محمد زكريايطل على حياتنا الثقافية كتاب ضخم يحفل بالمعلومات القيمة والممتعة والشيقة ، يعود بنا إلى العصر الذهبي ، عصر الدولة الرسولية التي امتد ظل حكمها على اليمن أكثر من قرنين من الزمان ( 626 - 858هـ / 1228 - 1454م ) ، والكتاب يروي قصة المدارس الإسلامية في اليمن بصورة عامة والدولة الرسولية بصورة خاصة والذي وصفها أحد الباحثين المحدثين بأنها أشبه بالدولة العباسية المشهورة بالعلوم ، والمعارف , وكيف كان العلماء النوابغ ، والفقهاء الكبار يلقون بعصا الترحال في تعز مقر مركز حكم ملوك بني رسول ، وحاضرة اليمن . والكتاب الذي في صدد الحديث عنه هو بعنوان (( المدارس الإسلامية في اليمن )) لمؤلفه العلامة الجليل ، والمؤرخ الكبير القاضي إسماعيل بن علي الأكوع صاحب القدح المعلى ، والمكانة الرفيعة في تاريخ اليمن الإسلامي ، والضارب بسهم وافر فيه. والكتاب يسجل ويدون المدارس التي ظهرت في عصر الدولة الرسولية ، وعلى وجه الدقة في بداية عهد الملك المعز إسماعيل بن طغتكين بن أيوب المتوفى سنة ( 598 هـ / 1202) . " وذكر الخزرجي أنه أول من أسس المدارس إلا سلامية في اليمن ". وهي المدرسة المُعزية أو مدرسة المُعز في زبيد ، والمدرسة الأخرى هي المدرسة السيفية في تعز . [c1]من مظاهر سيادة الحكم[/c]والحقيقة أنّ مؤرخنا الكبير القاضي إسماعيل الأكوع عندما سرد قصة المدارس الإسلامية في اليمن وخصوصاً في عصر الدولة الرسولية - كما ذكرنا سابقاً - فهو في الواقع يسلط الأضواء على الحياة الاجتماعية التي كانت تعيشها اليمن في تلك الفترة التاريخية ، وكما هو معروف أنّ الحركة أو النهضة الثقافية تعد صفحة من صفحات الحياة الاجتماعية أو بالأحرى جزء لا يتجزأ من نسيج التاريخ الاجتماعي . ومن خلال الكتاب سنتعرف أيضاً على الكثير والكثير جداً عن دور ملوك بني رسول في إحداث النهضة الثقافية في اليمن ، ومنهم ، ولقد بلغ أحدهم عشقه للثقافة أنه كان يمتلك مكتبة فخمة وضخمة ضمت أمهات الكتب علاوة على الكتب النادرة والنفيسة التي احتوت رفوفها على قرابة مائة ألف كتاب . ولقد شد انتباهي أنّ المدارس الإسلامية التي طفت على الحياة الثقافية في سواء في عصر الدولة الرسولية ، كانت لها أغراض سياسية بحتة إلى جانب الأغراض الثقافية . فقد كانت أشبه بالمنابر الذي يذكر من فوقها اسم السلطان وكذلك النقود التي تضرب فيها اسمه فيكتسب بذلك شرعية الحكم . ونستدل بذلك أنّ المدارس الإسلامية الذي أنشأها ملوك بني رسول كانت تعد من مظاهر الشرعية لحكمهم أو بالأحرى من مظاهر تثبيت أقدامهم في السلطة من خلال تأسيس تلك المدارس الإسلامية في عهده . فكان تأسيس المدارس يعني نشر سلطانهم السياسي في اليمن إلى جانب ذكر أسمائهم فوق المنابر ، وضرب النقود بأسمائهم - كما سبق وأنّ أشرنا - . [c1]الأيوبيون والمدارس الإسلامية [/c]والحقيقة أنّ المرء يبدي استغرابه عندما يتتبع تاريخ الدولة الأيوبية في اليمن حيث لا يجد أية مدرسة إسلامية بنيت في عهدهم وخصوصاً في عهد ملوكهم العظماء أمثال توران شاه المتوفي ( 576 هـ / 1181م ) أو الأمير الزنجيلي أو ألزنجبيلي المتوفى ( 583 هـ / 1187م ) الذي استقل