[c1]المحافظ المجدد ( 3-2)[/c]يعد (بشار) مرحلة من مراحل التطور الطبيعي للقصيدة القديمة إذ على يده شهدت الصورة الشعرية تحولاً نوعياً سواءً في مفهومها أو في مثيرها ولم تعد عملية نقل لمحسوس يشاغب النظر دون أن يتصل بالقيمة النفسية للأشياء بل أصبحت (الصورة) أداة الخيال الفاعلة ومضماره الرحب الذي يمارس فيه نشاطه وبه يختبر قدراته وذلك حينما شغل به (بشار) عوضاً عن النظر ليزداد خياله توهجاً فكان أن تحررت الصورة من قبضة المحاكاة وسطوة المثال لتجوب عوالم الخيال ..وغاض ضياء العين للقلب فأغتدى[c1] *** [/c]بقلب إذا ما ضيع الناس حصلاوشعر كنور الروض لاءمت بينه[c1] *** [/c]بقول إذا ما أحزن الشعر اسهلا (1) أحدث بشار نوعاً من التجديد في القصيدة القديمة سواء في معانيها أو في صورها وبنزوعه هذا إنما كان يصدر في الاصل عن طبيعته ويعبر – أيضاً – عن عصره , ولا غرابة إن هو مزج بين القديم والجديد الصادر عنه ... أليس هو الشاعر المخضرم الذي أدرك مرحلتين من مراحل الشعر (أموي وعباسي)؟؟ كما أن موهبته وأصالته الشعرية أهلته لذلك .. إلى جانب مولده وترعرعه في بيئة عربية خالصة – (بني عقيل)- تزهو باستقامة اللسان وفصاحته ... إضافة الى تنقله بين بوادي العرب سعياً وراء اللغة وصفاء لفظها , مما أتاح له علماً واسعاً بها ... كما كان لنشأته في (البصرة) التي عجت بالشعر والشعراء أيام (بني أمية) أثر قوي في توجيه شاعريته وفي اكسابه مخزوناً ضخماً من الثقافة الشعرية مكنته لا من إجادة قول الشعر فقط بل ونقده أيضاً فإذا به “أستاذ أهل عصره من الشعراء غير مدافع يجتمعون إليه ينشدونه ويرضون بحكمه ..” (2) .....إضافة الى ذلك علاقته بعلم الكلام واسهامه في المناظرات حتى عد من أشهر المتكلمين في عصره كما يخبرنا صاحب الاغاني بقوله :”... كان بالبصرة ستة من اصحاب الكلام عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وبشار الاعمى ...”هذا التنوع المعرفي والاحتكاك الفعلي بثقافة عصره ساعده في رسم خطوط التجديد في اطار الشعر التقليدي وبذلك جمع بإدراك وبراعة بين الماضي والحاضر بين القديم والجديد ..فعلى الرغم من إنتهاج بشار الاسلوب التقليدي والسير على خطى القصيدة القديمة وبخاصة قصيدة المدح من حيث إلتزامه الاستهلال بالنسيب ثم الوقوف على الاطلال فالانتقال الى وصف رحلته الى الممدوح إلاّ أنه ضمنها شيئاً من المعاني والصور الحضرية الجديدة التي حققت الاثارة الجمالية والاستجابة الشعورية لمجتمعه وبالتالي عبرت عن ذائقة عصره فكان أسلوبه الشعري “.. العام قديم ولكن خيوط جديدة تلمع في هذا النسيج ...” (3) ... ولعل أرجوزته الدالية في (عقبة بن سلم) التي مطلعها : ياطلل الحي بذات الصمد[c1] *** [/c]بالله حدث كيف كنت بعدي أوحشت من دعد ونؤي دعد[c1] *** [/c]بعد زمان ناعم ومرددليل على تمثله الواعي , وتمكنه من التراث الشعري بأنواعه مع ميل واضح الى التجديد أملته عليه شاعريته الاصيلة وحالته النفسية وتنوع بيئته الشعرية (أموية – عباسية) ...فأراجيزه – مثلاً- أظهرت لنا هذا المزج أو الجمع بين الاسلوب القديم ونزعة التجديد لديه كما كشفت لنا مراسه واقتداره على هذا اللون البدوي وفي ذات الوقت افصحت عن التغير الذي طرأ في مفهوم الجمال وفي المعاني والصور الفنية التي حاول بشار إحداث نوع من التجديد فيها , وبذلك مال بشار بتلك الاراجيز البدوية الاسلوب “.. الى طراوة الحضارة وانحاز بها الى جانب السهولة ..” (4) وعلى هذا النهج كان “.. معظم شعر بشار الجاد يتميز بهذا الطابع العام أعني أنه يذكرنا في إطاره العام برنين الشعر التقليدي القديم ولكنه مع التأمل تتكشف لنا جدته من حيث الرؤية والصياغة ..” (5) ونخلص من ذلك أن تجديد بشار في القصيدة التقليدية يحسب لها ولاضدها إذ جاء ليؤكدها