مع الأحداث
مازال البعض في بلادنا ينظرون إلى إسهامات علم النفس في مجالات السياسة والاقتصاد تحديدا باعتبارها تزيدا قد لايضر ولكنه لايقدم إضافة حقيقية, ومازال العديد من علمائنا اسرى عدة أفكار تجاوزها تقدم العلم في العالم:فكرة أن العلم الحق هو الذي يلتزم حدود التخصص الدقيق وأنه كلما اشتبك مع غيره من التخصصات انحسرت عنه صفة العلم المتخصص, وأن البحث العلمي كلما كان فرديا كان ذلك دليلا على تمكن الباحث وقدرته على الانجاز, وأن البحث العلمي الجدير بالاعتبار في مجال العلوم الإنسانية هو ذلك الذي يقوم على تصميم أو تطوير برنامج لتعديل السلوك وأن كل ماعدا ذلك من أشكال البحث العلمي لاترقى لأن تكون علما بحق, ولذلك مازالت تخصصات علم النفس السياسي و علم النفس الاقتصادي, تحاول عبثا أن تجد لها موقعا مستقرا ضمن المقررات الأكاديمية في كليات الآداب والتجارة والاقتصاد والعلوم والسياسية, ومازلنا برغم مايكتنفنا من أزمات سياسية واقتصادية نتردد في فتح الأبواب لتشجيع علمائنا الشباب على اختيار تلك التخصصات المشتركة, بل إيفادهم في بعثات لإعدادهم في تلك المجالات.ولذلك فقد استوقف نظري أن قائمة الحاصلين على جائزة نوبل ـ برغم إن علم النفس لايدخل ضمن تخصصاتها المعتمدة ـ قد ضمت اثنين من علماء النفس, في عامي1987 و2002, ولكنهما لجآ إلى الجائزة من خلال بوابة تخصص علمي آخر هو علم الاقتصاد حيث أنجزا بحوثهما في مجال علم النفس الاقتصادي وهو مجال شبيه من الناحية المنهجية بعدد من فروع علم النفس الحديث التي تتشارك مع غيرها من التخصصات العلمية مثل علم النفس السياسي, الذي يجمع بين علم النفس وعلم السياسة ضمن باقة تضم عددا من أصحاب التخصصات المختلفة.وعلم النفس الاقتصادي هو ذلك الفرع من فروع علم النفس الذي يدرس الآليات النفسية التي تحكم السلوك الاستهلاكي وغيره من أنواع السلوك الاقتصادي, كما يهتم بدراسة التفضيلات والاختيارات والقرارات والعوامل المؤثرة في هذا المجال, وتحليل العديد من أنماط السلوك الاقتصادي الجمعي بدءا من المستوي الأسري إلى المستوى القومي وكذلك ارتباط السلوك الاقتصادي بظواهر التضخم والبطالة ونظام الضرائب والتنمية الاقتصادية, وتأثير اتخاذ قرارات اقتصادية معينة على السلوك البشري وعلى نوعية الحياة.لقد حصل هربارت سيمون على الجائزة عام1978, بعد إن حصل عل درجتي الماجستير1936, والدكتوراه1943, في العلوم السياسية من جامعة شيكاجو ولم يلبث أن اجتذبته استخدامات برامج الحاسب الآلي في مجال التنظيم والإدارة, وتحول اهتمامه شيئا فشيئا صوب آفاق علم النفس المعرفي ليصبح واحدا من رواد الذكاء الاصطناعي, وتمثل انجازه الرئيسي كما يشير تقرير تزكيته للحصول على جائزة نوبل في صياغته لمفهوم اتخاذ القرار التنظيميorganizationaldecisoin-making وآليات اتخاذ مثل ذلك النوع من القرارات في ظل نقص المعلومات المتاحة.وكانت جائزة نوبل في الاقتصاد عام2002, من نصيب الأمريكيين فيرنون سميث, عالم الاقتصاد ودانيال كانيمان, عالم النفس, وأوضح بيان الأكاديمية أن الجائزة جاءت تقديرا لهما على أبحاثهما بشأن معطيات يمكن تطبيقها في مجال العلوم الاقتصادية, وأضافت الأكاديمية إن هذه البحوث رسمت خريطة المستقبل في البحث النفسي والتجارب المعملية في التحليل الاقتصادي, وأن بحوث عالم النفس دانيال كانيمان في جامعة برنستون قد أدت إلي إدخال مكتسبات الأبحاث في علم النفس إلى العلوم الاقتصادية وأنه يعتبر مؤسسا لميدان بحث جديد يختص بعملية اتخاذ القرارات في ظل ظروف ينقصها الوضوح حيث أثبت بطريقة منهجية كيف ان قرارات الأفراد يمكن ان تختلف عن توقعات النظرية الاقتصادية التقليدية, ويمضي بيان الأكاديمية مشيرا إلى أن أعمال كانيمان قد ألهمت جيلا جديدا من الباحثين في مجال الاقتصاد تمكنوا من إثراء النظرية الاقتصادية إذ أضافوا إليها مفاهيم من علم النفس المعرفي تتعلق بالحوافز التي تحرك الأفراد, لقد لاحظ كانيمان أن البشر كثيرا مايعجزون عن التوصل إلى تحليل شامل لمكونات المواقف الاقتصادية التي تتطلب منهم اتخاذ قرارات معقدة, فيلجؤون عوضا عن التحليل المنطقي إلى اتخاذ قراراتهم اعتمادا على عوامل لم يكن الاقتصاديون التقليديون يضعونها في اعتبارهم, كالعدالة والخوف من الخسارة والأحداث التي سبق إن تعرض لها الفرد.لقد ذهبت الجائزتان إلى اثنين من علماء النفس خرجا عن حدود التخصص الضيق واشتبكا مع تخصص آخر هو علم الاقتصاد, ولم تقم إسهاماتهما على تصميم برنامج لتعديل السلوك, بل قامت على التوصل لنظرية تفسير السلوك المركب تفسيرا قد يفتح الطريق لما لانهاية له من تصميمات تطبيقية لبرامج تهدف لتعديل التخطيط الاقتصادي أو السلوك الاستهلاكي, ولكن تبقي النقلة النوعية متمثلة في ذلك الابتكار الذي يعدل مسار التفكير العلمي والذي حرص كل منهما على تأكيد أن ماانجزه لم يكن بحال انجاز فردي بل كان بفضل جهد جماعي لفريق متكامل.[c1]*( الأهرام ) المصرية[/c]