلى عدد من البلدان العربية والإسلامية ـ كما أشرنا سابقاً ـ . كان دائماً يسجل ويدون أعماله ليؤلف منها الكتاب أو الكتب . وهذا ما أكده القاضي المؤرخ إسماعيل بن علي الأكوع في مجلده ( هجر العلم ومعاقله في اليمن ) في الجزء الثاني بقوله : " كان أثناء أعماله هذه لا ينقطع عن الدراسة أين ما حلّ وأين ما ارتحل ، وكان ُيقَيد ما يستحسنه من فوائد وتراجم " . ويضيف قائلاً : " بأنه كان عالماً عارفاً في الفقه ، له مشاركة في علم السُنة وبعض علوم العربية ، مؤرخ ، ناظم " وكان من البديهي أن كل تلك الصفات العلمية أهلته أن يكون كاتباً كاتبا بارعا ومؤرخاً كبيرا وشاعراً جيداً . ويسرد القاضي المؤرخ إسماعيل الأكوع حادثة بأن العلامة محمد زَباره ألف مخطوط حمل عنوان ( نيلَ الوطر ) وأرسل بعض كراريسه إلى ابن الإمام يحيى الأمير بدر محمد أمير لواء الحديدة ، فنصحه بأن يعرض هذا الكتاب على والده الإمام يحيى فإذا استحسنه طلب منه أن يسمح له بالسفر إلى مصر لطبعه ، وطبع بعض الكتب اليمنية الأخرى . وكان ذلك بالفعل فقد سافر " ... ومعه جملة من المخطوطات اليمنية لطبعها ، وبعضها في مجلدات كبيرة ، ومكث بها ثلاث سنوات لهذا الغرض ". والحقيقة أن العلامة محمد بن محمد زَباره في أثناء مكوثه في مصر التقى بعدد من العلماء والشيوخ المعروفين ودرس على أيديهم العلوم الشرعية مثل العلامة محمد بن حبيب الله الشنقيطي المغربي ، وأحمد بن رافع الطهطاوي . [c1]التعريف بالمؤلفات اليمنية[/c]ومن المؤلفات اليمنية التي طبعها العلامة والمؤرخ محمد بن محمد زَباره في مصر هي ( فتح القدير الجامع بين الدراية والرواية في علم التفسير ) للإمام الشوكاني خمسة أجزاء ،. و ( الروض النضير ) في أربع مجلدات و ( تحفة الذاكرين ) و ( مجموع الرسائل اليمنية ) و ( ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان ) و ( البرهان القاطع ) ومؤلفه ( نيل الوطر في تراجم نبلاء القرن الرابع عشر ) و ( نيل الأوطار) و ( البدر الطالع ) لشيخ الإسلام الشوكاني . وكانت من نتائج طبع و نشر تلك المؤلفات اليمنية في مصر أن أحدثت أثراً حسناً بين العلماء المسلمين وفي هذا الصدد يقول الباحث حسين زَباره : " وكان لنشر هذه الكتب اليمنية تأثير كبير لدى العلماء في الدول العربية والإسلامية " . ويضيف المؤرخ القاضي إسماعيل الأكوع ، قائلا : " وقد كان لنشر بعض كتب علماء السُنة في اليمن أثر كبير في التعريف باليمن لدى علماء المسلمين ، واعتقدوا أن المذهب الزيدي ليس بعيداً عن أهل السُنة مادامت كتب هؤلاء الأئمة هي كتب المذهب الزيدي " . [c1]مؤلفاته[/c]ويورد لنا المؤرخ القاضي إسماعيل بن علي الأكوع في ( هجر العلم ومعاقله في اليمن ) قائمة بمؤلفاته وما تحتويه من معلومات عنها على سبيل المثال : أئمة اليمن ، تناول فيه ِسيَِِر الأئمة من