لا لينفيها .. فما أحدثه من تجديد فيها إنما يعد عملية من عمليات التطور الطبيعي للقصيدة التقليدية حيث أن بشار قد انطلق في تجديده من على أرضية محافظة لإكساب القصيدة القديمة ألقاً يجددها , وهذا أمر غير مستغرب من بشار الذي ينتسب الى مدرسة محافظة بفعل نشأته في البصرة التي عدت زمن الأمويين بيئة الشعر الاولى وأهم ساحات معاركه الشهيرة فاسهمت وبقوة في تأسيس وتوجيه وعيه الشعري وطبعته بطابعها المحافظ وما محاولات بشار الشعرية المبكرة في الهجاء أنذاك رغبة منه في جر الشاعر (جرير) للمنازلة الشعرية إلاّ أثر من آثار تلك البيئة المحافظة شعراً التي حددت مسار شاعريته ووسمت أسلوبه بالفحولة والجزالة وربما بالتطرف في الاغراب كقوله :بكرا صاحبي قبل الهجير[c1] *** [/c] إن ذاك النجاح في التبكير ليقول (خلف الاحمر) :” لو قلت يا أبا معاذ مكان ( إن ذاك النجاح في التبكير) ...(بكرا فالنجاح في التبكير) كان أحسن .. فقال بشار (بنيتها أعرابية وحشية)..» (6).. إذاً فتجديده في جانب ابتكار المعاني وتوليدها أو في جانب الصورة وتأليفها إنما كان يصدر عن ولاء وعن حرص على القصيدة التقليدية لا عن تمرد أو ثورة عليها مثلما نادى – مثلاً- (أبو نواس) لذلك يمكن وصف بشار بـ (المحافظ المجدد) لأسلوبه الفني الذي أصبح نهجاً لكثير من الشعراء إذ فتح لهم باباً جديداً استحق عليه لقب (زعيم المجددين)..وليس الى الشك سبيل في أن تميزه إنما جاء بسبب ر د فعله المتطرف والمثمر فنياً إزاء (عقدة النقص) التي غرست فيه معاني الغربة وصور الارتياب والقلق لتتداخل كل تلك المشاعر النفسية المؤلمة مشكلة مع (آفة العمى) مصدر دفع قوي للسعي صوب التفتيش والبحث عن تعويض يقوده الى سبل التفوق وتجاوز تلك العقدة الآفة فكان أن طور من عملية إلتقاطه لصور محسوسات عالمه الذي لم يبصره من خلال تفعيل وتيرة مدركاته الاخرى كحاسة اللمس كقوله :أمامه قد وصفت لنا بحسن[c1] *** [/c]وإنا لا ندرك فالمسيناأو قوله : تقول وقد خلوت بها[c1] *** [/c]تكلم وأكفني يدكاومن حاسة الشم :وزائرة ما مسها الطيب برهة[c1] *** [/c]من الدهر لكن طيبها الدهر فائحوفي قوله :أقلل من الطيب إذا زرتنا[c1] *** [/c]إني أخاف المسك إن فاحاجمال صوره وطرافتها في أنه لم يرها ولم يسترجعها من ذاكرته بل هو كد في تقليبها وثابر في حرث تربة خياله ليحصدها معان غزلية جديدة وصور فنية مبتكرة :فقال بعض الحديث يشغفني[c1] *** [/c]والقلب راء ما لايرى البصر قالوا بسلمى تهذي ولم ترها[c1] *** [/c]يا بعد ما غاولت بك الفكر إذاً السر يكمن في أنه (....لم ترها)..فكان عليه أن يغوص في بحار الفكر والتفكر (...غاولت بك الفكر).إن بشار (ومن واقع عماه) يؤكد فاعلية الشعور وصدق القلب وقدرته العجيبة على رؤية ما يعجز عن رؤيته البصر ( والقلب راء ما لايرى البصر) .. إنها معان طريفة وصور جديدة ما كانت أن تكون لولا (آفة العمى) .. وإعتماد بشار على الشعور والحس – بفعل عماه- قوي شديد الايمان به لا تؤكده أبياته الشعرية المتناثرة لتلبية حاجته الفنية فقط بل هو منهجه اليومي في حياته العامة بين الناس والاصدقاء إذ غالباً ما كان بشار يعول على شعوره وحسه , وبذلك تخبرنا مواقف عدة منها قصة (أبي دهمان الغلابي) :” مررت ببشار يوماً وهو جالس على بابه وحده وليس معه خلق وبيده مخصرة (أي عصا) يلعب بها وقدامه طبق فيه تفاح وأترج (أي تمر ناعم) فلما رأيته وليس عنده أحد تاقت نفسي الى أن أسرق ما بين يدي ... مددت يدي لأتناول منه فرفع القضيب وضرب به يديه ضربة كاد يكسرها فقلت له : قطع الله يدك ياابن الفاعلة أنت الآن أعمى ! فقال : يا أحمق , فأين الحس؟!”(...فأين الحس؟