يمكن أن ننفذ من الاختلاف بين تيار القرضاوي وتيار عمرو خالد فيما يخص أزمة الرسوم الدنماركية، إلى عمق المسألة خارج إطار هل نقاطع أم نحاور، وخارج أيضاً ما يقال من "غيرة" أصابت الرعيل الأول من بروز نجم الدعاة الجدد، بكل ما يتسمون به من لطافة وعصرية وتأثير على شرائح جديدة من "المستهلكين" للخطاب الإسلاموي، كدرع واق من شراسة العولمة في كسرها لكل مألوف.. هناك صراع بين العمامة والكرافتة (وليس الطربوش كما كان في جيل النهضة). صراع بين جيلين ينتميان لفكرة مسيطرة وهي أسلمة المجتمعات الجاهلية، لكنهم يختلفون في الأدوات والوسائل واللغة، وبالتالي مع الوقت يتشظى الخطاب الواحد إلى خطابين متابينين وقد يتناقضان، نظراً لمرونة إكساب أي فكرة مهما بدت غريبة طابع الشرعية الدينية. فالخطاب الديني في النهاية حمال وجوه، الفارق بين الخطابين في جوهره يتمثل في محاولة الإجابة عن سؤال صارخ من الفاتنة الأنيقة "العولمة"، هل المهم هو التمسك بما تأسست عليه مشروعية هذه الجماعات من رؤى وأفكار ونظريات كجاهلية المجتمعات وضرورة تديين جوانب الحياة المختلفة، وفق آراء فقهية وعقائدية أحادية، أم أن المهم هو فقط كسب الأنصار عبر عموميات لا تنكأ عدواً، ويمكن أن تحشد إلى مقولاتها فئات عريضة من المجتمع ممن لديهم تحفظاتهم الكثيرة على "الشيوخ"، إن على مستوى محتوى خطابهم الديني أو طريقة عرضه وإيصاله.. يؤكد الدعاة الجدد على أنهم ليسوا مفتين ولا فقهاء، وأنهم مجرد "دعاة"، وذلك بهدف عدم التماس مع السلطة العريضة التي يضطلع بها (( العلماء الشرعيون )) اصحاب العمائم ، إلا أن هذا الكلام في حقيقته ما هو إلا تأكيد على فشل أولئك على تمرير خطابهم وأفكارهم فيما يخص المواقف السياسية والاجتماعية العامة، كما الموقف من الآخر وقضاياه التي يطرحها بإلحاح في ظل ثورة المعلوماتية والتواصل التي يشهدها العالم. الفشل في الأخذ بشروط العولمة ومناخها العام أصبح يحاصر كثيراً من هؤلاء في نطاق ضيق، لا يتعدى حدود الفتوى الشخصية في مسألة فقهية، عادة ما يعيد فيها تكرار ما قاله منذ سنوات طويلة مضت. لكن ما اختلف هو حيز وصول هذه الآراء، حيث تحولت من مجرد فتاوى يتلقفها المناصرون والأتباع، إلى فتاوى تذاع عبر قنوات فضائية وصحف سيارة ومواقع إنترنت مفتوحة، تكسبها طابع الانتشار الواسع، مما قد يتسبب في إشكالات، لأنها آنذاك تكون كمن يتشبث بضرورة استخدام الساعة الرملية لمعرفة الوقت!إذا تجاوزنا سطحية وهلامية خطاب الظاهرة الجديدة، فإن مما يحسب لها هو تجاوزها للدخول في معترك السياسة والصراعات الدينية المفتعلة، لمجرد تسجيل موقف والحرص على الحضور الدائم في القضايا المحلية والدولية، حيث أصبح شغلها الشاغل هو الاهتمام بأخلاقية المجتمع، ولو وفق تصور أخلاقي مثالي وتطهري، مما حدا بالمفكر الفرنسي أوليفيه روا في كتابه "عولمة الإسلام" يشبهها بتيارات اليمين المسيحي المحافظ في أوروبا، والتي تهتم بملفات منع الإجهاض، والدعوة للحفاظ على العائلة وغيرها من القضايا الاجتماعية وذات الطابع الأخلاقي. وهي ملاحظة ذكية إذا أخذنا في الاعتبار أن "الروحانية" أصبحت موضة معاصرة، تكاد تذوب معها الفوارق الدينية، مما يؤهلها لأن تكون البديل السلمي في مواجهة خطاب العولمة الجارف.الصراع على أشده والأزمات المتتالية توسع الهوة بين الفريقين، والمسألة لن تحل بمجرد لقاءات وتصريحات دبلوماسية من الطرفين لمحاولة الاحتفاظ بالمكانة أو الخوف من الوصمة بالمروق من "الحق"، إنها بحاجة إلى إعادة النظر في اعتبار دور الفقيه وعلاقته بالمجتمع، كما الأنظمة السياسية، ليس تقليلاً من شأنه، وإنما رعاية لظروف العصر الذي يتطلب فقيهاً من نوع آخر، على اطلاع بما يجري من حوله من فتوحات في العلوم الإنسانية، وبما يجري على أرض الواقع، وبما يعيشه المسلم اليوم من تحديات تفرض عليه أن يكرس جهده، ليثبت أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ولكن المشكلة فيمن يتحدث باسمه ويحمله ما لا يطيق.* نقلا عن جريدة / "الشرق الأوسط" اللندنية
|
مقالات
لماذا الصراع بين الدعاة الجدد وشيوخ الأمس..؟
أخبار متعلقة