الهادي يحيى بن الحسين إلى آخر المئة للهجرة . طبع في مطبعة النصر بتعز سنة 1372هـ / 1953م . أئمة اليمن بالقرن الرابع عشر (سِيرة الإمام يحيى حميد الدين ) ( جزآن ) طبع في المطبعة السلفية 1376هـ / 1956م . ملحق البدر الطالع للإمام الشوكاني . نزهة النظر في رجال القرن الرابع عشر ، هذبها ونقّحها القاضي عبدُ الله بن عبد الكريم الجرِافي ، ثم أضاف إليها تراجم من لم يكن له ذكر فيها . ونيل الوطر من تراجم رجال اليمن في القرن الثالث عشر ، طبع في مصر . نشر العرف لنبلاء اليمن بعد الألف في مجلدين كبيرين طبع في مصر وغيرها من الكتب القيمة التي ألفها . [c1]نزيه مؤيد العظم[/c]ويرسم الرحال نزيه مؤيد العظم صورة عن بعض ملامح شخصية العلامة محمد بن محمد زَباره والذي أعجب به أعجابا شديداَ لذكائه الحاد ، فيقول : " ... فحدثني سيادته أحاديث مطولة وتكرم علي ببعض الأخبار والرسائل وقد أظهرت لي أحاديثه ذكاء نادراً وعلماً واسعا ، ولطفاً زائداً " . [c1]ما هي الأسباب ؟[/c]ونقف عند أهم محطة من محطات حياة العلامة والمؤرخ محمد بن محمد بن يحيى زَبارة وهي تصادمه مع الإمام يحيى حميد الدين . والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة وهو ما الأسباب التي دفعت بمحمد زَبارة أن ينتقد الإمام يحيى ذلك النقد اللاذع ؟ . وسنحاول الإجابة على ذلك السؤال ؟ . في الحقيقة أن العلامة محمد بن محمد زَباره كان يعرف كل دقائق الأمور الذي طبع عليها الإمام يحيى أو بعبارة كان يعرف شخصيته بصورة واضحة منها على سبيل المثال البخل الشديد ، وعقليته المتحجرة في حكم اليمن ، وأنه صعب المراس ، . فقد أحتك به وهو شاب في مقتبل العمر ولم يتجاوز من العمر عشرين عاما . فقد درس على يديه العديد من العلوم الشرعية من ناحية و كسب ثقة الإمام بسبب أمانته وقدرته الفائقة في التنظيم الإداري من ناحية ثانية وقدرته على أداء المهام الموكولة إليه وحل الخلافات والمنازعات التي تحدث في بين أمراء المناطق بين الحين والأخرى ، وحل المشاكل التي تقع بين الأهالي وعمال المنطقة بطريقة سلسة من ناحية أخرى . وكان أيضاَ يجمع الزكاة من الأهالي فكل تلك العوامل مجتمعة كانت كافية أن تجعله يطلع على مجريات الأمور وأحوال المملكة المتوكلية عن كثب . ويبدو أن العلامة والمؤرخ محمد بن محمد زَباره قد هالوه ما شاهده ولمسه من الجور ، والعنف الذي كان يقع على ألأهالي من قبل عمال وجنود الإمام يحيى وخاصة في جمع الزكاة ، والصدقات ، والضرائب ، والإتاوات ، والجبايات الذي كان يفرضها عليهم من ناحية وترهيب عمال وجنود الإمام في ابتزاز أموال الناس. ولقد أشرنا سابقاَ أن مؤرخنا محمد بن محمد زَباره سنحت له الظروف أن يسافر إلى العديد من البلدان العربية والإسلامية فلمس الفرق الواضح بين تطورها وتخلف اليمن المخيف في مختلف ميادين