مرافئ: الشعور والتفكير في أعمال أحمد عبدالعزيز التعبيرية
محمد عمر باحاج:الفنان التشكيلي لا يرسم واقعاً تصويرياً بقدر ما يعيد بناء هذا الواقع وفقاً لرؤيته ، ومن هنا يأتي أهميته كمبدع ، أما عمله الفني ، والألوان وتوزيعها ، والظلال والأضواء والتناغم الهارموني في تدرج الألوان ، والكتلة والفراغ والبناء المعماري ، فكلها تخدم فكرته وتجسيده الهندسي وإحساسه بالجمل اللحنية في مجمل عمله الفني . راودني هذا الإحساس وأنا أتأمل بعضاً من أعمال الفنان التشكيلي أحمد عبدالعزيز القديمة والجديدة ، وأعترف مسبقاً بصعوبة تقديم قراءة فنية لأعماله التي أتيحت لي فرصة رؤيتها ، فتقديم شرح وتحليل لوحة فنية واحدة عملية دونها صعوبات كثيرة ، خاصة لمن كان في وضعي ليس له علاقة بالنقد الفني التشكيلي .. فما بالكم بتقديم قراءة لتجربة فنان مثل أحمد عبدالعزيز لا تقل تجربته التشكيلية عن ربع القرن إن لم تكن تزيد ؟ لهذا فإن ما سأقدمه في هذه السطور لن يزيد على كونه انطباعات فنية لمتذوق للفن التشكيلي ، وفي أفضل الأحوال تقديم قراءة أدبية ، وفي بعض الأحيان الاستعانة بآراء زملائه التشكيليين ممن تناولوا جوانب من تجربته . [c1]* التعبير الرمزي [/c]ينتمي أحمد عبدالعزيز إلى المدرسة التعبيرية ويقول عنه زميله حكيم العاقل بأنه ( يميل إلى الاختصار في لوحاته بحيث يتمثل نفسه في العملية الإبداعية التي تظهر كومضات لونية ، وربما يكون المشخص حالة تتجاوز مع المحيط , في حين يقول عنه زميله علي محمد يحيى بأنه ( يتمتع بمواهب نادرة في التعبير الرمزي ، وبروعة في استخدام الألوان ) .وتعد الناقدة والفنانة التشكيلية الدكتورة آمنة النصيري أحد القلائل الذين استطاعوا تقديم قراءة فنية للفنان أحمد عبدالعزيز ، وكشفت في كتابها ( مقامات اللون - مقالات ورؤى في الفن البصري ) أن خصوصية تجربته الفنية تكمن في حسه التجريبي وجرأته على اقتحام اجواء اللحظة عبر اللون دون توقعات مسبقة ) ، وتنبأت أن تجربته ( لو استمرت واجتازت خطوات أخرى للأمام ، فإنها تقدم للحركة التشكيلية اليمنية فنانا تعبيرياً جاداً ، يعيد للبيئة والإنسان حضورهما القوي في العمل الفني من خلال صياغة بصرية عفوية يصطخب فيها ضجيح اللون ) وفي حين تتسم بعض تجاربه بأدائية لونية عنيفة ، تتسم أعمال أخرى له بحالة إشرافية ، تنبئ عن انغماس الفنان في جو من الصفاء والتوحد بالموضوع الذي يعايشة ومن ثم يتمثله في نصه البصرى ) هكذا تؤكد د. آمنة النصيري .عندما تطالع لوحات أحمد عبدالعزيز يغمرك شعور بأن رسومه تقوم على أسس علمية وتتنامى ضمن سياق معرفي ، وتحمل رؤاه الخاصة ووجهة نظره الشخصية سواءاً فيما يرسمه من شخوص أو من واقع الحياة ، ويصبغها بإبداعه ، ويسكب عليها من ذاته وروحه ، ولولا ذلك لفقدت كلمة ( أكاديمي ) معناها الجذري وخلت أعماله من الروح .ويشير حكيم العاقل إلى تأثير دراسته للإخراج السينمائي في ايطاليا ودراسته للفن التشكيلي في معهد ( دانتي ) الايطالي على عوالم أحمد عبدالعزيز الفنية وعلى رؤيته للفن ، مسقطاً معارفة النظرية والعملية التي تمتزج معاً لتصنع لوحاته بمفهومها الحديث او المعاصر . أهم مايميز أعمال أحمد عبدالعزيز مثلما رايتها هو أنه لايثقل لوحته ، ويعثر على موضوعه بسرعة لكن الحال بالنسبة للمتلقي ليس كذلك ، لان الفنان يحاول أن يجعله شريكاً في العمل الفني بالابتعاد عن المباشرة والاعتماد على ذكاء المتلقي وعقله لتذوق عمله الفني والدخول إلى عوالمه . وفي حين ينقى عمله الفني من التفاصيل الصغيرة ، فإنه يصب جل اهتمامه على بعدين هما : الكتلة والفراغ - والاشتغال عليهما ، وفي حين نجد في بعض لوحاته تناغماً بين الألوان ، نجد في لوحات أخرى تضاداً بينها . لكنه في كل أعماله التي شاهدتها تقريباً نجد ذلك التمازج اللوني في الخلفية التي يشتغل عليها ويجعل منها عنصراً مهماً لاينفصل عن اللوحة ، وهو ما يدل على مقدرة ودربة ، وعلى حرفية عالية ودراية علمية تخدم موضوعة ، كما نجد ذلك التدرج اللوني الذي يضفي جواً شاعرياً مغلفاً بسحر الألوان وكأننا نستمع إلى لحن ميلودي .