عباس محمود العقاد
عمر عبد ربه السبع الكتابة عن الاديب عباس محمود العقاد ، الكاتب الموسوعي ، المفكر الشاعر ، القاص ،والصحفي .. وسط عالم متغير وبعد مرور أكثر من مئة وخمسة عشر عاماً (1889-1964) من تاريخ ميلاده قد تكون شائكة أكثر من اللازم ، إذا لم ينظر الى إبداعات هذا الاديب في المرحلة التي عاشها وأدار فيها معاركه الادبية ، وكتاباته الابداعية وشعره ونظمه البديع ، ومقالاته الادبية والصحفية .. وحتى لو حاولنا استخدام مبضع الناقد من بعض المناهج الحديثة على تراث هذا المفكر العملاق لتعثرت أقلامنا أمام الرؤى الجديدة التي تتضارب جملةً وتفصيلاً عن آراء وأفكار المفكر عباس محمود العقاد ولاريب أن للأديب العربي المصري عباس محمود العقاد فكراً وأسلوباً وطريقة تعبير منسجمة في كثير من أوجهها مع حركة المجتمع الذي تفيأ تحت ظله فهو - أي الاديب العقاد - كان كالمرأة التي تعكس مايمور ويموج في المجتمع المصري خاصة والمجتمع العربي عامة.وقد كان عباس العقاد على إمتداد حياته الادبية محور إرتكاز الحياة الادبية في العالم العربي ، وكانت نصوصه الابداعية وتحليلاته الابداعية وشعره تبعث في الحياة الثقافية والادبية حراكاً قوياً جعل من الادب أفق مفتوح يستقطب دوماً المزيد من الموهوبين في المجال الادبي والنقد والشعر ..وللكاتب عباس محمود العقاد خصائص فكرية وطريقة تعبير وأسلوب أدبي لايخطأه عقل المتلقي فضلاً عن الباحث والنقاد وهذه المتلازمة في أعماله التثرى جعلته يتبوأ صفة عملاق الفكر العربي ..لقد اصدر عباس محمود العقاد الشاعر اكثر من ثمانية دواوين شعر ، ففي عام 1916 اصدر ديوانه يقظة ، وفي عام 1917 " وهج الظهيرة" وفي عام 1921 " أشباح الاصيل " وفي عام 1928م اصدر " أشجان الليل" وفي عام 1933 " هدية الكروان" وفي عام 1937م " عابر سبيل" وفي عام 1942 " وحي الاربعين" واعاصير مغرب" وفي عام 1950 " بعد الاعاصير" كما أصدر ديوان "قصائد ومقطوعات".ورغم اصداراته الكثيرة في مجال الشعر إلاّ أن وصفة عباس العقاد كشاعر لم تلازمه ، بل إن بعض النقاد كالناقد طه وادي يرى أن شعر العقاد مثل غيره من الشعراء الرومانسيين العرب ، يصدر عن رؤية ذاتية تعبر عن أحاسيس الشاعر وعالمه الداخلي ، وإن في شعره إحساس حاد بالتشاؤم والحزن وشعور فياض بالحيرة والظمأ الى الهدوء والراحة والسعادة .أما الدكتور ماهر شفيق فريد يرى إن العقاد الشاعر أسوأ حظاً من العقاد القاص ، فهو يرى إن في دواوينه كلها لاتكاد تقع على أكثر من عشرين قصيدة جيدة .. ويضيف قائلاً إن هذا ليس بحد ذاته بالقليل .. ومع هذا فإنه ينكر عليه لقب الشاعر إلاّ فيما ندر ، وإن منظومات شعراء زمانه ولاتحقق أي ثورة اسلوبية وترسف في اغلال التقليد وتخلو من القبس والتوهج ..بيد أن بعض آراء المفكرين عن شعر العقاد تكاد تكون مبطنةكما قال عنه الدكتور عبدالرحمن أبو عوف بأن ثقافته الانسانية لم تخفف من عاطفته ، كما أن الدكتور لويس عوض قال إن عباس العقاد كان في بداية حياته ووعيه نموذجاً فريداً للكاتب الذي اجتمع فيه العقل والعاطفة .أما الدكتور مدحت الجيار قال إن العقاد من أكبر منتجي الثقافة في العالم العربي ، وإن عباس العقاد ليس مجرد كاتب او مؤلف مقالات ومبدع شعر ونقد ولكنه سياسي ومبدع وناقد وباحث ، له رأي خاص في كل شيء كتب عنه .