الحياة السياسية ، الاقتصادية ، والاجتماعية وعلاوة على ذلك كان محمد بن محمد زَباره عالماَ جليلاً معروفاً بغزارة علمه ، وأتساع مداركه كل تلك العوامل التي سبق وأن ذكرناها قبل قليل هي التي دفعت العلامة محمد زَباره دفعاً أن ينتقد الإمام يحيى حميد الدين وأركان نظامه الذين كانوا يسومون الأهالي العذاب الغليظ يحولون حياتهم إلى قطعة من العذاب . وهذا ما أكده الباحث حسين زَباره حول الأسباب التي أدت بالعلامة والمؤرخ محمد بن محمد زَباره إنتقاد أسلوب الإمام يحيى في حكم اليمن بقوة ، فيقول : " ... أن مؤرخنا بطموحه وذكائه وتكرار سفرياته وملاحظاته وجد تأخر اليمن علمياً وإداريا واقتصاديا ومعيشياً وتنظيما لحياة المواطنين مقارنة ببعض الدول العربية والإسلامية في المنطقة . فقد رأى لزاما عليه التشديد بالنصح للإمام ولو بالخروج عليه . فبدأ يصبو إلى محاولة عمل أي شيء للتغيير ، بعد أن رأى عدم جدوى نصائحه السابقة اللينة . فقرر الخروج من اليمن والاستعانة بالزعماء والعلماء في الدول العربية والإسلامية " . [c1]رياح الغضب[/c]ولقد كانت قوة الهجوم أو التصادم مع الإمام يحيى من قبل العلامة محمد بن محمد بن يحيى زَباره بمثابة وقوع الصاعقة على رأس الإمام . فقد عقد محمد زَبارة مؤتمراً صحفيا في البلدان الذي زارها كالهند ، العراق ، والهند . وأنتقد فيه الإمام يحيى انتقادا لاذعاً في أسلوب حكمه وكشف مساوئ نظامه . وفي هذا الصدد ، يقول المؤرخ القاضي إسماعيل بن علي الأكوع : " هذا وقد عقد مؤتمراً صُحفياً ندّد فيه بسوء أعمال الإمام يحيى حميد الدين ، وما يرتكبه من مظالم ، ونَصَبَ نفسه محتسباً عليه ، وطلب تأليف هيئة من كبار العلماء على رأسها العلامة الكبير زيدُ بن علي الديلمي لتنظر في موضع الاحتساب على الإمام ، كيف يعبثُ بأموالِ المسلمين ويستغلها لنفسه وأهله وأولاده حتى السبُّحة التي يسبح بها من أموال بيت المسلمين " . ومن العراق أرسل قصيدة بعنوان ( الدين النصيحة ) ، " وكان لها وقع شديد في نفس الإمام ". والقصيدة من الشعر الاجتماعي الناقد للإمام يحيى والذي عرىَ أساليبه الظالمة تجاه اليمنيين . ونقتطف بعض من أبياتها : تناهوا تناهوا عن عموم المظالم[c1] *** [/c]وتهوين أمر الظلم من كل ظالـم وتغميض عين عن فضائح آمــــر[c1] *** [/c]هلوع ولوع باقتناص الدراهموجعل حقوق بالمسلمين مُباحـــة[c1] *** [/c]لقاضي وسجان وجند وخادموتمكين حُجاب وأعوان آمر[c1] *** [/c]من السّلب في أبواب وال وحاكمإلى أن قال :ألاّ أيقظوا أحلامكم وتنزهوا[c1] *** [/c]عن الشح إن الشح شر المآثممضى العمر والأطماع تزداد فانتهوا[c1] *** [/c]عن الشح والأطماع يا آل هاشمولا تجعلوا أسباب تغيير نعمة[c1] *** [/c]عن اليمن الميمون شر التظالم [c1]ميثاق الله[/c]ويشرح الباحث حسين زَباره الجزء الثاني من