( فاضل الربيعي )قيصر: حذار من منتصف آذار ( من مسرحية يوليوس قيصر لشكسبير) بعد أسبوعين أو أكثر قليلا من الآن، وحتى أربعة أشهر قادمة سوف يستعد رئيس الوزراء العراقي السابق أياد علاوي، وبالتحالف الوثيق مع الأكراد وربما مدعوما من أوساط سنية تحركها مخاوف حقيقية من نفوذ الأحزاب والمليشيات الشيعية، إلى العودة لواجهة الأحداث كرئيس وزراء لفترة دستورية تمتد أربع سنوات متتالية. يبدو هذا السيناريو خياليا بعض الشيء, بيد أن جملة من المعطيات والوقائع على الأرض تشير إلى أن حظوظ علاوي لا تزال جيدة، وأن الرجل بفضل عدد كبير من العوامل المتشابكة والمعقدة في الحياة السياسية الراهنة، سوف يصبح على أعتاب حقبة هي الأهم في تاريخه السياسي. الأميركيون متحرًًقون لرؤية علاوي عائدا إلى واجهة الأحداث كرئيس وزراء, بالقدر ذاته من التحرًق لرؤية تقلًصٍ مطردٍ في نفوذ الجماعات الشيعية بما فيها تيار مقتدى الصدر. يعني هذا أن علاوي الثاني سيكون خلاصة ونتاج تلاقٍ لحزمة من الإرادات والمطالب السياسية، التي تبدو متناقضة في الظاهر عند مختلف اللاعبين. فمن جهة هناك إرادة الأكراد, الذين اكتشفوا بمرارة أن حلفاءهم من الأحزاب الشيعية قد نكثوا بوعودهم خلال العام الماضي، وبشكل أخص بوعدهم القديم والأهم: دعم فدرالية كردستان في حال سقوط النظام البعثي تماما, كما اكتشفوا أن النزاع الذي نشب بين رئيس الجمهورية الكردي جلال الطالباني، ورئيس الوزراء الشيعي إبراهيم الجعفري خلال الأشهر الماضية حول الصلاحيات، هو في جوهره أبعد بكثير من مجرد خلاف شخصي وقانوني حول دور وحدود سلطة كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء. وبالتالي, فقد أصبح من المؤكد أن خيار الأكراد سيتبلور حول محور علاوي، بدلا من محور الأحزاب الشيعية. وبالفعل ثمة مؤشرات كثيرة تدل على أن الأكراد باتوا أقل حماسة لاستمرار تحالفهم مع "الكتلة الشيعية" وقد يفضلون تحالفا "فضفاضا وجديدا"، يلعب فيه علاوي والأحزاب والجماعات العلمانية والليبرالية دورا أكبر. ومن جهة أخرى هناك الأميركيون الذين ضاقوا ذرعا بتعاظم النفوذ الإيراني المستند وبشكل وثيق إلى تعاون غير منظور مع الأحزاب والجماعات الشيعية. ومع ذلك ستظل هناك الإرادة الأكثر ديناميكية بين سائر الإرادات الأخرى, نعني الشعور الجماعي عند العراقيين قاطبة أن علاوي يمثل الخيار الوحيد المتاح في هذه المرحلة لتقليص مساحة "الجحيم" في الحياة اليومية. وهذا حقيقي تماما لا لشيء إلا لأنه مدعوم من الأكراد وربما جزء كبير من أهل السنة، سيشكل -وبصورة تلقائية- حاجزا يصعب اختراقه من جانب الأحزاب الشيعية، وأن وجوده كرئيس للوزراء سوف ينزع من أيدي المليشيات الطائشة لا سلاحها وحسب, وإنما ذخيرتها "الطائفية" التي ظلت تستخدمها طوال العامين الماضيين. علاوي الثاني هذا سوف يذكًر العراقيين مع كل مناورة سياسية يقوم بها من أجل العودة إلى موقعه الأثير كرئيس وزراء، بأطياف نوري السعيد رئيس الوزراء الداهية في العهد الملكي، والتي ظلت تحوم في سماء العراق مع تسع وزارات دون انقطاع تقريبا. إن أطياف علاوي التي تلوح اليوم في منامات العراقيين الساخطين واليائسين من حل قريب لمشكلة "الأمن والخدمات" ليست هي تماما وبالضبط أطياف السياسي العجوز نوري السعيد، بل أطياف نوري السعيد في ذروة صعوده وفي قمة أدواره. بيد أن عودة علاوي المتوقعة لن تكون في خاتمة المطاف إلا نتاج ألاعيب ومناورات ودسائس مثيرة. إنه الطبعة الشعبية الأميركية الجديدة من نسخة نوري السعيد البريطانية القديمة. وثمة في هذا النطاق شبه محدود من التماثل بين الرجلين، قدر كافٍ، على أي حال، لرسم صورة هي الأقرب للأصل ولكنها ليست طبق الأصل. ما يريده أهل السنة وبكافة قوائمهم واضح بما فيه الكفاية: قطع الطريق على تواصل محاولات التهام السلطة من جانب الأحزاب الشيعية، وإلى حد ما وقف سيطرتهم المتعاظمة على مصادر القوة والنفوذ والمال في البلاد، والأهم من كل ذلك، أن يساعد وصول علاوي الثاني في تقليص مساحة القتل على الهوية.