ّ) من الحس انطلق بشار بالشعر صوب أفق أرحب بمفهوم مغاير فلم يعد الشعر إعادة أو استرجاعاً لمدركات محسوسة ونقلاً وانعكاساً حرفياً لجزئيات العالم الخارجي كما أقر بذلك نقدنا القديم “.. وأعلم أن العرب أودعت أشعارها من الاوصاف والتشبيهات والحكم ما أحاطت به معرفتها وأدركها عيانها ..” (7) فبشار ومن خلال حسه كشاعر مكفوف ربما خرج أحياناً عن ذلك المفهوم ( ... وأدركها عيانها) الى الابتكار حينما تنطلق شاعريته من حسه وطبيعته لتكون صوره الشعرية شيئاً من ذاته ومن وحي ما أبتلي به وقد أدرك معاصروه ذلك إذ يروى “أن (أبا حاتم السجستاني ) سأل (الاصمعي ) أي الشاعرين أشعر (بشار) أم (مروان إبن أبي حفصة) ؟ ففضله (الاصمعي) على (مروان) فسئل عن السبب فقال : لأن مروان سلك طريقاً كثر من يسلكه فلم يلحق بمن تقدمه وشركه فيه من كان في عصره وبشار سلك طريقاً لم يسلك وأحسن فيه وتفرد به وهو أكثر تصرفاً وفنون شعراً وأغزر وأوسع بديعاً ومروان لم يتجاوز مذاهب الاوائل ..”ولأنه (... سلك طريقاً لم يسلك .. وتفرد به ..) كانت عملية تكوين الصورة عنده خلقاً مغايراً ومتجدداً عبرها يحقق الممارسة الابداعية ومن خلالها يؤكد ذاته المتميزة وبها يلبي احتياجاته العاطفية والانسانية مع مجتمعه .. ولقد إختزل بشار كل تلك الامور في عرضه لمفهومه للعملية الابداعية حينما سأل :” بم فقت أهل عمرك وسبقت أهل عصرك , في حسن معاني الشعر وتهذيب ألفاظه ؟..فقال : لأني لم أقبل كل ما تورد عليه قريحتي ويناجيني به طبعي ويبعثه فكري ..” إذاً فالابداع عملية معقدة وشاقة ولا تكون فقط بالموهبة وانهمار الخواطر بل تتداخل فيها عوامل أخرى كالثقافة والرؤية وتحتاج – أيضاً- الى كد وتمحيص ونقد إنها ليست تداعيات تتوالى وتنهال عفو الخاطر.. وبهذا المفهوم يكون الشعر اشبه بفرس جامح لا يروض أو هو واحة تنشدها الروح دون أن تدرك ..إنه (الشعر) شيء عجيب شاق غريب غير أنه ممتع جميل ..وبذلك تفرد بشار بما قدمه من صور ومعان لم يألفها شعرنا من قبل .. صور انبعثت صادقة من صميم طبيعته فحازت اعجاب المجتمع ليكشف (الاصمعي) سر تفوق بشار في مجال المعنى والصورة بقوله :“ ولد بشار أعمى فما نظر الى الدنيا قط وكان يشبه الاشياء بعضها ببعض في شعره فيأتي بما لايقدر البصراء أن يأتوا ..” جمال صوره مرده أنه (...أعمى فما نظر الى الدنيا قط ..) ففي ظلام عينيه إزداد خياله توهجاً وتألقاً فأوغل في البحث عن ملامح صوره وجد وكد يقلبها في خياله لتصبح بنت خياله لا بنت البصر فإذا به يأتي بما لايقدر عليه البصراء :عجبت فطمة من نعتي لها هل يجيد النعث مكفوف البصر ولكن حينما يتمرد الشاعر المكفوف على حقيقته منكراً طبيعته ليتقمص طبيعة الاخرين يكون سقوطه مروعاً بل وسخيفاً:إنما عظم سليمى قصب[c1] *** [/c]قصب السكر لأعظم الجملفإذا أدنيت منها بصلاً[c1] *** [/c]غلب المسك على ريح البصل[c1]- المصادر والمراجع:[/c]1- ديوان بشار بن برد : شرح : حسين حموي , دار الجيل , بيروت , الطبعة الاولى 1996م , المجلد (2) ص 472..2- عبدالله بن المعتز :طبقات الشعراء , تحقيق : عبدالستار أحمد فراج , دار المعارف القاهرة , الطبعة (4) 1981م ,ص 26..3- شوقي ضيف: الفن ومذاهبه في الشعر العربي , دار المعارف , القاهرة , الطبعة (9) 1976م ,ص 152..4- مصطفى الشكعة: الشعر والشعراء في العصر العباسي , دار العلم للملايين , بيروت , الطبعة (3) 1979م ,ص 151..5- عز الدين إسماعيل : في الشعر العباسي .. الرؤية والفن , المكتبة الاكاديمية,القاهرة , 1994, ص 23..6- عبدالقاهر الجرجاني : دلائل الإعجاز ( في علم المعاني) تصحيح وتعليق : محمد رشيد رضا دار المعرفة , بيروت , 1982م , ص 211..7- ابن طباطبا العلوي : عيار الشعر , شرح وتحقيق : عباس عبدالساتر , مراجعة : نعيم زرزور دار الكتب العلمية بيروت , 1982م , ص16 ..
|
ثقافة
الصورة في شعر بشار بن برد (91هـ / 168هـ)
أخبار متعلقة