القصيدة التي حملت عنوان ( ميثاق الله ) بأنها كانت تدعوا إلى نشر رداء العدل بين الناس ، ومقت الظلم والجبروت ، وفي نفس السياق يوضح حسين زَباره في المقطع الثالث من القصيدة بأنها كانت " دعوة للتأسي بالرسول وصحابته الذين لم يبتنوا داراً ولا امتلكوا مالاً وكان همهم الأكبر الدعوة للحق والعدل والجهاد في سبيل الله وإنقاذ المستضعفين من العباد ، ويضيف حسين زَباره قائلاً : . وفي هذا المقطع خروج من التلميح إلى التصريح " وفيها ، يقول : فما الخير إلا بالتأسي بأحمد[c1] *** [/c]وبالآل والأصحاب أهل المراحمهم سلف الخير الكرام وأنتـم[c1] *** [/c]لهم خلف لا تقتدوا بالأعاجمولا بامرئ فظ غليظ فؤادة[c1] *** [/c]حقود على أنصاره غـير راحم[c1]" لم تخش لومة لائم "[/c]ويقول المؤرخ القاضي إسماعيل الأكوع في مجلده (( هجر العلم ومعاقله في اليمن )) بأن أحمد بن عبد الوهاب الوريث المتوفى سنة ( 1359هـ / 1940م ) نظم قصيدة مماثلة لقصيدة محمد بن محمد زَبارة عندما التقى به في مكة المكرمة سنة 1355هـ / 1936م ، فتقول بعض أبياتها : أهبت بملك في كلا الظلم سائم[c1] *** [/c]أبا أحمد لم تخش لومةَ لائمأهبت بمن لا يعرف الدهر خطة[c1] *** [/c]يسيرُ عليها غيرَ خطِة غِاشمأهبتَ بمَن لا تُرتجي من يقظـة[c1] *** [/c]لتحسين أحوال ورفع َمظالمصرختَ فأسمعت الكواكبَ[c1] *** [/c]تداعت لها أركان مَخدعِ ظالم [c1]من الشعر الاجتماعي[/c]وفي واقع الأمر ، كان العلامة محمد بن محمد زَباره من الرواد الأوائل الذين خاضوا في القضايا الاجتماعية في عهد الإمام يحيى ، وأظهروا الظلم البشع على اليمنيين على تباين فئاتهم الاجتماعية ـ كما قلنا سابقاً ـ . وهذا ما أكده الباحث حسين زَباره عندما ذكر أن العلامة محمد بن محمد زَباره كان من السابقين الأوائل الذين سلطوا أضواء كاشفة وقوية على الأوضاع الاجتماعية البائسة التي كانت سائدة في عهد حكم الإمام يحيى حميد الدين ، وأركان نظامه القاسي . ولقد ذكر قصيدة للعلامة محمد بن محمد زَباره بعنوان ((الذكرى تنفع المؤمنين )) تضمنت واجب الإمام يحيى تجاه الفقراء . وتعرضت كذلك للأمراء الذين يتاجرون بأقوات الشعب . وظلم العمال والحكام ، والمحتسبة الذين يسلبون أموال الناس بالباطل ، وكيف صار كتاب الحكومة ، والوكلاء يبتزون الناس دون رقيب وحسيب ولا خوف ولا وجل بسبب أن النظام يحميهم . وفي القصيدة ـ كذلك ـ احتوت على تحذير للإمام يحيى من مغبة ظلم الشعب حتى لا يؤول مصيره مثل مصير الآخرين من الحكام والملوك الذين انحرفوا عن الجادة ، وأذاقوا شعبهم الويل والثبور كمثل نهاية ملوك إيران ، ألبانيا ، آل عثمان ، وأشراف مكة الوخيمة في ثلث قرن . ويمضي حسين زَباره في الحديث عن القصيدة ( الذكرى تنفع المؤمنين)، قائلا : " ويبلغ عدد أبيات قصيدة الذكرىَ مائة وتسعة أبيات ، تركز