مرافئ
* علم بارز من إعلام الفكر والإعلام في اليمن.واذا أردت أن أكون اكثر إنصافاً فانه رائد في مجال تبسيط العلم وتقديمه إلى كل الناس. انه بمثابة المعلم، فيه حكمة الفيلسوف وبساطته، وفي يده مشعل العلم والمعرفة، وجسارة الفارس، وفيه كل روعة الانسان.انه الأستاذ/ أحمد عمر بن سلمان ومن سواه يمكن ان تطلق عليه كل هذه الصفات التي يستحقها عن جدارة؟!فعلى كثرة الإعلاميين في الوطن العربي والعالم وعلى كثرة الاذاعات التي تبث برامجها طوال اليوم على قلة البرامج العلمية فيها، من مثله استطاع أن يقدم العلم ومنجزاته إلى الناس بالسلاسة والبساطة اللذين قدمهما به عبر أثير "اذاعة عدن" لعدة عقود في برنامجه الاسبوعي ذائع الصيت : "العلم والانسان".وهي بساطة وسلاسة جعلت العالم في متناول الجميع. المختص وغير المختص. المتعلم والأمي. طالب " العلمي" و"طالب الأدبي" الصغير والكبير الرجل والمرأة بدون استثناء.قصة نجاح رجل عصامي عمل بدأب وتجاوز كل الصعاب، ومثل يحتذى، على الشباب والأجيال الجديدة ان تمثله وتقتدي به.يعود جزء كبير من نجاح برنامج " العلم والانسان" إلى شخصية معده ومقدمه. وإلى شغفه بالعلم ومنجزاته، ومتابعة تطوراته، وكل جديد في مختلف مجالاته. وإلى ثقافته واجادته للغة الانجليزية.وهي لغة العلوم العصرية في زمننا الحاضر بعد ان أخذ العرب والمسلمون اجازة مفتوحة من العلم والحضارة. وصارت المكتشفات العلمية الهائلة خلال القرنين الماضيين حكراً على الغرب!هو واحد من اولئك الذين صنعتهم ظروف الحياة. كانت طفولته في مدينة غيل باوزير بحضرموت غير بعيد من مدينتي المكلا والشحر. وهي رباط علم مثلما هي مدينتا تريم وزبيد، الحياة فيها نموذج مصغر لبانوراما حضرموت آنذاك من عادات وتقاليد ومن موروث قديم، تختلط فيها مراحل الحضارة الحضرمية، ويعيش أهلها مثلما هو الحال في كل اليمن وسط الاسرة الممتدة حيث يسود التكافل الاجتماعي، لكنها تختلف عنها في نزوع المجتمع نحو السلم والمدنية ، ومعرفة التعليم الذي لم يكن متاحاً في جميع حواضر حضرموت ناهيك عن ريفه حتى منتصف القرن العشرين.تلقى أحمد عمر بن سلمان تعليمه الابتدائي في مسقط رأسه، وكذلك الدراسة الوسطى " الاعدادية" وكانت المدرسة الوسطى بغيل باوزير تتصف بمواصفات لاتتمتع بها أية مدرسة مماثلة في حضرموت في ذلك الوقت ولاحتى بعده.وإلى جانب ما كانت تقدمه لطلابها الذين كانوا يأتون اليها من بين المتفوقين من كل حضرموت من علوم ومعارف عصرية على يد مدرسين مميزين، كانت تعد تلاميذها اعداداً خاصاً يجعلهم قادرين على الاعتماد على ذاتهم، وعلى التفكير، واعداد قدراتهم لكي يكونوا قادرين على احداث التغيير والتطوير. وكانت الفرق الكشفية، والجماعات العلمية الزراعية والجغرافية، والأنشطة الرياضية والثقافية جزءً من هذا الاعداد وهو ما تفتقر اليه مدارسنا اليوم بكل اسف.