عندما قامت “إسرائيل” عام ،1948 كانت المجتمعات العربية سائرة بشكل طبيعي في طريق التطوّر. ولكن بقيامها في ذلك العام تبدلت الأرض غير الأرض، وساد الأجواء العربية مناخ من التشدد يركز على نجدة شعب فلسطين وتحرير أرضه قبل كل شيء. وذلك رد فعل متوقع في مثل هذه الحالة، لكن التجربة الطويلة المريرة إلى يومنا كشفت أن الانغماس في رد الفعل هذا قد أوقف مسيرة النهضة العربية، بل أعادها إلى الوراء، مع العجز المتتابع والمتفاقم في مواجهة “إسرائيل” عسكرياً وسياسياً، رغم التضحيات الجسام التي قدمها شعب فلسطين والشعوب العربية. بل إن “إسرائيل” توسعت وضاع المزيد من الأرض والحق. واليوم يطرق العرب أبواب الحل السلمي، و”إسرائيل” هي المتمنعة والمتشددة بعد قبول الفلسطينيين بجزء يسير من وطنهم. عام 1908 قبل تلك العقود الأربعة تحديداً شهدت البلاد العربية، وهي لا تزال في قبضة السلطة العثمانية، “حركة دستورية” ضد استبداد السلطان عبدالحميد. وكان لتلك الحركة صداها الواسع في الخطاب العربي صحافة وثقافة وبدا أن العرب على وشك دخول العصر سياسياً، ولكن تلك الحركة الدستورية تم إجهاضها برد فعل السلطان العثماني، وإن بقيت جذورها في ضمائر العرب. وكانت مصر، التي استقلت جزئياً عن تلك السلطنة، قد بدأت مساراً دستورياً وشورياً، بتأسيس مجلس الشورى المصري في حينه، والذي مثل أول مشروع برلمان في العالم العربي. وفي العام ذاته ،1908 تم تأسيس جامعة القاهرة، التي احتفل بمرور مائة سنة على إنشائها هذا العام ،2008 وكان تأسيس الجامعة، الذي تم بدعم سخي مع سيدة من الأسرة المالكة بمصر عندئذ، حدثاً حضارياً ضخماً في مصر والعالم العربي. وتم استقدام كبار الاساتذة والباحثين المقتدرين علمياً من الخارج، فنشأت تقاليد البحث العلمي والتفكير الحر داخل الجامعة وخارجها وكانت تلك بداية النهوض الثقافي الذي قادته مصر في محيطها العربي، فنشأت جامعات أخرى في مراكز الثقل العربي، وواكبت هذه النهضة العلمية نهضة سياسية تمثلت في الأنظمة الدستورية البرلمانية في كل من مصر وسوريا والعرق. وقد حققت هذه الأنظمة إنجازات لا تنكر، وليس كما أشاع خصومها الانقلابيون عنها بعد الهزيمة (1948). ولكن ثمة مأخذ أساسي على تلك الأنظمة التي كان ينبغي أن تستمر وتتطور وتصلح من نفسها وهي أنها لم تحتفظ بانطلاقة البداية وروحها. بل سمحت لنفسها أن تقع في الفساد، ولم تصلح نفسها في اللحظة الضرورية وابتعدت عن هموم الأكثرية من القطاعات الشعبية، والأخطر أنها انهزمت أمام “إسرائيل”، ما أتاح لخصومها تأكيد اتهامهم لها من ذلك الواقع الآني المباشر في حينه، مع التغطية على منجزاتها السابقة، التي تفتتح في ظلها وعي الانقلابيين أنفسهم. وإذا كان العرب يحاولون العودة اليوم إلى النظم الدستورية والبرلمانية، فيجب أن يصحب ذلك إصلاح حقيقي لمؤسساتهم وحكوماتهم، وإلا فهي الحراثة في البحر.. من جديد (وليس مجدياً في تقديرنا إظهار الملك فاروق بمظهر إنساني في مسلسل تلفزيوني رمضاني بعد وقوع الفأس في الرأس). ولا