جانب منها على الدعوة إلىَ إنفاق الأموال والتحذير من اكتنازها وما يترتب على ذلك الاكتناز من حرمان لأبناء الشعب ومن إهمالهم لتعاليم الدين الحنيف وما توعدت به آيات القران الكريم المكتنزين من عذاب أليم " وتقول بعض أبياتها :تنفع الذكرى رعاة المؤمنين[c1] *** [/c]ورعاة المسلمين الموقنينانفقوا مما جمعتم في بني[c1] *** [/c]دينكم ترضون رب العالمينفي الأباة الصابرين الصادقين[c1] *** [/c]العفاة القانعين البائسيـنان جمع المال لا ينجي و لا[c1] *** [/c]يدفع التسليط عن مستوجبينـإن كنز المال قد يوقع في الـ[c1] *** [/c]ـخزي والخسران في دنيا ودينإن كنز المال لا يغني إذا[c1] *** [/c]طمع الأعداء في المكتنزينواذكروا هل بات في منزله[c1] *** [/c]درهم وهو ختام المرسلينواللافت للنظر ، أن العلامة والمؤرخ والشاعر محمد بن محمد زَباره كان يركز في العديد من قصائده ومنها تلك القصيدة على التنبيه إلى صرف الأموال للفقراء والمساكين أو بعبارة أخرى صرفها على الرعية ، . وإن كنز الأموال من قبل الحاكم أو الحكام سيجلب عليهم الخسران في الدنيا والآخرة من ناحية ، وأن كنزها لن يغني عنها دفع طمع الطامعين فيها من ناحية أخرى . والحقيقة تلك الأبيات التي ذكرناها قبل قليل كانت إشارة واضحة وصريحة للإمام يحيى حميد الدين المعروف ببخله الشديد والذي كان يخزن أموال الشعب التي كانت تأتيه من الزكاة ، والصدقات ، والضرائب ، والإتاوات ، والجبايات ، ويظن أنها من أمواله فلا ينبغي صرفها لهم أو في وجه من وجوه أمور البلاد . [c1]مع الشهيد الزبيري[/c] يقال أن الشهيد المناضل محمد محمود الزبيري ، وصف العلامة محمد بن محمد بن يحيى زَباره بأنه " أول من ثار على حكم آل حميد الدين ويعتبره ( أبو الثوار) . ويحلل الباحث حسين َزباره تلك العبارة ، بقوله : " كان قصد أستاذنا الأديب الكبير عبد العزيز المقالح بإشادته الكبيرة بمؤرخنا في كتابه ( من الأنين إلى الثورة ) هو الاستدلال بنقد مؤرخنا لظلم وجبروت الإمام " . ويضيف حسين زَباره ، فيقول : أن " الأديب العالم الكبير صالح مرشد المقالح ممن يلازم جلسات مؤرخنا زَبارة العلمية الأدبية السياسية لما ذكر في بداية كتابه ( من الأنين إلى الثورة ) من أن مؤرخنا زَباره هو أول من قاد حركة النقد لسوء إدارة الإمام وحكومته " . [c1]مجلس العلم والأدب[/c] والحقيقة أن مؤرخنا العلامة محمد بن محمد زَباره ، بعد فترة من الزمن عاد إلى صنعاء ، وأستقر بها ، وعينه الإمام يحيى رئيساً للجنة كتابة تاريخ اليمن . وأوضح المؤرخ القاضي إسماعيل بن علي الأكوع بأنه بعد عودته واستقراره في صنعاء اليمن . كان يعقد في منزله مجلساً للعلم والأدب . وكان " يغشى مجلسه بعضُ علماء صنعاء ، وأدبائها فتدار فيه كؤوسُ المذاكرة ، وتقرأ فيه كتب السُنة ، ولا يخلو هذا المجلس من نكتة أو غمز