وقد كان العقاد كما قال د. صلاح فضل يؤثر نفسه في كونه شاعراً قبل كل شيء لأنه أثر في الذين سبقوه بشعره .أما الدكتور جابر عصفور فقد قال أن العقاد كان متميزاً بالموسوعية وإنه كان ناقداً تميزت قدرته النقدية في محاربة المقدسات والافكار التي رسخت في الوعي واحالت العقل الى مجرد تقليد .ولعل صفة الموسوعية لم تعد تنفع في هذا الزمان الذي تكثفت فيه الخصوصية والبحث في كل التفاصيل والدقائق في موضوع واحد فهو في مقاييس هذا الزمان من الاوصاف القاصرة إن لم تكن المعيبة .ومع هذا لايغفل عصفور في إعطاء العقاد حقه في الشعر بأن قال :إن هناك ثلاثة ملامح في شعر العقاد من حيث كونه مزج بين الشعر والفكر وولوجه الى آفاق الفكر الرفيع من خلال الشعر الوجداني ، ومزج القلب والعقل معاً وجعل الشعر متداخلاً في حياتنا اليومية ..[c1]يقول الاستاذ العقاد في قصيدة له " في بيتي "[/c]مائدة كم بت اشتاقها القيت في صفحتها بالذباب أرحتني منها فقد عفتها فليس فيها مورد مستطاب فيازماناً جاء لي مفعماً بالفن او أسعدني بالعذاب إن تطلب الشكر على رحتي ما أجدر اللوم بذاك المصاب لقد أجمع النقاد والادباء على أن الاستاذ العقاد كان يملك عاطفة جياشة وشعور مرهف وثقة كبيرة بالنفس جعلته شديد الاعتزاز بها فخور بكبريائها على الآخرين ، فهو رجل عصامي أعترك مدرسة الحياة وصنع منها ثقافته الواسعة واحلامه العظام على شاكلة حي بن يقظان وكان أسلوب التحدي والمجابهة بعض من أدوات معاركة الادبية وعلاقته الاجتماعية ..يقول النقاد أنه تجرع مرارة الألم في حب من أسماها ( سارة) وهو اسم روايته الوحيدة ، فهكذا كانت قصائده لاتخفي تلك اللواعج ولاتحجب ظلال الحب وتفيء الهوى :يقول العقاد " في ديوان أشجان الليل":تريدين أن أرضى بك اليوم للهوى وأرتاد فيك اللهو بعد التعبد وألقاك جسماً مستباحاً وطالما لقيت جم الخوف جم التردد رويدك إني لا أراك مليئة بلذة جثمان ولاطيب مشهد جمالك سم في الضلوع وعتيرة ترد سهاد الصفو غير ممهد إذا لم يكن بد من ألحان والطلى ففي غير بيت كان بالامس معبد وقال عن المرأة أيضاً :خل الملام فليس يثنيها حب الخداع طبيعة فيها هو سترها وطلاء زينتها ورياضة للنفس تحييها وسلامها فيما تكبد به من يصطفيها أو يعاديها وقد أحب الاستاذ العقاد المرأة وأيما حب ، فهو القائل :لم أدر كيف يتاح لي نسيانها وخيالها من ناظري معلق حتى نسيت فعدت أذكر أنها كانت هواي ، فلا أكاد أصدق إن إفتتاني لحظة بغرامها لأحق بالعجب العجاب وأخلق ماكنت أجهل من عيوب صفاتها عيباً ، ولكن كل حب أحمق لقد مرّ الاستاذ بتجربة عاطفية مفعمة بأطياف الحب ومسراته وتخلل هذه التجربة الرضا والغضب والحزن ، واللوعة والألم والصفاء والجفاء .. إلاّ أن هذه التجربة او التجارب العاطفية التي خاضها العقاد مع المرأة ، فضلاً على اطلاعه الواسع عن الجنس اللطيف مكنته من اصدار ثلاثة كتب عنها هي :"هذه الشجرة" و " المرأة في القرآن " و " المرأة ذلك اللغز" وكان فحوى هذه الاصدارات أن المرأة شر لابد منه .. فلقد أحجم العقاد عن الزواج فهو في نظره من مزعجات الدنيا ولعل .. صفة عدو المرزة التي يتصف بها العقاد اتضحت معالمها أكثر عندما يسرد أحد تلامذة العقاد قصة لوحة للفنان صلاح طاهر كان يزين العقاد بها غرفة نومه ويرى فيها كل تاريخ الفن وتاريخ الاديان .. فقد شرح