بيد أن طموحهم الأكبر سيظل -وكما بينت سلسلة من التصريحات- تمكنهم من حشد قوى أكبر داخل الجمعية الوطنية لتعديل مواد الدستور العراقي المختلف عليها. إن هذا الطموح وإن بدا خياليا "بعض الشئ، إلا أنه يبدو ممكنا" بالنسبة لأهل السنة. وعلى الأرجح ثمة وهم كبير يتلاعب بسياسات القوى والأحزاب المراهنة على إمكانية تعديل مواد الدستور. مصدر هذا الوهم أن تحالفا فضفاضا مع علاوي الثاني والليبراليين والعلمانيين والأكراد، يمكن أن يثمر اتفاقا مبدئيا أو نهائيا على التعديل. المعضلة الكبرى في التخلص من هذا الوهم تكمن في وجود اعتقاد خاطئ يقول، إن الأميركيين والأكراد وعلاوي يمكن أن يقبلوا بالتخلي عن فكرة الفدرالية لصالح تحالف عريض مع السنة داخل الجمعية الوطنية تنتج عنه حكومة متوازنة.في الواقع لا الأكراد في وارد قبول التعديل ولا الأميريكيون في وضع يسمح لهم بإبداء الحماسة له، كما أن علاوي الثاني لن يكون هو نفسه علاوي الأول. إنه رئيس وزراء محكوم بشروط التحالفات التي ستأتي به إلى السلطة من جديد. وهذه التحالفات لا يلعب فيها أهل السنة سوى دور محدود للغاية (من المتوقع أن يحتل السنة 45-50 مقعدا).ولكن إذا كان علاوي سوف يصبح رئيسا للوزراء بفضل التحالف مع الأكراد و"أهل السنة" من جهة، وبالاعتماد على دعم جماعات متفرقة من الليبراليين والمستقلين والعلمانيين داخل الجمعية الوطنية الجديدة، وحتى من شخصيات شيعية "منشقة على الائتلاف الموحد"، وبالتعاون الوثيق والمكشوف مع السفارة الأميركية في بغداد من جهة أخرى, فإن كل ما سوف يأمل به المتحالفون الكبار معه سيكون على النحو التالي: الأكراد مثلا الذين شعروا بالمرارة من الجعفري لتلاعبه بنصوص "قانون إدارة الدولة" وإلى الحد الذي مكنًه من تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية الكردي (الطالباني) وحتى من مصادرة بعضها, بل وتجرًعوا مرارة التسويف الحكومي فيما خصً مسألة كركوك والفدرالية, سيأملون من تحالفهم مع علاوي هذه المرة وخلال حقبته الثانية، لا دعم صلاحيات رئيس الجمهورية الكردي وبحيث يصبح رئيسا حقيقيا وبصلاحيات حقيقية خلال أربع سنوات متتالية وحسب, وإنما كذلك سيشترطون خلال المفاوضات الشاقة لتشكيل الحكومة المقبلة على عدم المساس بفكرة الفدرالية. هذان الشرطان اللازمان لتأسيس تحالف كردي مع علاوي يوصله إلى رئاسة الوزارة، وحدهما ما يشبع غرور الطالباني الشخصي، وقد يخفف من حدًة شعوره بالمرارة وهو يرى غريمه البارزاني يواصل زعامة هادئة لإقليم كردستان وفي ولاية تستمر أربع سنوات متتالية وبصلاحيات حقيقية ونفوذ مطلق. بخلاف هذين الشرطين سيصبح الطالباني الثاني رئيسا "مؤقتا جديدا" في حال قضم علاوي صلاحياته كما فعل الجعفري، وقد يتلاشى حلم الفدرالية من أساسه -كما يرى الطالباني- إذا لم يتمكن الأكراد من الدفاع عن بقاء الدستور دون تعديل. يعني هذا أن الدعم المشروط الذي سوف يقدمه الأكراد لعلاوي، ومن أجل أن يكسب جولة التنافس على المنصب دون كثير عناء، إنما سيكون مصمما لانتزاع امتيازات محددة على حساب جماعات أخرى وفي مقدمتها السنة. وفي هذه