أو لمز ممن يحضر ذلك المجلس للإمام يحيى ، فنقل إليه ما يدور فيه " . ونتيجة ذلك كتب الإمام يحيى لمؤرخنا العلامة محمد زَباره أن يخرج من صنعاء إلى خولان ، قائلاَ له : " قد صار ديوانكم مأوىَ لمن في قلبه مرضُُ ُ. وسلامةُ ُ لنا ولكم قد رأينا انتقالكم إلى خولان ، وأمهلناكم أسبوعاَ" . وعندما علم ولي العهد أحمد حينذاك أن مؤرخنا العلامة محمد زَباره سيغادر صنعاء إلى خولان ، أسرع بكتابة رسالة إلى والده الإمام يحيى ، يحذره من مغبة رحيله إلى خولان لأن ذلك سيؤلب عليه المشاكل هناك ، قائلاً له : " وأن الأولىَ بقاؤه ( أي محمد زَباره ) في صنعاء تحت سمع الإمام وبصره " . ويضيف المؤرخ القاضي إسماعيل الأكوع ، قائلا : " فوافق الإمام على بقائه في صنعاء بشرط أن لا يَسمح للناس بالمقيل عندَه ، ولكن مجلسه ظلّ مفتوحاً لمن يرغب في الذهاب عنده ، واقتصر الحديث في ذلك المجلس على العلم والأدب " . [c1]من أهم مصادر التراجم[/c]وفي الواقع أن مؤرخنا العلامة محمد زَباره بعد أن أستقر في صنعاء ، وتبددت غيوم المشاكل بينه وبين الإمام يحيى ، عكف على كتابة تراجم العلماء ، والفقهاء ، فكان يراسل " ... أعيان عصره في مدن اليمن وهجره لموافاته بتراجمهم وتراجم أسلافهم ، وقد جمع من الكتب التاريخية عدداً كثيراً أعانته على تأليف كتبه الكثيرة التي هي اليوم من أهم مصادر تراجم أعلام اليمن المتأخرين " . [c1]وطوىَ الموتُ شمساً[/c]وفي 16ذي الحجة سنة 1380هـ / 1960م ، غربت شمس مؤرخنا العلامة محمد بن محمد بن يحيى بن عبد الله عن سماء اليمن عن عمر ناهز التاسعة والسبعين عاماً . كانت مليئة بالعطاء المتواصل والمتجدد في مختلف ميادين الحياة ، وكان عالماً نابغا ، ومؤرخا كبيراً . وكاتباً بارعاً ، وشاعراً مجيداً ، ودبلوماسياً ذكياً . ورثاه العلامة الكبير القاضي عبد الرحمن الأرياني في قصيدة عصماء تنثال منها الحزن والأسى الكبيرين ، تقول بعض أبياتها :طوى الموت شمساً كم أشعت بأنوار[c1] *** [/c]وغيب بدراً كم هدى نوره المسار وأضحى إماماً اعلوم وجبهذا[c1] *** [/c]يفيض كيم بالمعارف زخارلقد شيعوا في النعش تاريخ أُمة[c1] *** [/c]وواروا بطن الأرض أمجاد إعصار ولفوه في الأكفان طِيباً وحكمة[c1] *** [/c]وفضلاً وعرفاناً وكعبة أنظاروواروه مثوىَ ( جربة الروض) بينما[c1] *** [/c]غدت روحه في جنة ذات أنهار [c1]الهامش[/c] حسين بن أحمد بن محمد زَبارة ؛ بحث بعنوان : المسار الحياتي للمؤرخ زَبارة ، مركز البحوث والدراسات اليمنية بجامعة عدن . بتاريخ 17شوال 1427هـ / 8 نوفمبر 2006م .القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ هجر العلم ومعاقله في اليمن ، الجزء الثاني، الطبعة الأولى 1416هـ / 1995م ، دار الفكر المعاصر ، لبنان ـ بيروت ـ .
|
تاريخ
لمحات عن مفكر اليمن محمد زَبارة
أخبار متعلقة