وفي هذا نستعيد بعضاً من اسماء تخرجوا من هذه "المدرسة الأم" كما اطلق عليها تلميذها ومديرها فيما بعد التربوي القدير والدبلوماسي اللامع الاستاذ محمد سعيد مديحج ومن هؤلاء: د. محمد عبدالقادر بافقيه ، د. سعيد عبدالخير النوبان، علي سالم البيض ، صالح منصر السيلي د. فرج بن غانم ، المهندس فيصل بن شملان، محمد عوض باعامر ، جمعان بن سعد، د. سالم عمر بكير، عبدالله صالح البار ، محمود سعيد مدحي ، الاخوة خالد وسالم وفائز عبدالعزيز ، ابوبكر سعيد باعباد ، طالب جعفر بن شملان ، عبدالله عبدالكريم الملاحي ، عبدالرحمن الملاحي ، فاروق عثمان بن شملان ، حيدر أبوبكر العطاس ، فيصل العطاس ، عبدالعزيز باعيسى ، عبدالرحمن عبدالقادر بافضل ، والقائمة تطول .فقد كانت " وسطى الغيل " بحق " مصنع الرجال " في حضرموت . وقد واصل العديد من خريجها دراساتهم الثانوية والجامعية والعليا فيما بعد، وتبوأ عدد كبير منهم مراكز حساسة في جهاز الدولة قبل وبعد الاستقلال ، وفي دولة الوحدة، ومازال بعضهم حاضرين بقوة حتى اليوم في المشهد السياسي والثقافي والأدبي على مستوى البلد كله. من هذه المدرسة تخرج أحمد عمر بن سلمان الدفعة الرابعة العام 1954 ـ 1955م ومن دفعته د. عوض عيسى بامطرف ، عوض فرج حيدر ، د. صالح عبدالملك بن همام ، عبدالرحيم حامد السقاف ، عبدالله محمد باحويرث ، عبدالله عبدالكريم الملاحي ، سعيد يسلم الرباكي ، أحمد عبدالغفور الهندي ، عمر سالم جيشان ، سالم سعيد بن غوث ، فرج أحمد عبدالغفار ، عبدالرحيم يعقوب باوزير ، سالم محمد باحويرث ، وسالم بن عبدالرحيم يعقوب ، وكان التربوي القدير أحمد بن طاهر باوزير أحد أهم المدرسين الذين تلقوا العلوم على يديه .بعد تخرج أحمد عمر بن سلمان بتفوق ذهب على مصر لدراسة الثانوية ثم الطب ، كانت الحياة في مصر مغايرة سياسياً وفكرياً واجتماعيا عنا ألفه الفتى في مدينته غيل باوزير ففتحت آفاقه على عالم جديد ، وعلى عوالم ثقافية ، وعلى معارف علمية حديثة ، اخذت لبه واهتمامه .لكن حادثاً مؤلماً ومأسأوياً وقع لاسرته في بلدته اضطره إلى قطع دراسته للطب، فقد حلمه في ان يغدو طبيباً، لكنه يتجاوز المحنة، وبفضل شغفه بالعلم استبدل الدراسة الاكاديمية بالقراءة والتثقيف الذاتي .كان النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم عصراً سريع التطور والايقاع ، وتكتشف فيه في كل يوم تقريباً منجزات ومخترعات علمية جديدة، ويتوصل فيه العلماء إلى المزيد من النتائج العلمية التي تنتقل بسرعة وتسهم بفضل ما ينتج عنها من اختراعات بتغيير مصير البشرية وتجعل حياة الانسان اكثر سهولة وتعقيداً في نفس الوقت.وكان بن سلمان الذي يتابع تلك التطورات المذهلة، والقوة الهائلة الذي حققه الغرب بسبب تقدمه العلمي والحضاري مما تتاح له السيطرة على شعوب الشرق وجعلها بحكم التابع لها ، يحز في نفسه ما اصبحت أمته عليه من تخلف، ويتوق إلى جعل حقائق العلم في متناول أكبر عدد من الناس في بلاده، لايمانه بالدور الكبير والخطير الذي يلعبه العلم في حياة البلدان والشعوب وفي تقدمها الحضاري.