أضواء
يحتفظ الدين بوظائفه الأساسية، حتى في تلك المجتمعات التي تراجع فيها الدور الإيديولوجي للدين ؛ فأصبحت تبدو وكأنها مفصولة عن ( القيمة ) في تمظهرات الفعل الاجتماعي في بعديه : الخاص والعام. الدين ( بالمفهوم العام للدين الذي تصنعه حالة التدين ولو بدين بشري ) يحضر حتى في حال غيابه، لا كقوانين أو كممارسات إجرائية، كما هو حاصل في المجتمعات ذات التدين الصريح، بل كموجه للضمير العام، الضمير الذي يمنح المعنى (الأشياء )، ومن ثمَّ يمنح المعنى لطريقة التعاطي معها . وهو المعنى الذي سيتحوّل إلى قانون يؤثر في مجمل سلوكيات الإنسان . وظيفة الدين هي، في أصلها، صناعة قانون داخلي ؛ للسيطرة على ما يستحيل على القانون الخارجي التحكم فيه . طبعا، هذا لا يلغي دوره في صناعة القانون الخارجي، ولا التأثير فيه صراحة أو ضمناً . لكن، تبقى الوظيفة التي لا يشاركه أحد في أدائها، هي كونه يمارس، أو يحاول أن يمارس، تنظيم الذات من الداخل، وتحديد خياراتها، بما يتجاوز بها حدود (الخير الخاص ) إلى فضاء (الخير العام ) . الأصل في الوظيفة الدينية (والكلام هنا عن الدين بوجه عام) أنها ذات طابع تحريري . الارتباط بالمتعالي والغيبي، الخضوع المطلق للمتعالي، مقابل التحرر من الخضوع للحاضر والمشاهد والمباشر، كل هذا يحرر الإنسان من كل صور التراتبية الاجتماعية، بل ومن ضرورياتها. هذا هو الأصل . لكن قد يجري توظيف الدين في الاتجاه المعاكس لوظيفته ؛ فيصبح أداة لقمع وسحق الإنسان، ولتعبيد الإنسان للإنسان، ولشرعنة قتل الإنسان للإنسان، ولتبرير استغلال الإنسان للإنسان، أي لصنع تراتبية يرفضها ذلك الخضوع المطلق للمتعالي، المتعالي الذي يفترض أن يخضع له الجميع (المقصود : جميع المنتسبين للدين = أي دين ) على حد سواء . لقد جاء الإسلام ليمارس وظيفته الدينية . وقد مارسها بأكبر قدر من النجاح على مستوى الإمكانات البشرية . لقد قامت تعاليم الإسلام وإرشاداته بصناعة وتوجيه بوصلة الضمير في الاتجاه الإيجابي عند أتباعه ( = المسلمين ). كلنا يعرف أنه قد تحقق كثير من النجاح في هذا المضمار، وكان من المتوقع أن يستمر هذا النجاح ؛ لولا الانقلاب على تعاليمه بعد سنوات قليلة من وفاة صانعه : الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ؛ حيث جرى بعد ذلك توظيف الإسلام بكل نجاحاته الأولى لخدمة غايات غير دينية، لخدمة غايات دنيوية تتعارض مع وظيفة الدين ؛ فحدث ما حدث من تشوهات لا تزال آثارها واضحة في الضمير الإسلامي العام إلى اليوم.ويمكن استشفاف ملامح المعركة التي دارت بين قوة الدفع الكامنة في الدين الإسلامي ذاته، والتي تحاول أداء الوظيفة الدينية على أفضل ما يمكن، وبين المشاريع الإيديولوجية التي كانت تسعى في مضمار توظيف الدين لصالحها . أي أنه جرى توظيف الدين لخدمة مطامح ومطامع خاصة، ولو أدى ذلك إلى تشويهه بتطعيمه بالخرافات والأساطير، أو بمقولات العنف والإلغاء، وفي الوقت نفسه جرى، وبقدر غير قليل من المكر، منعُ الإسلام من أداء وظيفته الأساسية كدين. في سياق قراءة واقع الإسلام بين الوظيفة والتوظيف، يمكن ملاحظة أن توظيف الإسلام تم من زاويتين: الأولى : استغلال شعاراته ومثله العليا ومقدساته استغلالا مباشرا من أجل الحشد والتبرير والتطويع. وقد تم هذا من قبل جميع أطراف النزاع الإسلامي . وهذا النوع