أفكار
إسرائيل مشغولة ولسنوات طويلة, بدراسات وأبحاث, وطرح أفكار, حول كيفية الاستحواذ علي نصيب من مياه وأنهار المنطقة العربية, وفي مقدمتها مياه النيل.ولم يكن قادة إسرائيل ومسئولوها يجدون حرجا في إعلان حاجتهم إلي المزيد والمزيد من مصادر المياه غير المتوافرة لديهم, وكان شيمون بيريز صريحا فيما عرضه في كتاب الشرق الأوسط الجديد الصادر عام1993, مؤكدا الحاجة إلي زيادات سريعة في إمدادات إسرائيل المائية, قائلا: إن إسرائيل لا يمكنها الانتظار عشرين عاما إلي أن يتم المشروع المقترح لمد خط أنابيب من تركيا لينقل إليها ملايين الأمتار المكعبة من المياه, وشرح بيريز فكرتهم عن كيفية حل مشكلة احتياج إسرائيل للماء بأن يتم تحويله من مناطق الوفرة في المياه إلي مناطق الاحتياج إليها.وقال بيريز: إن أفضل مصادر المياه موجودة خارج حدود الدول التي هي أشد احتياجا إليها, ولهذا فإن أفضل حل هو في مد خط أنابيب دولي لجلب المياه من دولة أخري.مجلة سياسة الشرق الأوسطMiddleeastPolicy الأمريكية علقت علي كلام بيريز في دراسة لها بأن بيريز ربما يشير بذلك إلي مد خط أنابيب من مصر, مادام الخط التركي سيستغرق وقتا طويلا.لكن تحقيق ذلك يظل رهن اتفاق دولي أوسع مدي, وفي إطار ترتيبات تبدو فيها مسألة المياه وكأنها جزء من خريطة تعاون اقتصادي متعدد الأبعاد.ومن المعروف تاريخيا أن أي استراتيجية تصنعها إسرائيل لا تتضمن الممكن فقط بل تضع في حسابها ما قد يكون مستحيلا, هذا هو دائما منطق وطبيعة تفكيرهم منذ كانت إسرائيل مجرد فكرة.من البداية قام تفكير الحركة الصهيونية بالنسبة لوضع الدولة في المنطقة, وفرض نفوذها علي الدخول من الباب الاقتصادي, باستخدام إمكاناتها وخبرتها العلمية والصناعية, واستغلال الثروة العربية, وشرح هيرتزل تصوره لدولة المستقبل بقوله: ستكون الدولة اليهودية القاعدة الصناعية المتقدمة التي تصل إلي السيطرة علي كل مصادر الثروة.كان نفس هدف الدخول من الباب الاقتصادي في دائرة تفكيرهم عندما بدأت المفاوضات متعددة الأطراف, عقب سريان عملية السلام عام1991. وانعقاد المؤتمرات الاقتصادية التي حضرتها إسرائيل في المغرب, ومصر, والأردن, وكان ذلك علي رأس أهداف مشروع الشرق الأوسط الكبير عام2004, وهو الهدف نفسه الذي كشف عنه عسكريون أمريكيون قبيل حرب العراق عام2003, من أن الهدف الأساسي للحرب هو إعادة رسم خريطة الأوضاع الإقليمية لتكون إسرائيل في مركزها سياسيا وأمنيا واقتصاديا.عبر كل هذه الخطوات والمشاريع كانت المياه هدفا لم يفارق عقل إسرائيل, وأن تحصل عليه ضمن تحقيق وجود لها في نظام إقليمي.واهتمام الحركة الصهيونية بإمكان جلب مياه النيل عبر صحراء سيناء, ظهر قبل عقود من إنشاء إسرائيل. ففي أوائل عام1903 قام تيودور هيرتزل بزيارة لمصر, وكلف الخبراء بإعداد دراسة عن تحويل مياه النيل عبر قناة السويس, لكن المشروع فشل بعد أن رفضته السلطات المصرية والبريطانية, وأعيد بحث الفكرة نفسها في أول السبعينيات فيما سمي مشروعYeorPlan, ثم مرة أخري عام1974 في دراسة للدكتور إليشا كيلي رئيس وكالة التخطيط المائي الإسرائيلية, تحدث فيها عن جدوي وصول مياه النيل إلي غزة, ورد ذلك في تقارير ومؤلفات تضمنت خريطة رسمها لقناة تمر تحت قناة السويس, عبر صحراء شمال سيناء, وتصل إلي غزة, ومن هناك تنقلها ناقلات إسرائيلية. ولهذا لم تكن غزة بعيدة في مخططاتهم, عن هدف استعادة الهيمنة عليها, بتفريغها من أكبر عدد من سكانها, حين تسمح لها الظروف بذلك.إن التفكير الإسرائيلي في السعي من أجل إطار إقليمي ودولي أوسع من دائرة العلاقات الثنائية, قائم علي إمكان الوصول من خلال هذا الإطار إلي ترتيبات تتخذ شكلا لا يظهر وكأنه انتهاك للقانون الدولي, أو لاتفاقيات المياه بين دول حوض النيل.إن أطماع إسرائيل تتجاوز في أحيان كثيرة حدود الممكن, وهي ليست مبنية علي قدرة خارقة, بل علي إطلاق الخيال, وهي تتصور أن الفرصة قد تأتيها من ثغرات تظهر لها في الصف العربي, فتنفذ منها, أو من خلال جر دول العالم إلي صياغة ترتيبات تعاون إقليمي تدخل إسرائيل طرفا فيها, وتبدو كأنها ليست متصلة بموضوع المياه, ثم يتم إقحام موضوع المياه فيها, ليبدو كأنه جاء عرضا, لكن بحيث يكون له سند قانوني توفره هذه الترتيبات.صحيح أن خيال إسرائيل الذي ينطلق بها إلي البحث عن الكيفية التي تستحوذ بها علي نصيب من مياه العرب حسبما ذكر بيريز, وما هو مسجل في دراسات وبحوث إسرائيلية, تتحدث عن مياه النيل علي وجه الخصوص, ومع أن الواقع يجعل ذلك من المستحيلات, فإن قراءة ما في عقل إسرائيل تبقي مسألة ليست قليلة الأهمية, بل هي عمل ينبغي التنبه إليه بعقل مفتوح.الفكرة الإسرائيلية تقوم أساسا علي مفهوم إعادة توزيع الثروة, أي أن تصب ثروة الدول العربية الغنية في مشروعات صناعية كبري في إسرائيل, ومثله إعادة توزيع الأنصبة في الثروة المائية, حسب منطق بيريز: من لا يملك يأخذ ممن لديه الوفرة.وإسرائيل تريد السير في طموحاتها غير المشروعة, بالوسائل الناعمة, من خلال الوجود في إطار نظام إقليمي ما أمكن, ولو في إطار محدود, ومن خلال عقد اتفاقات تيسر لها بلوغ هذا الهدف.*عن /صحيفة« الأهرام «المصرية»