وكان الرجل وقد ادرك البعد الهائل للعلم ومنجزاته في التطورات الانسانية الكبرى خاصة في القرنين التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين المنصرمين يبحث عن وسيلة تمكنه من ايصال نتائج تلك العلوم إلى الناس في بلاده.أدرك الرجل بذكائه وفطرته السليمة، وايضاً بحكم متابعته للتطورات من حوله ان الاذاعة هي الوسيلة الإعلامية الاكثر تأثيراً وانتشاراً والأنسب لتقديم حقائق العلم إلى الناس، على عكس الصحافة في بلاده المحدودة التوزيع والتأثير لارتفاع نسبة الامية بين السكان وقلة عدد المتعلمين وعلى عكس التلفزيون ايضاً الذي لم يصبح بعد منافساً قوياً للاذاعة كما هو اليوم .وهكذا وقع اختياره على "اذاعة عدن" وهي يومها من بين أقوى محطات الاذاعة في المنطقة وأوسعها انتشارالكنه وقد اختار الوسيلة التي سيقدم من خلالها برنامجه العلمي، كان عليه ان يتجاوز عقدة هامة وهي صعوبة المادة والمصطلحات العلمية وكيفية ايصالها إلى أكبر عدد من المستمعين.ولما كان يعي ان مستمعيه من مختلف المستويات العلمية، ومن مختلف الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية وغالبيتهم من الأميين ، أو من الذين ليست لديهم اهتمامات بالعلوم فقد اهداه تفكيره إلى سبيل تبسيط المعارف العلمية بحيثث يفهمها الجميع.وبعد ان تجاوز هذه العقدة كان عليه ان يصيغ مادته العلمية بأسلوب إعلامي ـ اذاعي ويقدمها بلغة بسيطة يفهمها العامة قبل ذوي الاختصاص أو الاهتمام.وفوق نجاحه في تجاوز هاتين العقدتين فان شخصيته الفذة التي تتمتع بقدر كبير من الظرف الانساني ساهمت إلى حد غير متوقع في نجاح برنامجه العلمي إلى الحد الذي استمر في تقديمه لنمو نصف قرن تقريباً.ليس ذلك فحسب، بل انه جعل من عقدة لسانه كتلك التي دعا موسى "عليه السلام" ربه ان يحلها عندما قال " وارسل أخي هارون معي إلى فرعون واحلل عقدة من لساني" سبباً اضافياً من اسباب نجاحه العلمي والإعلامي، بدل ان تكون عائقاً في طريقه .نستطيع القول ان أحمد عمر بن سلمان استطاع من خلال برنامجه " العلم والانسان" أن يحبب العلم إلى المتعلم كما إلى الانسان العادي الذي ليست لديه اهتمامات علمية من أي نوع وان يبسط له علوم العصر ويجعلها مفهومة له ومحببة اليه، فاقبل الناس على برنامجه وعلى الاستماع اليه. وما أعرف برنامجاً علمياً أو غير علمي واحب معده ومقدمه على تقديمه اسبوعياً عبر الاذاعة بنفس الدرجة من النجاح خاصة في الوطن العربي وعلى مدى عقود.واعتقد ان ذلك يعود بدرجة رئيسة إلى أن الاستاذ/ أحمد عمر بن سلمان صاحب رسالة علمية وإعلامية يريد ايصالها إلى الناس، وليس مجرد معد ومقدم لبرنامج اذاعي لايحقق من ورائه إلا دخلاً مادياً ضئيلاً.وهذا الايمان بالرسالة التي يؤديها كان من الاسباب القوية في اصراره على تقديم برنامجه في موعده الاسبوعي طوال كل هذه العقود.ولاشك في انه كان على أتم الادراك بالدور الذي يلعبه العلم والمعلومة كقوة في تحرير الانسان من سيطرة الجعل ووطأة الخزعبلات والتقاليد البالية، فكرس حياته لنشر العلم والمعرفة وتحرير الانسان روحاً وعقلاً وفي ذلك تكمن روعته وريادته.