من الاستغلال ليس غريبا، بل هو نوع من الاستغلال الذي يتعرض له أي دين، وعلى الأخص بعد غياب الجيل المؤسس . الثانية : استغلال حقيقة أن الإسلام في حال تمدده وانتشاره، كان متزامناً مع تكوّن الدولة / الأمة، التي تجلى الإسلام في الواقع من خلالها . أي أن حضور الإسلام في الواقع كان متزامنا مع (حالة البناء ) التي كانت تعيشها الأمة به . وهذا يعني أن شروط بناء الواقع، بناء الأمة، بناء الدولة، فرضت نفسها على الدين، وطالبته بما يتعارض أحيانا مع وظيفته كدين . وهذه المطالبة التي فرضها زخم الواقع بكل شروطه، كانت في جوهرها ممارسة مستمرة لتوظيف الدين . حالة التوظيف هذه استمرت لقرون طويلة . ولهذا فقد كان الخطاب الديني الإسلامي يتكون تحت وقع متطلبات الواقع الذي لم يكن إلا ميداناً للصراع والاحتراب ومحاولات تحقيق الذات على المستويين : الخاص والعام. هذا يختلف عن حال معظم الأديان فالأمم التي اعتنقت الأديان الكبرى المؤثرة في عالمنا اليوم، كانت قبل اعتناقها لأديانها قد تكونت في الواقع كأمة وكدولة، أي أن الدين لم يأتِ ليصنعها كأمة، بل اعتنقته لحاجات أخرى، هي حاجات دينية في خطها العام . بينما الإسلام رافق رحلة التكوين، ما جعله يتعرض للتوظيف منذ بدايته. ولا شك في أن هذا التوظيف أدى إلى كثير من التحوير في الخطاب الإسلامي، كما أدى إلى تحجيم دوره الوظيفي كدين من جهة أخرى . هذا لا يعني أن الأديان الأخرى لم تتعرض لهذا التوظيف الذي يستحضر بالضرورة التحوير، بل لقد تعرضت تلك الأديان أكثر من الإسلام لاستحقاقات التوظيف . لكن، كون تلك الأديان قد جرى توظيفها من قبل أمة قد اكتمل بناؤها في الواقع من قبل ؛ يجعل من السهل التمييز بين الخطاب الديني في مرحلة ما قبل التوظيف، والخطاب في مرحلة ما بعد التوظيف . ولا شك في أن هذا يختلف عن حال الإسلام الذي اندمج فيه الفعل الواقعي / التاريخي بالديني، إلى درجة أن أصبح الترتيب الزمني لرؤساء الدولة الإسلامية الأولى، والذين تم اختيارهم بما يشبه الاستفتاء العام، عقيدة دينية تدخل في صميم الاعتقاد !. ومع كل ما حدث من توظيف للإسلام عبر تاريخه الطويل، ما أدى إلى تحجيم وظيفته كدين، فإن استغلاله اليوم أصبح استغلالا علنيا إلى أبعد الحدود . نعم، قد لا يكون التحوير الذي سيخلفه هذا الاستغلال بحجم ما حدث في التاريخ من تحوير، وذلك لأسباب كثيرة، لكن، يبقى أن صراحة هذا الاستغلال، وما يحمله من استغفال، وتقبل كثيرين لما يجري رغم وضوح وانكشاف عملية الاستغلال، فضلا عن دعمه من قبل بعضهم، كلّ ذلك سيجعله أشد خطراً، لا على الإسلام ذاته، بل على المسلمين المستهلكين لخطاب الاستغلال . اليوم، أصبح الإسلام وشعاراته ورقة مربحة أكثر من أي ورقة أخرى، ولم يعد الفاعل السياسي هو الفاعل الوحيد، بل ولا الفاعل الأبرز الذي يمارس التوظيف . لقد تم وضع الإسلام كبضاعة تجارية رابحة ؛ فأصبحت البضائع والخدمات، فضلا عن الوسائط الإعلامية، تربح باسم الإسلام، وعلى حساب الإسلام. ولاشك في أن هذا ينقل الإسلام من وضعه المفترض كدين فاعل موجه للضمير العام، إلى مجرد أوراق مالية مضمونة، يجري التلاعب فيها بلغة التجار . وهذا الفعل لا يفتك بالدين فحسب، وإنما يفتك أيضا بوعي أتباعه من المسلمين الذين يقعون فريسة لهذا الاستغلال والاستغفال.[c1]*عن /صحيفة ( الرياض ) السعودية [/c]