وإذا كان يحرص في مقدم اللوحة على بلاغة الإيجاز بمعنى ( اتساع الرؤيا وضيق العبارة ) فأنه في الخلفية يقدم دلالات لونية ، ولمسات فنية متفجرة تنبعث من بين الظلال والأضواء ، وتتماس مع كامل العمل عبر ضربات الفرشاة فتعطي متعة المشاهدة والتأمل في نفس الوقت ، وتدفع إلى التفكير وإقامة الحوار المطلوب بين الفنان وعمله ، وبينه وبين المتلقي في مجمل اللوحة ، أي قطبي المعادلة في أي عمل فني وهما الشعور والتفكير . وخلف تلك الأعمال ، وخلف الصور والإشكال يكمن الواقع بكل تعقيداته ، وهو واقع يزداد صعوبة وشراسة في كل يوم ، ذلك الواقع الذي يراه الفنان ويحاول فهمه وفك طلاسمه في حالات التخاصم والانسجام ، وفي حالات التضاد .وأحمد عبدالعزيز كفنان تشكيلي صاحب موقف ورؤيا لا يرسم هذا الواقع بصورة مباشرة ، بل عبر رؤى تعبيرية فنية يحدد من خلالها موقفه ، كإنسان وكفنان .[c1]* في مواجهة الواقع [/c]ولأن الواقع شديد التعقيد والتسلط كما أشرنا ، فأن روح الفنان فيه تجعله في مواجهة هذا الواقع يبحث عن أسلوبه الخاص لمجابهته وللتعبير عنه ، ومن هنا يمكن أن نعي الدلالات الحسية الكامنة في أعماله من خلال اختياره لموضوعاته ، ومن خلال المفردات التي يختارها ويشتغل عليها بعناية ووعي , فقتامة اللون الأسود حيناً ، والحوار بين اللونين الأحمر والأخضر حيناً أخر ، وحدة اللون الأزرق قياساً إلى بقية ألوان لوحة ما وتداخل وشفافية الألوان في خلفيات لوحاته ، كل ذلك يبرز إمكانية الفنان في التعبير عن الواقع الاجتماعي المحيط . كما يبرز إمكانية الفن الهائلة في تجاوز المرئي إلى اللامرئي ، والرسمي إلى المسكوت عنه .تكاد تكون المرأة عاملاً مشتركاً في كل أعمال ولوحات أحمد عبدالعزيز ، فهي حاضرة فيها بقوة ، وقد كانت المرأة وما تزال وستظل مصدر إلهام للفنان والمبدع على العموم منذ أن نحت الرومان تماثيل آلهتهم ، فهي ركيزة أساسية في أي عمل أدبي أو فني ، مثلما هي ركن رئيس في الحياة لايمكن تجاوزه .وعندما يرسم المرأة فأنه يهتم بها كقيمة إنسانية وكقيمة جمالية كما هي في الحياة وكما يفترض أن تكون في الفن ، لكنه يظل في جميع الأحوال مخلصاً لأسلوبه التعبيري ، ويولى جل اهتمامه إلى وجهها وتعبيراته في مختلف أوضاعه وحالاته لا إلى تفاصيل وتضاريس جسدها الانثوي .[c1]* المرأة والحرية [/c]وعن طريق وجوه النساء اللاتي يرسمن ويحتللن عدداً من لوحاته يحقق فكرته في النظر إلى المرأة والتعبير عن واقعها ، فنراها جميلة وحزينة وحالمة ومتحفزة وغاضبة ومتوترة ، إلى آخر هذه الحالات الإنسانية المتنوعة والمتعددة التي تمر بها المرأة ، ويعبر عنها الفنان على النحو الذي يراه .أن للمرأة تاريخاً طويلاً في أعمال الفنانين التشكيليين وقد استأثرت بكثير من لوحاتهم ، لكن كل فنان ينظر إليها من زاوية معينة ويرسمها وفق رؤيته ، ولانجد لوحة تشبه لوحة أخرى ، أو امرأة تشبه امرأة في تلك الأعمال .