العيد.. وخفايا فراغ المدن
محمد حسن مزاحمعادات وتقاليد وأعراف كثيرة ترتبط بالاحتفاء بالمناسبات والأعياد وتختلف من مدينة إلى أخرى.إلا أن معظم هذه العادات والأعراف والتي تعد جزءاً من الموروث اليمني أوشكت على الاندثار في ظل الحياة العصرية والمدنية وبخاصة عادات وتقاليد الأعياد الدينية كعيدي الفطر والأضحى ولهذا الأخير خصوصية لافتة في عاداتنا وتقاليدنا وتراثنا الفرائحي.واللافت للنظر أنه في الفترة الأخيرة تحولت مواسم الأعياد إلى مناسبات فرائحية بالريف اليمني أكثر منه في المدن الرئيسية التي يصيبها عادة بهذه المناسبات فراغ وجفاف شبه تام.فمع حلول العيد يشد أنباء الريف رحالهم إلى موطنهم الأصلي تاركين منازلهم وأماكن عملهم باستثناء عدد ضئيل جداً يبقون في المدن على اعتبار أنهم من أبنائها الأصليين فتبدوا حالتهم مزرية من الوحشة والغبار والتصحر البشري في زمن العيد..!!فلماذا الحنين يشد سكان المدن إلى الريف؟ وهل الريف يبدو أفضل حالاً من المدن لفضاء إجازة العيد؟ هذا ما ستعرفه من خلال تحقيقنا هنا؟[c1]اكتشاف الحقيقة[/c]بمناسبة عيد الأضحى المبارك ولأن أكثر الأصدقاء لا غادروا المدينة فقد لبيت الدعوة الكريمة من أحد الأصدقاء وهناك أدركت أن للعيد في الريف معاني أخرى تختلف عن المدن..وبهذا الخصوص يقول الأخ مالك عبد الملك سهيل : لاشك أن في الريف اليمني ثري بالموروث الثقافي المتميز وهذا الموروث المتعدد بأشكاله ومكوناته الحضارية يكشف عن قيم الجمال التي يتمتع بها أبناء الريف ونحن هنا في ريف بعدان الدائرة (90) والتي تمتد إلى مناطق في العود بمحافظة الضالع لنا عاداتنا وتقاليدنا في الأعياد الدينية، فالألعاب الشعبية والتي تتصدر المكون الثقافي في المنطقة تقام بالأعياد بشكل مستمر ومنها الرقص الشعبي والألعاب ذات الصبغة الموسمية ذات الخصائص الرياضية التي تعتمد على العضلات من جهة وعلى أعمال العقل من جهة أخرى.. ويمارس أبناء بعدان والعود هذه الألعاب تعبيراً عن الارتباط بالجذور التاريخية وهي تنشيط لجانب الموروث الثقافي.. وعند أداء هذه الألعاب لاشك أن تقاسيم الفرح والسعادة هي السائدة بين الحاضرين وبالتالي تؤدي إلى تجدد العلاقات ونمو قيم الانتماء للجماعة، وهذه الألعاب تتسم بالبساطة والتلقائية وبإمكان الجميع ممارستها فمنها ما يتطلب المشاركة الثنائية أو الفردية، كما أن هناك ألعاباً خاصة بالرجال تتطلب منهم القوة والشدة..[c1]علاقات أصيلة[/c]يتميز الريف اليمني وخصوصاً بعض المناطق التي يرحل عنها أبناؤها للعمل في أماكن أخرى - بأنها تضم مجلساً للمناسبات يتجمع فيها أبناء القرية أو الدائرة - هذا ما شاهدته خلال زيارتي لمنطقة سراج بني منصور - مديرية بعدان - فهناك مجلس كبير يستوعب أكثر من مائة وخمسين شخصاً - مزود بالميكرفونات التي تعمل على إيصال الصوت نظراً لاتساع المجلس ولأن الزيارة كانت خلال أيام العيد.. فقد توافد إلى المجلس معظم أبناء الدائرة (90) من بعدان والعود من مشائخ وأعيان وشخصيات اجتماعية وتجارية وزراع ومثقفين ومعلمين وغيرهم.وللمجلس أصول يجب أن يحترمها الكل حيث يتم افتتاح المجلس (العيدي) بآيات من القرآن الكريم ثم تليها الكلمات حسب البرنامج المعد من قبل المشرف على المجلس..