قصة قصيرة
عبد الجبار ثابت الشهابي نادي المؤذن لصلاة العشاء . . وقشيع لم يمضغ القات بعد . . ولم يمل من سؤال الشباب عن جودته وطعمه . . تلفت الجميع نحو بعضهم البعض . . العيون محمرة . . والقلوب تضرب قمصان الشباب ؛ لتظهر للعيان .. والأنفاس تضيق خصوصاً كلما تذكروا بطش عمتهم بآبائهم ، مع أن الواحد منهم لا يكاد يحمل نفسه من ثقل ما يحملون من السلاح والذخائر، والخناجر. ـ شدوا أنفسكم يا عويلة ! ! شوفونا اقتربنا . .قال قشيع ؛ وقدماه المرتعشتان لا تكادان تغادران موقعهما . ـ هيا بنا !رد الجماعة وقد بدأت أجسادهم تتثلج من كثرة الرشح المتفصد في عز حر الصيف .ـ ما لكم يا جماعة اخطوا ! ! إيش فجعتكم العجوز؟ !وإلا القات مش مليح الليلة ! ! ـ يا قشيع باقي قليل . . با نشوفك بعدين !ـ با تشوفوا . . با تشوفوا !ـ الآن با نعرف الشجاع من الجبان ،وبا نتكلم إذا عشنا من الموتنظر قشيع إلى الجماعة ، وإلى أشداقهم الممتلئة بالقات . . ثم ابتسم ابتسامة باردة ، وأضاف :ـ إذا عشتم . . أقصد إذا عشنا من الموت . .هيا اقدموا ! !ـ إيش تقصد با قشيع ؟ ! ـ أقصد . . أمزح ، وإلا ما تشتوش مزاح . . العجوز قد فجعتكم . . قولوا ! ! سكت الجميع . . توجه بجاش بخطى قصيرة مرتعشة ليقرع باب عمته ، حسب الخطة فيما بقي الجميع يمارسون رقص الحمام ، أو ما يسميه العسكر ب(خطوة تنظيم ) . . هاهو بجاش يصل . .يقرع الباب . ـ يا عمة ! !نادى قشيع بصوت مرتفع . . ظهرت العمة من النافذة . . لم ترَ شيئاً . . الظلمة تلف المكان . . ومع ذلك فقد عرفت الصوت ـ أيش معك يا قشيع ؟ ! خير إن شاء الله !ـ خير يا عمة . .خير . . افتحي !!ـ اصبر شوية ! شعرت العجوز بقشعريرة تجتاح بدنها . . ـ هذا مثل أبوه من فين با يجي الخير من ورائه ؟قالت في نفسها . . ثم أضافت :ـ ولكنه جبان كأبوه . . شلي يا سعيدة رشاشك ومن كذب جرب !أخذت رشاشها الموروث عن أبيها . . عمرته بالرصاص . . وضعت سيره على عاتقها . . وجهت فوهته إلى الأمام . . نزلت بخطى واثقة نحو الطابق الأرضي . . تعمدت إسماع الطارق قوة صدى خطواتها . . فتحت الباب بعنف ، ثم التفتت لتستتر بالجدارـ ادخل !قالت لابن أخيها . . أسرع الشبان إلى دخول الباب بأقدام مرتعشة ، وأنفاس ضيقة ؛ مظهرين شيئاً من الشدة المفضوحة . وجهت سلاحها نحوهم بعنف . . أيقنت أن الأمر ليس فيه خير . . عيناها المحمرتان تكادان تخرجان من محجريهما .ـ اطرحوا السلاح ! ! ولا حركة يا كلاب !طرحوا الأسلحة أرضاً . . حاول أحدهم الالتفاف . . ضربته بالسلاح على رأسه ؛ لكنه نهض مهرولاً نحو الخارج . . حاولوا الانقضاض عليها . .التفت على كومة السلاح بسرعة مع إطلاق النار بين أقدامهم . . اختلطت الدماء بأبوال ،وعذرة الشبان الذين طارت أقدامهم في الهواء ، نحو الأقاصي البعيدة . . وفجأة توقفوا . . ـ أين قشيع ؟تساءل الجميع . . خيم صمت كالموت . . ـ أيش نعمل الآن ؟ ممن با نفر : من عمنا مدهش ، وإلا من عمتنا سعيدة ؟ عجزت أقدامهم عن حملهم . . افترشوا الأرض . . ثمة دوار يعصف الآن برؤوس الجميع . . ثمة نيران تشتعل في أعماق القلوب . . ثمة غثيان شديد . . . ـ من يحس بالذي أحس به ؟قال بجاش بصوت متهدجـ أيش تحس ؟ !ـ أشعر أن النيران تندلع في كل أوصالي ،وتأكل أمعائي . . أشعر بشلل في أجزاء جسمي ، وغثيان عاصف . .ـ هذا ما نحس به بالضبط . . ضاقت أنفاسهم على نحو أشد . حاولوا أن يصرخوا . . لا شيء هنا سوى ضحكات قشيع المتوحشة القادمة لتوها من العتمة ، ورفساته التي يودعها جثثهم المشلولة بحثاً عن شيء ما ربما يكون في محفظة أحدهم . ـ كيف طعم القات ؟ ! اختلطت ضحكات قشيع بأنين وشخير أبناء عمومته . .اشتدت الظلمة . . ثمة خوف يجتاح الآن أوصال قشيع المتفجر ضحكاً . . لا شيء سوى الدموع تناجي الأحجار، وتحكي قصص الرجولة التي هجرت كثيراً من الرجال ، ولا شيء سوى أسئلة قشيع الملحة المتطايرة الآن هنا وهناك . . عن طعم القات الذي أكلوه بحرص، ولم يذقه هو . . ولو من باب المجاملة . . .