شهر رمضان ساحة تدريب على الإخلاص؛ ذلك السر الذي به قوام الأعمال كلها على مدار حياة الإنسانفاعبد الله مخلصا له الدين:قال تعالى: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّين . أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) [الزمر: 2-3]أي أخلص لله تعالى جميع دينك، من الشرائع الظاهرة والشرائع الباطنة: الإسلام والإيمان والإحسان، بأن تفرد الله وحده بها، وتقصد به وجهه، لا غير ذلك من المقاصد. (ألا للهِ الدينُ الخالصُ) هذا تقرير للأمر بالإخلاص، وبيان أنه تعالى كما أن له الكمال كله، وله التفضل على عباده من جميع الوجوه، فكذلك له الدين الخالص الصافي من جميع الشوائب، فهو الدين الذي ارتضاه لنفسه، وارتضاه لصفوة خلقه وأمرهم به، لأنه متضمن للتأله لله في حبه وخوفه ورجائه، وللإنابة إليه في عبوديته، والإنابة إليه في تحصيل مطالب عباده. وذلك الذي يُصلح القلوب ويزكيها ويطهرها.] [تيسير الكريم الرحمن]وقال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:162-163][قل: إن صلاتي، ونسكي أي عبادتي. (والنسك: العبادة، أو الذبح، أو الحج). ومحياي ومماتي، وما أتيته فى حياتي، وأموت عليه من الإيمان والعمل الصالح لله رب العالمين خالصة لوجهه؛ لا شريك له فى شيء من ذلك. وبذلك الإخلاص أمرتُ، وأنا أول المسلمين؛ لأن إسلام كل نبى متقدم على إسلام أمته.] [النسفي][(قل إن صلاتي ونسكي) أي: ذبحي، وذلك لشرف هاتين العبادتين وفضلهما، ودلالتهما على محبة الله تعالى، وإخلاص الدين له، والتقرب إليه بالقلب واللسان، والجوارح، وبالذبح الذي هو بذل ما تحبه النفس من المال، لما هو أحب إليها؛ وهو الله تعالى. ومَن أخلص في صلاته ونسكه، استلزم ذلك إخلاصه لله في سائر أعماله وأقواله. (ومحياي ومماتي) أي: ما آتيه في حياتي، وما يجريه الله عليّ، وما يُقدَّر عليّ في مماتي.. الجميع (لله رب العالمين). (لا شريك له) في العبادة، كما أنه ليس له شريك في الملك والتدبير. ليس هذا الإخلاص لله ابتداعًا مِني، وبدعًا أتيته من تلقاء نفسي. بل (وبذلك أمرت) أمرًا حتمًا؛ لا أخرج من التبعة إلا بامتثاله (وأنا أول المسلمين) من هذه الأمة][تيسير الكريم الرحمن]فـ[الإخلاص هو “إكسير” الأعمال، الذي إذا وضع على أي عمل ولو كان من المباحات والعادات حوله إلى عبادة وقُربة لله تعالى، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّكَ لن تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغي بها وجهَ اللهِ إلا أُجِرْتَ عليها حتى ما تَجعلُ في فَمِ امرأتِكَ». [رواه البخاري]وقال تعالى في شأن الذين يجاهدون في سبيله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ . وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [التوبة: 120-121] فجعل جوعهم وعطشهم ومشيهم ونفقتهم مما يُسجل لهم في رصيد حسناتهم عند الله عز وجل، مادام ذلك في سبيل الله، ولن تكون هذه الأشيـاء في سبيـل الله إلا إذا أداها المسلم لتكون كلمة الله هي العليا.وأكثر من ذلك ما جاء في مثوبة مَن ارتبط فرسًا ليجاهد عليها في سبيل الله. ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنِ احتبسَ فرسًا في سبيلِ اللهِ إيمانًا باللهِ، وتصديقًا بوعدِهِ، فإنَّ شَبعَهُ وريَّهُ، ورَوْثَهُ وبولَهُ في ميزانِهِ يومَ القيامةِ» يعني: حسنات!