الحالة سوف يصطدم الأكراد بأهل السنة كما اصطدموا بالشيعة. لكن علاوي الثاني لن يكون قادرا بأي حالٍ من الأحوال على مواجهة مطالب حلفاء متصارعين ومتعارضين في التوجهات المركزية والكبرى. وإذا ما عجز -بعد تشكيل الحكومة- عن تحقيق مطالب السنة بالتعديل، والأكراد بإبقاء الدستور على حاله وهذه مطالب متناقضة, فإنه سيكون في قلب تجاذب سياسي يفضي لا محالة إلى نوع من العجز عن فعل أي شيء. أما أهل السنة -بكافة قوائمهم بما في ذلك الحزب الإسلامي- فسوف يجدون أنفسهم وقد انزلقوا إلى صدام مزدوج على جبهة الفدرالية المشتعلة ضد الأكراد وضد العلمانيين الليبراليين على حدً سواء.عند تخوم الفدرالية إذن سوف يجد أهل السنة والأكراد أنفسهم في صدام وشيك مع بعضهم البعض ومع من اضطرتهم الظروف للمراهنة عليه. وتلك هي المفارقة في الرهان على علاوي الثاني الذي أفلح الأميركيون في تقديمه للعراقيين بوصفه المخلص المنتظر. ولكن ماذا عن الشيعة؟ من المرجح أن الأحزاب الشيعية ستعمل على إحباط أي محاولة داخل الجمعية الوطنية لتشكيل لجنة جديدة تعيد النظر في بنود الدستور، كما أنهم سيواصلون المناورة القديمة: شرط فدرالية الشمال قبول الأكراد غير المشروط بدعم فدرالية الجنوب.لكن الأكراد وبدلا من الرد مباشرة على هذا التحدي، سيطالبون بموافقة شيعية على ضم كركوك مقابل دعم فدرالية الجنوب؟ وهكذا إذا عضضت إصبعي سوف أقضم إصبعك. فماذا بوسع علاوي الثاني أن يفعل؟ كل ما يستطيع فعله هو أن يعود إلى صورته الحقيقية، علاوي الأول الذي يقصف النجف الشيعية كما يقصف الفلوجة السنية. في هذا النطاق تتردد في العاصمة الأردنية عمان معلومات مؤكدة وموثقة عن وجود جيش عراقي تم تدريبه سرا في الزرقاء وأربد، وقام علاوي بنفسه برعاية حفل تخرج الفرقة الخامسة من هذا الجيش.المهمة الفعلية للجيش (الخفي) التحرك بسرعة ومع الإعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة لضبط أوضاع المليشيات أو نزع سلاحها بالقوة. علينا، إذن توقع نمط من الصدامات العنيفة خلال المرحلة المقبلة قد لا يكون مألوفا من قبل، طرفاها الأساسيان الحكومة والائتلاف الشيعي. وفي هذه الحالة لا مناص من توقع تجاذبات سياسية وأمنية وعسكرية خارج قبة الجمعية الوطنية وعلى أكثر من محور وجبهة. سوف يكتب التاريخ ذات يوم، إن الأقدار تركت للعراقيين فاصلا دمويا امتد نحو أربعة أشهر ( من ديسمبر/كانون الأول 2005 حتى أبريل/نيسان 2006) لا من أجل تشكيل حكومة دائمة, بل ومن أجل صهر العراق الجديد داخل فرنٍ هائل من الصراعات الضارية، فإما أن يكون موحدا (شكليا على الأقل) أو أن يتمزق إلى فدراليات. وفي هذا النطاق من المحتمل أن الأحزاب الشيعية سوف تتجه بكل قوتها لجعل فدراليات المحافظات التسع أمرا واقعا ربما بقوة السلاح والفوضى والانفلات الأمني.إن ما بدا ذات يوم -وقبل الغزو الأميركي للعراق- تحالفا وثيقا بين الليبراليين العلمانيين بقيادة علاوي مع الأحزاب الشيعية بقيادة أسرة الحكيم، يتكشف اليوم وبصورة ساطعة في قوتها عن تفكك هو الأقرب إلى التفسخ. لقد انفرط عقد المتحالفين القدامى فعليا، عشية الانتخابات حين ُمزقت لافتات علاوي وملصقاته من جانب حلفائه الشيعة. بيد أن الانفراط الأعنف للتحالف لا يزال على الأبواب حين يرفع المطالبون بتعديل الدستور عقيرتهم، وحين يرد المتمنعون بالرفض.يقول الأميركيون انتظروا حتى أبريل/نيسان لرؤية حكومة دائمة. لكن صدى الكلمات يتردد اليوم في أرجاء العراق كله بصورة مغايرة: أيها العراقيون حذار من منتصف آذار. كاتب عراقي
طيف علاّوي
أخبار متعلقة