العقاد للفنان صلاح طاهر علاقته بفتاة ساعدها مادياً وأدبياً وصارت نجمة سينمائية وكثرت علاقاتها بآخرين مما أغضب الاستاذ العقاد الذي أرادها لنفسه وتركها وشهرتها وزحمة الناس حولها وإن حاولت مراراً العودة الى احضانه إلاّ أنه أبى وتكبر وامعاناً في هجرانه لها طلب من صديقه الفنان أن يمثل له هذه المرأة من سقط المتاع فكانت اللوحة عبارة عن فطيرة حلوة ، يشتهيها من يراها ، تكدس على الفطيرة صرصور او ذباب الى جانب الفطيرة وعاء حوى عسلاً ، والعسل ذباب ايضاً .. وهكذا جعل منها شيئاً وجعل هذاالشيء يقف عليه الذباب ، أو يعف عنه .. ووضع هذه اللوحة أمام سريره ، لتكون نظرته إليها كل يوم نوعاً من البصق عليها .وكما قال أنيس منصور إن معن هذه اللوحة بالنسبة للاستاذ عباس العقاد تمثل المرأة .. وبل وكل امرأة .." مائدة كم بت اشتاقها ألقيت في صفحتها بالذباب..لقد عاش العقاد حياة مترعة بالمغامرات العاطفية والمناوشات السياسية والمعارك الفكرية والثقافية .. وقد دافع عن آرائه باستماتة حتى هاب مناظريه ومناوئيه .. وحتى عندما يتراجع عن آرائه وافكاره وانتقاداته يتوارى بأساليب ماكرة تجعل الآخر يحترم وجهة نظره المدعمة بالحجج والمفعمة بالاقناع ..فقد كان في باكورة حياته يرى أن الشعر أفضل من فن القصة او الرواية وحجته " ما أكثر الاداة وأقل المحصول في القصص والروايات ، إن خمسين صفحة من القصة لاتعطيك المحصول الذي يعطيه بيت كهذا :" وتلفتت عيني فمذ بعدت عنها الطلول تلفت القلب "لأن الاداة هنا موجزة سريعة والمحصول مسبب باق ، ولكنك لاتصل في القصة الى مثل هذا المحصول إلاه بعد مرحلة طويلة من التمهيد والتشعيب".بيد أن الكاتب سامح كريم نقل عن العقاد قوله :" إنني لم أكتب ماكتبته عن القصة لأبطلها وأحرم الكتابة فيها لأنفي أنها عمل قيم يحسب للأديب إذا أجاد فيه .. ولكنني كتبته لأقول أولاً إنني استزيد من دواوين الشعر ولا استزيد من القصص في الكتب التي اقتنيها ، وأقول ثانياً إن القصة ليست بافضل الثمرات التي تثمرها القريحة الفنية "فهل نصدق ما قاله العقاد بهذا الاعتراف وهو الذي قرأ كثيراً في روائع الادب الروائي العالمي ، لكل من تشارلز ديكنز وليو تولستوي وتوماس هاردي وجون شتاينبك ومارسيل بروست وغيرهم .. وكان يستزيد منها كلما سنحت له الفرصة .. يقول الكاتب سليمان سالم كشلاف : رغم أن الاستاذ عباس محمود العقاد كتب ما كتب من رأي في الفن القصصي ، وحاول أن يطبق مفهومه ذاك عن الشعر والقصة في مقطوعات شعرية يحاول أن يجسد فيها رؤيته ورأيه الذين برزا بعد ذلك في رواية ( سارة) إلاّ أنه لم يستطيع الاحاطة بكل تفاصيل التجربة الحكاية ، ولايعدو قوله الشعري عن موقف واحد يتكرر بأكثر من وجه ، كزنه ينظر إليه من زوايا مختلفة ..".ولعل هذا التكرار في الموقف وانعدام التفاصيل هي التي أوحت اليتيمة او الوحيدة له لأن تجربته مع سارة عاشت في كيانه وفي عقله وقلبه ، ولم يستطع لها فكاكاً مدى حياته رغم تحديه وغروره ومحاولاته المتكررة إزاحتها من خياله وحياته .. وحتى فن الرسم او الكاريكاتير الذي أهداه له الفنان ( صلاح طاهر) وهو باب آخر من الفن الادبي طرقه الاستاذ العقاد وزينه في بيته ليؤكد تكامل صنوف الفن الادبي في التعبير والايحاء والتأثير ..