عودة لوجه المرأة
أعلم أن الناس قد ملوا من الحديث عن وجه المرأة وهل يجوز لها إظهاره أمام الغرباء أم لا. لكن المشاهد التي نراها كل يوم في شوارعنا وتلك النظرة الظالمة للمرأة والعبارات النابية التي تصدر في حق من لا تعتقد حرمة ظهور وجهها, تلك المرأة التي ترى أن غطاء الوجه يعني عزلها عن كل أوجه الحياة, تجعلني أفتح الموضوع من جديد, داعياً الإخوة الكرام المخالفين أن يعيدوا النظر وأن يرفقوا بأخواتهم قليلاً. هذه التهم القاسية التي أرادت الردع قد جعلت هذه المرأة المحترمة تتعرض لما لا يحصى من المضايقات من الشباب الفارغ. حجتهم في هذا منطق ينبني على أن من أظهرت وجهها قد ارتكبت أعظم المحرمات وبالتالي صارت بلا حرمة. ولو أقر عقلاء الإسلاميين بحقها هذا لما تعرضت لما تتعرض له ولارتفعت الجناية عليها. إن هناك فرقاً كبيراً أن نقول بقول الشيخ الشنقيطي في تفسيره (أضواء البيان) الذي يرى تغطية الوجه احتياطاً برغم قوله إنه ليس في الآيات الكريمة دليل على وجوب تغطية الوجه, وبين توجيه التهم الشنيعة التي لا تجد ما يدعمها في الشرع. لقد كانت جداتنا وأمهاتنا في شمال وجنوب وغرب وشرق المملكة يظهرن وجوههن وأيديهن ولم يشتمهن أحد بما تشتم به المرأة المعاصرة. الأمة كانت أمة متحضرة متفتحة منافسة حتى هزمت عسكرياً فأصبحت تتراجع للخلف في بقية الميادين, ثم جاءت الفترة السابقة فطمت الوادي على القرى تظن أنها بهذا تخرجنا للنهضة. تعالوا نقرأ ونحتكم لكتب تراثنا القديم ولنر من منا المصيب ومن المخطئ. فــفي كتاب (البيان والتحصيل) لابن رشد الجد عن الإمام مالك بن أنس, وهو إمام أهل الحديث والسنة الأول, أنه سئل عما يظهر من وجه المرأة فأدار عمامته تحت ذقنه وفوق حاجبيه معلنا بذلك جواز ظهور دائرة الوجه. وفي «موطأ مالك رواية يحيى (2/935): سئل مالك: هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم منها أومع غلامها؟ فقال مالك: ليس بذلك بأس إذا كان ذلك على وجه ما يُعرفُ للمرأة أن تأكل معه من الرجال. قال: وقد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممن يؤاكله». قال الباجي في«المنتقى شرح الموطأ» (7/252) عقب هذا النص:«يقتضي أن نظر الرجل إلى وجه المرأة وكفيها مباح لأن ذلك يبدومنها عند مؤاكلتها» .. وحكى القاضي عياض عن العلماء: أنه لا يلزم ستر وجهها في طريقها، وعلى الرجال غض البصر للآية وقد تقدم الخلاف في أصل المسألة» . وقال ابن عبد البر في «التمهيد» (6/364 ):«على هذا أكثر أهل العلم وقد أجمعوا على أن المرأة تكشف وجهها في الصلاة والإحرام وقال أبوبكر بن عبد الرحمن بن الحارث: كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها!» ثم قال ابن عبد البر:«قول أبي بكر هذا خارج عن أقاويل أهل العلم، لإجماع العلماء على أن للمرأة أن تصلي المكتوبة ويداها ووجهها مكشوف ذلك كله منها تباشر الأرض به وأجمعوا أنها لا تصلي منتقبة ولا عليها أن تلبس القفازين في الصلاة وفي هذا أوضح الدلائل على أن ذلك منها غير عورة وجائز أن ينظر إلى ذلك منها كل من نظر إليها بغير ريبة ولا مكروه، وأما النظر للشهوة, فحرام تأملها من فوق ثيابها لشهوة فكيف بالنظر إلى وجهها مسفرة؟!»