وهنا تبدو بهجته وروعته وجمال الجديد والتجديد..وهذا ما عبرت عنه كلمة الأخ عبد الملك سهيل شيخ المنطقة ورئيس فرع المؤتمر الشعبي العام بالدائرة (90) حيث نقل التهاني إلى أبناء المنطقة من خلال الحاضرين بمناسبة عيد الأضحى المبارك والذي أتى هذا العام متزامناً مع احتفالات الشعب اليمني بأعياد الثورة 26 سبتمبر و 14 أكتوبر و 30 نوفمبر.وقال سهيل إن الحنين هو الذي أعادكم إلى هنا ومناسبة كعيد الأضحى يجب أن نستغلها في توزيع الفرحة بين أهلينا وأقاربنا وصلة أرحامنا..فالعيد بهجة وحنان وعطف..كما أن كلمته لم تخل من الرسائل السياسية والتي يبدو أنها جاءت كاستغلال لمثل هذا التجمع فقد قال عبد الملك سهيل في كلمته العيدية « أيها الأخوة أن الحفاظ على الأمن والاستقرار والذي ينعم به الوطن مسؤولية الجميع وليس مسؤولية شخص بعينه أو حزب أو أفراد فكلنا شركاء في الحفاظ على هذه النعمة التي وهبها الله لليمن..داعياً جهات الاختصاص في الدولة أو السلطة المحلية من محافظة إب إلى سرعة إنجاز بعض المشاريع التي مازالت منطقة بعدان والعود تحتاج إليها وخاصة مشروع كهرباء عزلتي الوحج الشرنمة.[c1]قصائد شعرية[/c]ولأن المجلس الريفي يضم العديد من الأدباء والمثقفين فإن للقصيدة في مجلس مالك سهيل حضور بارز على لسان عددٍ من الشعراء المبدعين كمثل شاعر اللواء (35) مدرع/ إبراهيم مفتاح.. فقد استطاع الشاعر أن يجعل الرؤوس تتمايل طرباً من حسن الإلقاء لقصيدة أكاد أجزم أنها ستنال إعجابكم حال قرأتها والمعنونة بـ (فلسطين)..يقول بن مفتاح صدفة يا عرب ثنتين مثل أوجانهن بيض العقب حاولت أغض الطرف عنهن فانقلب قالت لي إحداهن لنا عندك طلب قالت طوانا الجوع وأضنانا التعبهل تخبريني عن حسبكم والنسبلا حنا من الدوحة ولا من حلبأحنا من القدس الشريف المغتصببعد الإجابة هذه أزداد العجبقالت كلانا يا فتى من صلب أبقتلوا أقاربنا وشارون السببلا بيت لا تنور لا ماء لا حطبتحرير موطنا عليكم قد وجبقلت اعذريني قد سيوفي من خشبقلت القيادة في منصات الخطبقالت غدرتوا بالعروبة يا عربسلم لنا سيفك ودرعك والسلبقلت أشجبي قالت كفى شتما وسبأصبح بكانا في مسامعكم طربأبكين قلبي بالحديث المستحبيا من عليكم لعنت الله والغضبوأزكى الصلاة ما غيمت والمزن صب * * * صادفت في الضالع فلسطينيتينومثل انفيهن صواريخ الحسينقلبي إليهن والقلوب يتقلبينهل عندك استعداد له قلت أطلبينعطفك علينا قلت بالعطف أبشرينقالت تأمل وأنت باتعرف منينكلا ولا إحنا من بلاد الرافدينمسرى رسول الله أولى القبلتينوالدمع حاول ينسكب من كل عينلكن حرمنا من حنان الوالدينما رعرعتنا غير أرض الجنتينيا بن الأماجد حالنا ما هو بزينيا واعدين القدس وعد الحر دينقالت خسارة أمة المليار فينوالشعب يا أختاه مكتوف اليدينوحرمتم أنفسكم من إحدى الحسنيينإن لم يعد حظك كحظ الانثيينالكلب ينبح والقوافل يعبرينوالشين حالي عندكم والحلو شينبالذات لما شفتهن قبلي بكينلن تفسدوا في الأرض الأمرتينوأذكى صلاة الله جد الحسينين [c1]التشويق والترحيب[/c]الكثير من أبناء الريف يظل يترقب قدوم عيد الأضحى المبارك للقيام بممارسة بعض المظاهر الاجتماعية الخاصة بالعيد ذات الصلة بحالة الترقب والاستعداد.. يقول الأخ مالك سهيل بالنسبة لنا في بني منصور ومنطقة العود وبعدان فالعيد يمثل لنا مناسبة فرائحية كبيرة فنحن صغاراً وكباراً نقوم بالترحيب بهذه المناسبة منذ وقت مبكر عبر الأناشيد والأهازيج..