يقل أهمية عن الإصلاح السياسي، العودة إلى الإقبال على استيعاب مقومات القوة الحضارية الحديثة في عالمنا. فقد مثّل افتقاد العرب لهذه المقومات في مواجهاتهم المختلفة من أجل فلسطين “كعب أخيل” في البنيان العربي، وهذا هو السبب الحقيقي للنكبة. فقبل عام النكبة ،1948 وحتى ذلك العام، عندما واجهت الجيوش العربية ما يسميه العرب عادة “عصابات” الهاغانا، كانت هذه “العصابات” أفضل استيعاباً للسلاح الحديث وأكثر اقتداراً على استخدامه، وأقرب إلى روح التنظيم الفعّال من جيوشنا العربية كما أوضح بالوثائق مؤرخون فلسطينيون وعرب نحترمهم هذا رغم الإقرار بما قدمه الفلسطينيون والعرب جيوشاً ومتطوعين ومنظمات - من تضحيات بطولية لا يمكن إنكارها، لكنها ضاعت هدراً بسبب الفارق الحضاري بين الجانبين. وما زال الكثيرون من قادة الرأي في عالمنا العربي والإسلامي، للأسف، يقفون موقف المتشكك أو المتردد حيال الحضارة الحديثة في العالم من اليابان إلى كندا ويرونها رجساً من عمل الشيطان رغم أن الأمم في العالم لم تنهض وخاصة أمم الشرق في آسيا إلا بمشروعات “التحديث” كل على طريقته الخاصة المناسبة لظروفه وبطبيعة الحال فثمة أسباب أخرى يتم الحديث عنها في الخطاب الإعلامي العربي كعجز عن تحقيق الوحدة أو التنسيق اللازم بينهم، وسطوة الاستبداد في الحكم الذي يؤدي إلى قرارات كارثية وإخضاع قضية فلسطين للحسابات الداخلية للأنظمة وصراعاتها مع الأنظمة العربية الأخرى.. الخ. وهذه أسباب حقيقية، ولكننا نعتقد أن السبب الأهم هو التخلف الحضاري الراهن، ولا بد من تسميته باسمه الحقيقي، وهو لا يعني فقط التخلف في المخترعات والبحث، وإنما يشمل أيضاً مستوى الإنتاجية في كل مجالات الحياة واستيعاب الفكر العلمي العقلاني ونبذ الخرافة، وتطوير التعليم طبقاً لبرامج ملموسة ومحددة تصل إلى عقول الناس وأيديهم بعيداً عن الشعارات والتلميع، والانتباه إلى أن التقدم، إذا لم تتم المحافظة عليه من جانب المواطنين والدولة ومؤسسات المجتمع المدني يمكن أن يضيع ويعود الإنسان إلى تخلفه البدائي، كما نرى في بعض مجتمعات الغرب التي كانت، نعم كانت متقدمة، واليوم مثلها مثل مجتمعات الثقل العربي التي كانت “متقدمة” تصحو على كارثة العودة إلى الوراء في أخلاق الناس ومستوى إنتاجهم ومدى استعدادهم للعمل والكدح. وهذا العامل الأخير هو الذي يفتح مجال الهجرة الأجنبية ومخاطرها للتعويض عن كسل السكان الأصليين، كما نرى ذلك أيضاً في بعض مجتمعات الخليج التي سيصحو أهلها على ما تفعله أيديهم ولكن، نخشى، أن يكون ذلك بعد فوات الأوان وذهاب سكرة “الازدهار”.. ولات ساعة ندم! والمحك اليوم، كامتحان جدي ملموس لاختراق جدار التخلف العلمي والحضاري، هو مدى قدرة المجتمعات العربية قاطبة على بناء قوتها النووية السلمية في غمرة الأخطار المحدقة بها، والتي أصبحت قاب قوسين أو أدنى، فهذا مؤشر عملي محدد للاختبار إن كانت تريد أن تتجنب “نكبة” أخرى. إن استمرار سيطرة الفكر الأحادي في العقلية العربية المصاب بعاهة النظر إلى كل الظواهر