وهكذا نجد نساء أحمد عبدالعزيز شخصيات مختلفة ، بل شديدة الاختلاف من امرأة إلى أخرى ، ومن حالة إلى أخرى ، لكنهن في جميع الوحات التي اتيحت لي رؤيتها نجدها تمارس نزوعها الإنساني إلى الحرية ، وإلى إثبات الذات ، وإظهار صلابتها حتى في لحظات الانكسار وساعات الحزن والآسى ، وفي حالات البحث عن الخلاص ويجمع بينهن جميعاً أنهن نتاج للواقع وبؤسه ، والفنان في هذا لايجافي الواقع الذي تعيشه المرأة ، ولا الاضطهاد المزدوج الذي تتعرض له من المجتمع إلى حد تشريع هذا القمع ضد المرأة في معظم الأحيان . [c1]* المرأة والنخلة [/c]وفي لوحات أخرى ، نجد المرأة حاضرة بوضوح في أعمال أحمد عبدالعزيز كقاسم مشترك مع النخلة وكلاهما رمزان للعطاء ، وموضوع المرأة والنخلة ، أو المرأة والشجرة بينهما انجذاب طبيعي وعلاقة وجدانية اوروحية ، ونجد في القرآن الكريم تناولاً دلالياً لهذه العلاقة . ففي قصة خلق أبي البشرية آدم ( عليه السلام ) ، وخروجه من الجنة مفصل والشيطان ( إبليس ) والشجرة التي حرم الله عليهما الاقتراب منها ، كما نجد دلالة أخرى مغايرة برمزية العلاقة بين المرأة والشجرة - النخلة في موقع آخر في القرآن عندما وضعت مريم مولودها سيدنا المسيح ( عليه السلام ) وخاطبها : ( وهزي اليك بجدع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً ) . لكن أحمد عبدالعزيز في لغته التشكيلية وفي لوحاته المستمدة من البيئية والتراث الديني والواقع الاجتماعي لايستلهم سوى الدلالة الرمزية لهذه العلاقة بين المرأة والنخلة كنبع للعطاء الدائم ، فيكشف لنا في أعماله الدور الكبير الذي يلعبه الدين في التشكيل والرؤية فالنص الديني المقدس يمكن أن يكون في الوقت ذاته معطى فنياً جمالياً مؤثراً .وفي حالات أخرى يقدم لنا أحمد عبدالعزيز المرأة كنبع خالد للأمومة مستغرقة في حب طفلها وفي لوحات أخرى نجدها تقف إلى جانب رجلها وأطفالها مما يشير إلى حالة الاندماج الأسري الكامل , وفي إطار وقفتهم المتحركة يطلق الصورة التي أرادها بتجسيد المكان والزمان والمشاعر ، فحركة الأجسام تدل على حالة من الأداء الحركي - العملي وذلك بتوظيف الألوان والتكوينات الحركية والبصرية وحرفية الانتقال ، وتكوين السياق العام للصورة أو اللوحة فيما يشبه اللقطة السينمائية ، مما يشير إلى استفادته من الإخراج السينمائي الذي درسه في ايطاليا عام 1985م ، وعلاقة التشكيل بالسينما التي استفادت من كل الفنون السابقة لها . ونجد في أعمال هذا الفنان ذلك الربط بين الواقع والخيال، بين الإنسان والبيئة وتعادل الزمن التاريخي مع الزمن الكوني .ويقتضي مني الأنصاف في الأخير أن أقول أن أحمد عبدالعزيز كتجربة فنية تشكيلية يحتاج إلى قراءة أخرى معمقة بأسلوب فني وليس من منظور أدبي فقط ، ومن نقاد فنيين مختصين ، أو على الأقل من فنانين تشكيليين باعتبارهم الأقدر على تقديم قراءة معمقة لتجربة هذا الفنان وإضاءة عوالمه الغنية سواءاً من حيث المضمون أو الشكل أو من حيث معمارها الهندسي ، أو من حيث الكتلة والفراغ أو من ناحية إبراز الغائر والبارز ، أو تقسيم النسب والقدرة على تحقيق الاشتقاقات الهندسية البسيطة في كل عمل من أعماله على حدة أو في مجمل أعماله ، وكلها مصطلحات فنية يعرفها الفنانون والنقاد التشكيليون ، ومثل هذه القراءة هي وحدها القادرة على تناول أعماله بالشرح والتحليل .أما ما قدمته في السطور السابقة فاقرب إلى الانطباعات الذاتية والقراءة الأدبية ممن يزعم بأنه متذوق للفن التشكيلي مثلما هو متذوق للشعر ، ولا ترقى إلى مستوى الشرح والتحليل ، ولا تقترب من مستوى النقد الذي نحن في أمس الحاجة إليه في كافة المجالات والذي له أربابه واختصاصيوه لهذا فليعذرني الفنان أحمد عبدالعزيز إن أنا تطفلت على أعماله ، وليعذرني القارئ أن لم يشبع ما كتبته فضوله ويدفعه إلى الاقتراب من تجربة هذا الفنان وعوالمه الفنية .. وحسبي إنني حاولت ذلك .