والكل يتجهزون بالكسوة ولوازم المناسبة، حتى أن صغار السن لا ينامون إلا القليل فهم من فرحتهم بالملابس يذهبون إلى أقرانهم ليريهم ما لديهم، والجميع يعيش في نشوة بانتظار فجر العيد..ويضيف الأخ مالك.. تعتبر هذه الأعياد مناسبة فرائحية تسمح للإنسان أن يحقق رغباته وفقاً لضوابط الشرع وآدابه وأن يعبر عن فرحته بالطرق الشرعية دون بطر أو رياء أو تفاخر أو تبذير ومباهاة..كما أن العيد مناسبة عظيمة لصلة الأرحام وفي الحديث الشريف أن الرحم من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله.ومن أوجه استغلال العيد الجلوس مع الأسرة والأبناء والتوسعة عليهم وإدخال السرور عليهم والسماع منهم ولا بأس أن يروح الإنسان عن نفسه بشيء من المباح والذي يدخل البهجة والارتياح إلى النفوس.[c1]ملابس العيد في الريف[/c]بخصوص مستلزمات العيد في الريف يقول الأخ مالك سهيل يكاد يكون هناك تشابه بين الريف والمدينة من حيث المستلزمات العيدية ففي الريف وخاصة في منطقة العود وبعدان يقوم رب الأسرة بشراء حاجة العيد من الجعالة (وهي تشكيلية من الزبيب واللوز وأصناف متعددة من السكريات وكذا حوائج البيت من أصناف التوابل والبهارات والتي لابد منها للحوم الأضاحي.. فيما تقوم ربة البيت بإخراج حاجة العيد من البر (الحنطة) لتنقيته من الشوائب وطحنه إذا لم يكن قد تم شراءه مطحوناً.. ثم يأتي بعد ذلك مرحلة صنع كعك العيد بأنواعه المختلفة وتشتهر منطقة العود وبعدان بأنواع خاصة من الكعك والتي يتم إنضاجه في البيت عكس المدن التي تقوم بصنع الكعك وإنضاجه في الأفران العامة.وإذا ما انتهت ربة البيت من أمر الكعك ذهبت هي ومن في البيت من النساء إلى القيام بأعمال أخرى متعلقة بالعيد وفي أصيل يوم العيد يكوم الأطفال ما جمعوه من فضلات الحطب وفروع الأشجار اليابسة أمام بيوتهم التي نظفت من الأتربة ورشت بالمياه وهم يقرعون بالطبول التي صنعوها لأنفسهم وبأيديهم وينشدون أهازيج العيد مثل قولهم (العيد عيد العافية عيد السعادة والقبول، العيد عيد العافية عيد الهريش الدافية) وإذا ما أعلن المؤذن رفع أذان المغرب أشعل الأطفال النار فيما جمعوه من الحطب وإطارات السيارات البالية، وقرعوا الطبول وتحلقوا حول النار وهم يدورون حولها ويتغنون بأهازيج معينة منها (شعل المشعيل بقناديله.. وإحنا جهال ما درينا به) أو قولهم (كرشوا أكلوا بطنه من أكل كرشه).[c1]أطفال العيد [/c]وحسب مصادر مختلفة فإن أطفال الريف يتميزون عن أطفال المدينة بالعديد من المميزات : فأطفال القرى يحتفلون بالعيد من أول أيامه، فيشترون مجامر مصنوعة من الطين النيئ التي تجفف بالشمس ثم تطلى بالجص وتزخرف بنقوش وخربشات كيفما يتفق لصانعها وتوضع في هذه المجامر نار خفيفة قبل أذان المغرب فإذا رفع الأذان طرح من يملك مجمرة شيئاً من بخور المر والفارعة وهما صنفان من البخور الفواح يستخرجن من صمغ الأشجار وأخذ يجول مع أبناء حيه وقريته وهم ينشدون (شم المر والفارعة والمهدي دخل وادعه يا جنة على الشارعة).