وفي كتاب ابن رشد الحفيد (بداية المجتهد): أن مذهب أكثر العلماء على وجه المرأة ليس بعورة وعن النووي مثله، وأنه مذهب الأئمة الثلاثة ورواية عن أحمد. وقال ابن هبيرة الحنبلي في «الإفصاح» (1/118):«قال أبوحنيفة: كلها عورة إلا الوجه والكفين والقدمين. وقد روي عنه أن قدميها عورة. وقال مالك والشافعي: كلها عورة إلا وجهها وكفيها وهو قول أحمد في إحدى روايتيه والرواية الأخرى: كلها عورة إلا وجهها وخاصة. وهي المشهورة واختارها الخرقي». وقال أبو جعفر الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/392- 393):«أبيح للناس أن ينظروا إلى ما ليس بمحرَّم عليهم من النساء إلى وجوههن وأكفهن وحرم ذلك عليهم من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. وقال البغوي الشافعي في «شرح السنة» (9/ 23):«فإن كانت أجنبية حرة فجميع بدنها عورة في حق الرجل لا يجوز له أن ينظر إلى شيء منها إلا الوجه واليدين إلى الكوعين وعليه غض البصر عن النظر إلى وجهها ويديها أيضاً عند خوف الفتنة». وفي كتاب الإنصاف للمرداوي في الفقه الحنبلي (1/452) يقول :«الصحيح من المذهب أن الوجه ليس من العورة». وهذا هو رأي أكبر فقهاء الحنابلة الموفق ابن قدامة واستدل لاختياره بنهيه صلى الله عليه وسلم المحرمة عن لبس القفازين«وقال لو كان الوجه والكفان عورة لما حرم سترهما، ولأن الحاجة تدعو إلى كشف الوجه للبيع والشراء، والكفين للأخذ والإعطاء» (المغني:1/637) كما تبنّى هذا الرأي ابن تيمية الجد بترجمته له بـ «باب أن المرأة عورة إلا الوجه والكفين». أما ابن مفلح الحنبلي فقال في كتابه (الآداب الشرعية):«هل يسوغ الإنكار على النساء الأجانب إذا كشفن وجوههن في الطريق؟ ينبني على أن المرأة هل يجب عليها ستر وجهها أو يجب غض النظر عنها؟ وفي المسألة قولان قال القاضي عياض في حديث جرير رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة؟ فأمرني أن أصرف بصري. رواه مسلم. قال العلماء رحمهم الله تعالى: وفي هذا حجة على أنه لا يجب على المرأة أن تستر وجهها في طريقها وإنما ذلك سنة مستحبة لها ويجب على الرجل غض البصر عنها في جميع الأحوال إلا لغرض شرعي. ذكره الشيخ محيي الدين النووي ولم يزد عليه». وأضاف ابن مفلح :«فعلى هذا هل يشرع الإنكار؟ ينبني على الإنكار في مسائل الخلاف وقد تقدم الكلام فيه فأما على قولنا وقول جماعة من الشافعية وغيرهم: إن النظر إلى الأجنبية جائز من غير شهوة ولا خلوة». وقال الشوكاني «نيل الأوطار» (6/98- ) :«والحاصل: أن المرأة تبدي من مواضع الزينة ما تدعو الحاجة إليه عند مزاولة الأشياء والبيع والشراء والشهادة، فيكون ذلك مستثنى من عموم النهي عن إبداء مواضع الزينة وهذا ما يدل على أن الوجه والكفين مما يستثنى». وبعد هذا الاستعراض السريع لأقوال فقهاء السنة الذي تعمدت معه ألا أناقش النصوص لأن النص يبقى نصاً مفتوحاً للفهوم المختلفة المتعارضة في مشاربها وتوجهاتها, المؤثرة قطعاً على أحكامها, شعرت أم لم تشعر, أود أن أختم بأن سرد هذه المصادر لا يعني أنني أحاول أن ألزم النساء أن يكشفن عن وجوههن, غير أنني أعتقد أنه ينبغي للمرأة إن كانت تبحث جدياً عن نيل حقوقها فعليها أن تبحث عن الحجاب الشرعي الذي لا يظهر فتنتها ولا يعزلها في نفس الوقت*عن/ صحيفة «الوطن » السعودية