يقول الاديب طاهر الطناجي " إن سارة التي أحبها الاستاذ عباس محمود العقاد كانت دافقة الانوثة وناعمة وكانت فوق هذا مثقفة وأن الاديبة في زيادة وعلاقته بها وبصالونها الادبي . لاتخفى على الآدباء والمثقفين وزوار الصالون الادبي - بل قال عنها الاستاذ إنها مثقفة قوية الحجة تناقش وتهتم بتحرير المرأة واعطائها حقوقها السياسية كما كان فيها بعض صفات الرجال من حيث انها جليسة علم وفن وأدب وان اهتمامها كان موزعاً بين العلم والانوثة ..".فإذا كانت تجربتيه العاطفيتين التي بين أيدينا تؤكد أنه يقف أمام امرأتين تؤكدان كل من ناحيتها بأنها ند له ، تتعامل معه في العقل والعاطفة .. تدافع عن آرائها وتبث لواعجها نحوه ، فإن التساؤل يظل مفتوحاً لماذا أراد العقاد أن يؤكد لنا في كتاباته الكثيرة ومقالاته بأنه عدو للمرأة ؟!فهل التجربة العاطفية ( الفاشلة) او التي لم تتوج بالزواج هي السبب الرئيس في لي فكرة وعقله ووجدانه عن المرأة ؟![c1]في كتابة ( أنا) يتحدث الاستاذ عباس محمود العقاد عن نفسه هكذا :[/c]" فعباس العقاد هو في رأي بعض الناس مع اختلاف التعبير وحسن النية ، رجل مفرط الكبرياء .. ورجل مفرط القسوة والجفاء .. ورجل يعيش بين الكتب ولايباشر الحياة كما يباشرها سائر الناس . ورجل يملكه سلطان المنطق والتفكير ، ولا سلطان للقلب ولا للعاطفة عليه ..".يقول العقاد :تجربتي أين أنت تجربتي ياكتبي ، أين أنت ياكتبي ؟!لم تمنعني دمعة تؤججها في القلب نار العذاب والغضب إليك عني فلست مانعة حزني ، وقد تمنعيني طربي إن وهج العاطفة في ضلوع عباس العقاد لم تخمد رغم ماصب عليها من مداه شعره ورغم كبح جماح نفسه التواقة للحب ، إلاّ أن أرق التجربة وتأثير المرأة عليه ظلت تلازمه مدى حياته .. وقد قال الرواة إن رواية عباس محمود العقاد ( سارة) والتي جاءت على غرار رواية الاديب الدكتور محمد حسين هيكل ( زينب ) من حيث العنوان كتبها بعد إنقضاء عشر سنوات من تجربته المثيرة مع المرأة ليؤكد أنه إذا كانت ( زينب) أول رواية عربية ( صدرت في 1914) فإن رواية ( سارة) أول رواية نفسية تحليلية تكتب في الادب العربي ..وعباس محمود العقاد لاينكر حبه لمي زيادة ، بل إن خطاباته المتبادلة بين مي والعقاد تعد ثروة أدبية ، فكرية وإنسانية .. وعن تجربة حبه مع مي زيادة يقال إن عباس محمود العقاد يؤمن بطوفان المشاعر وتوحد الحبيبين نفساً وروحاً وجسداً ، لذا أحترق حبه بصمت ، لأن مي تومن بالحب الصافي السامي العفيف الذي يرتفع عن رغبات الجسد ويسمو الى عالم الروحانيات وصداقة الفكر .. لهذا فقد خصها باسم هند في روايته الجميلة ( سارة) ..فهل يحق للاديب الانسان الكسير القلب في تجاربه الحياتية مع المرأة أن يجلد كل امرأة ويخضها لفلسفته الاحادية الجانب المرتبطة بالكرامة والاعتدادات بالنفس .. زم هذا هو ماتبقى لدينا للخوض في خضم مؤلفات هذا المفكر العملاق وصانع العقل العربي في أدق مراحل نهضته ..[c1]المراجع :[/c]1- " قراءة في أوراق مؤتمر عباس محمود العقاد بالقاهرة " صحيفة الرياض 1/1/2006م العدد 13705 .2- أنيس منصور " في صالون العقاد كانت لنا أيام ".3- "سارة" لعباس محمود العقاد .4- " المرأة التي كسرت ظهر العقاد " سليمان سالم كشلاف .5- " مي زيادة سطورة الحب والنبوغ " نوال مصطفى ، منتديات الساخر .6- " أنا " عباس محمود العقاد .7- " ديوان أشجان الليل" عباس محمود العقاد .