وتستمر هذه الطريقة كل ليلة حتى ليلة العيد وما أبهج العيد عند الأطفال وما أجمل ذكرياته فهو العيد الحقيقي فما أن يعود الأب من عند الخياط بملابسهم فيأخذ كل منهم ما يخصه منها ويلبسها بعد أن يطأها بقدمه ويقول (أنت البالية وأنا الجديدة) ليقيسها على جسمه ويتباهى بها أمام إخوته تحت بصر وسمع الأبوين اللذين ليس لأكثرهما من حظ العيد سوى ما ينعكس على فلبيهما من فرح وإدخال السرور على أبنائهم.[c1]عادات وتقاليد.... ولكن..!![/c]الأخ مالك عبد الملك سهيل يشير إلى موضع يكاد يكون في غاية الأهمية حيث يذهب إلى الآثار السلبية لثقافة القنوات الفضائية وبالذات على العادات والتقاليد المتعلقة بالمناسبات وبخاصة الأعياد وبعد أن وصلت الكهرباء إلى معظم مناطق قرى وعزل العود وبعدان - كنموذج مصغر للريف اليمني.. وقال : في واقع الحال عزل وقرى منطقتي والريف اليمني بشكل عام لا تزال عادات العيد الجيدة وإن اختفت منه عادات وتجددت عادات حسب التحولات الزمنية والتطورات التقنية..ويتابع :أحن إلى أعياد زمان رغم بساطتها وشذاها الريفي الممزوج بالألفة بين الأصحاب وحميمية الأهل العامرة.وقال : كانت حسب تقديري أعياد الأمس عادات أكثر أنساً ومحبة فلم أعد أجد عند أولادي وأولاد قريتي فرحتي بالأمس وبهجتي رغم بساطة الحال بعكس اليوم الذي تحتاج فيه أعيادنا وخاصة الدينية إلى تكاليف مادية ومظاهر مكلفة ومرهقة للأسرة.[c1]عادات ريفية غير مستحبة[/c]وحول العادات غير المستحبة يسلط الأخ موسى السحاري أحد أبناء منطقة دلال - بعدان - الضوء على أخطاء ومخالفات تظهر أيام الأعياد في المدن بالذات مثل رمي القمامات أمام المنازل في القرى ومخلفات ذبائح العيد من الطرق والشوارع والأزقة حتى تتراكم أيام الأعياد وتحول القرى إلى مناطق غير حضارية.ويعيب السحاري على المجتمع الريفي اليوم ممارسة الإسراف بصورة متطرفة في الأعياد ويقول متسائلاً : ألم يؤدبنا القرآن الكريم بالقول الصادق (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) فخير للمرء أن يكون في كل عيد بسيطاً متواضعاً على قدر دخله المادي وما أحسن التصرف بالإمكانات المتاحة دون التظاهر بمظاهر البذخ والإسراف خاصة مع ارتفاع أسعار اللحوم بشكل مخيف..[c1]قطيعة المدينة [/c]خليل الشاب المتقد بالصمت المثقل بهم التفكير والمسكون بالابتسامة الموقوتة للحظة الانفجار يخلد هذا الموسم إلى فضاء إجازة العيد في مدينة إب استجابة لرغبة أحد أصدقائه الذي استأمنه لحراسة بيته وسافر هو إلى الريف..خليل يقول بصوت مثقل بالهموم : الحقيقة أنني لا أجد ذاتي في العيد إلا في مسقط رأسي التي أرحل إليه كلما استجابت له الظروف.فالقرية بالنسبة لخليل مصيفة الذي يسافر إليه بروحه وقلبه فراراً من المدينة من المدينة المأهولة بالقطيعة واليوميات المسورة بعيشة الغرباء وغياب الألفة، فجيرانه في انكفاء على أنفسهم وانطواء طول العام لا يلقي منهم إلا التحية حتماً مجهولة الهوية وبمبادرة منه - حد قوله ولهذا فهو يجد في السفر إلى البلاد في العيد فرصة لتعويض خسائر اجتماعية ألحقته بها المدينة.. وتجديداً يفك عنه حاجز الرتابة والشعور بالضجر وفي نفس الوقت قربى يصل بها رحمه وأقرباؤه.