وذلك أن الوسائل والآلات بحسب المقاصد والغايات، فكل ما يُعين على الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته، ونصرة دعوته، مِن عدة وآلة وتدريب وكسب خبرة ومهارة، فهو قُربة إلى الله، فبها الأجر والثواب.] [النية والإخلاص للقرضاوي]فـ[البواعث التي تسوق المرء إلى العمل، وتدفعه إلى إجادته، وتغريه بتحمل التعب فيه أو بذل الكثير من أجله، كثيرة متباينة.منها القريب الذي يكاد يُرَى مع العمل، ومنها الغامض الذي يختفي في أعماق النفس، وربما لا يدركه العامل المتأثر به؛ مع أنه سر اندفاعه في الحقيقة إلى فِعْل ما فَعَل، أو تَرْك ما تَرَك!والغرائز البشرية المعروفة هي قواعد السلوك العام، ومن اليسير أن ترى في حركات رجل أمامك حبه لنفسه، أو طلبه للسلامة، أو حرصه على المال، أو ميله للفجور، أو تطلعه للظهور..والإسلام يرقب بعناية فائقة ما يقارن أعمال الناس من نيات، وما يلابسها من عواطف وانفعالات. وقيمة العمل عنده ترجع -قبل كل شيء- إلى طبيعة البواعث التي تمخضت عنه.فقد يعطي الإنسان هبة جزيلة لأنه يريد بصنائع المعروف أنْ يستميل إليه القلوب، وقد يعطيها لأنه يريد أنْ يَجزي خيرًا مَن سبق فأسدى إليه خيرًا.. وكلا المسلكين كرم دفع إليه شعور المرء بنفسه سلبًا أو إيجابًا -كما يُعبِّر علماء النفس- ولكن الإسلام لا يعتد بالصدقة إلا إذا خلصت من شوائب النفس، وتمخضت لله وحده على ما وصف القرآن الكريم: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) [الإنسان: 9]] [خلق المسلم][(ويطعمون الطعام على حبه) أي حب الطعام؛ مع الاشتهاء والحاجة إليه. أو على حب الله؛ مسكينًا فقيرًا عاجزًا عن الاكتساب، ويتيمًا صغيرًا لا أب له، وأسيرًا مأسورًا مملوكًا أو غيره. ثم عللوا إطعامهم فقالوا: إنما نطعمكم لوجه الله؛ أي لطلب ثوابه. أو هو بيان من الله عز وجل عما في ضمائرهم؛ لأن الله تعالى علمه منهم فأثنى عليهم وإن لم يقولوا شيئًا. (لا نريد منكم جزاء..) هدية على ذلك، (ولا شكورًا..) ثناء.. (إنا نخاف من ربنا..) إنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة. أو إنا نخاف من ربنا فنتصدق لوجهه حتى نأمن من ذلك الخوف يومًا عبوسًا فمطريرًا.] [تفسير النسفي][(إنما نطعمكم لوجه الله) على إرادة القول بلسان الحال أو المقال؛ إزاحة لتوهم المن، وتوقع المكافأة الْمُنقِصة للأجر. وعن عائشة ل: أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت، ثم تسأل المبعوث: ما قالوا؟ فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله؛ ليبقى ثواب الصدقة لها خالصًا عند الله.(لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) أي شكرًا . (إنا نخاف من ربنا) فلذلك نحسن إليكم. أو لا نطلب المكافأة منكم. (يومًا) عذاب يوم. (عبوسًا) تعبس فيه الوجوه. أو يشبه الأسد العبوس في ضراوته. (قمطريرا) شديد العبوس، كالذي يجمع ما بين عينيه.][تفسير البيضاوي] فالعمل الخالص هو الذي لا باعث عليه إلا طلب القرب من الله تعالى.قال الفضيل في قوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك: 2] قال: أخلصه وأصوبه. وقال: إن العمل إذا كان خالصًا، ولم يكن صوابًا لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا، ولم يكن خالصًا لم يُقبَل؛ حتى يكون خالصًا وصوابًا. قال: والخالص إذا كان لله عز وجل، والصواب إذا كان على السُّنَّة.
|
رمضانيات
الإخلاص من الإحسان
أخبار متعلقة