العالمية في بعد واحد والعيش تحت هاجس “المؤامرة”، كتجاهل البعد الحضاري لدى القوى المعادية أياً كانت وإيهام النفس بقرب انهيارها. وهو انهيار غير مستبعد، لكن قوى أخرى جديدة ستحل محلها وتتقاسم تركة الضعفاء والعاجزين عن الفعل.. نقول: إن استمرار سيطرة هذا النوع من التفكير المضلل لأصحابه يستحيل أن يؤدي إلى الخروج من نفق “النكبة” إلى فضاء العالم الرحب. قبل قرن كانت الصين معادية للغرب بعد أن احتلها وأهانها، لكنها أدركت أنه لا بد أن تقتبس من الغرب نفسه سلاحاً مضاداً له. لذلك اختار ماوتسي تونج، لإخراجها من حالة الضياع، ايديولوجيا وتنظيماً من نتاج المجتمع الغربي، وأضفى عليه مسحة صينية أصيلة. وهنا بدأت حركة الصين نحو التغيير. إن كلمة السر هنا هو اختيار ايديولوجية معادية لقوى الغرب الاستعماري من صميم فكره الحديث، واستخدامها ضده سياسياً. صحيح أن ذلك لم يكن حلاً نهائياً، ولم يكن حلاً صالحاً لكل زمان ومكان، كما في اليابان أو الهند أو ماليزيا حيث قرر كل مجتمع اختيار الطريق الأنسب له، والصين اليوم تنفتح تدريجياً على “اقتصاد السوق” وقد تطور نظاماً اقتصادياً خاصاً بها، ولكن تلك كانت نقطة البداية.. بداية الرد على التخلف وتبعاته. يراهن كثيرون من العرب على التناقضات الداخلية في “إسرائيل” وربما على صدود بعض قوى الغرب عنها، وهذا وارد ومحتمل. ونعتقد أن “العولمة” التي أصبحت “الشيطان الأسود” لدى كثير من الكتاب العرب، وأشبعوها صراخاً وعويلاً، تهدد بدرجة أكبر “الخصوصية” “الإسرائيلية” لكيان يهودي متميز. فالعولمة يمكن أن تصهر الكيانات الناشزة في نهاية الأمر إذا لم تتغير طبيعتها. وإذا ما غيرت “إسرائيل” طبيعتها، فقدت مبرر وجودها، فهي مهددة بالعولمة، طوعاً أو كرهاً. هذه مسألة برسم باحثي “المستقبل” العرب الذين يشتمون العولمة بمناسبة وبغير مناسبة. وقد تصح هذه الفرضيات أو لا تصح، ويبقى السؤال، ماذا لدينا نحن لتطوير أنفسنا التطوير الحقيقي اللازم الذي حققته الأمم الجديدة الصاعدة في العالم؟ وعلينا أن ننتزع حقنا في التقدم انتزاعاً من بين فكي القوى المعادية لتقدمنا، فهي لن ترسل لنا بطاقة تهنئة على أي تقدم يتحقق. والكثيرون ما زالوا يتذكرون ماذا حدث للمفاعل النووي العراقي ولبعض علماء الذرة العرب. وأن نملأ الفضاء بالشكوى من ظلم تلك القوى لن يغير من موازين القوى شيئاً وسيبقى “ظاهرة صوتية”. وحان الوقت لندرك ان الأمة رغم صعوبة أوضاعها السياسية تحقق تقدماً في التعليم والتنمية والعمران، ولا بد أن ينعكس ذلك أخيراً في السياسة، ولا داعي للإحباط والاكتئاب الشامل. ثم إن قضية فلسطين قد حققت انتصاراً تاريخياً وإن يكن مرحلياً بقيام كيانها الوطني المعترف به نتيجة كفاح شعب فلسطين البطولي. وهو انتصار ينبغي البناء عليه وعدم تضييعه. أما عقلية إما كل شيء أو لا شيء، فإنها تنتهي إلى لا شيء لمن يريد التعلم من تجاربه. [c1]* عن / صحيفة (الخليج) الاماراتية [/c]
|
اتجاهات
بعد 60 سنة .. أدركنا السبب الحقيقي للنكبة ؟
أخبار متعلقة