بإمارة عدن أو السلطان طغتكين بن أيوب المتوفى ( 593 هـ / 1197م ) ، علماً أنّه من الأسباب الرئيسة في الفتح الأيوبي لليمن يعود إلى تصفية البقية الباقية من النفوذ الفاطمي في اليمن وذلك من خلال القضاء على الموالين لهم في اليمن كأمارة بني زريع في عدن التي كانت من أتباع الفاطميين في مصر . وكانت تلك العوامل والأسباب كفيلة أنّ يؤسس سلاطين وملوك وأمراء دولة بني أيوب المدارس الإسلامية ذي الاتجاه السُني ولكن لم نر أحداً من هؤلاء السلاطين أو الأمراء الأيوبيين سواء في زبيد أو في تعز أو في عدن من أسس مدرسة إسلامية واحدة ما عدا السلطان المُعز إسماعيل بن طغتكين بن أيوب المقتول سنة ( 598 هـ / 1201م ). الذي امتد حكمه على اليمن 14عاماً والذي شهد عهده اضطرابات سياسية عنيفة ، ومؤامرات ودسائس ومنازعات دموية بين أمراء بني أيوب والذي راح هو ضحيتها نفسه . وعندما قدم الملك المسعود بن الملك الكامل الأيوبي إلى اليمن مكث واستقر فيها فترة من الوقت لم يبن مدرسة إسلامية واحدة بل كل الذي قام به هو أنه قام بتجديد المدرسة ( المُعزية ) أو مدرسة المعز في زبيد الذي بناها الملك المعز إسماعيل - كما قلنا سابقاً - . ومن المحتمل أنه من الأسباب التي حالت بين ملوك بني أيوب في بناء المدارس الإسلامية هو اهتمامهم فقط في بسط سيطرتهم السياسية على مقاليد الأمور في اليمن , والعمل على إزاحة كل من ينازعهم السلطان والصولجان . وربما كان ذلك من الأسباب التي شغلتهم عن بناء المدارس الإسلامية في المدن اليمنية الهامة . [c1]صلاح الدين الأيوبي[/c]علماً أنّ الناصر صلاح الدين الأيوبي المتوفى ( 589 هـ / 1193م ) مؤسس الدولة الأيوبية في مصر، كان همه الأول وشغله الشاغل هو تأسيس المدارس السُنية في بلاد الشام ومصر وبلدان الشرق بغرض أعادة المذهب السُني إليها ، والعمل على التخلص من المذهب الإسماعيلي الذي كان المذهب الرسمي للدولة الفاطمية في مصر والتي حكمتها أكثر من مائتين عام. وهذا ما أكده الدكتور حسين مؤنس في كتابه (( المساجد )) ، قائلاً : " وعندما قامت دولة صلاح الدين أوقف التدريس في الأزهر ، لأن ذلك التدريس ، كان مرتبطاً بالمذهب الإسماعيلي الذي أبطله صلاح الدين ، عندما أعاد السُنية إلى مكانها التقليدي في مصر ، واتجهت همته إلى إنشاء المدارس لتقوم بتدريس الفقه السُني ، وبقي الأزهر خاملاً من الناحية العلمية حتى نهاية الدولة الأيوبية ". ولكنه عاد الأزهر مرة أخرى في مزاولة نشاطه العلمي من خلال تدريسه للعلوم الدينية السُنية في عهد السلطان الظاهر بيبرس المتوفى سنة ( 676هـ / 1277م ) . الذي يعد أعظم السلاطين في عصر دولة المماليك في مصر .[c1]طرز المدارس الإسلامية [/c]والحقيقة لا نعلم علم اليقين ، كيف كان طراز المدارس الإسلامية في اليمن في عصر الدولة الرسولية التي كانت امتداداً للدولة الأيوبية في مصر ؟ . هل كانت على طراز المدارس الإسلامية في مصر ، والشام التي تشكل وحدة معمارية كاملة أي بمعنى منشآت معمارية تكمل بعضها البعض فبجانب المدرسة ، كان يوجد المسجد ، والضريح ، المارستان ( المستشفى ) ، و سبيل الماء على غرار المدارس الإسلامية في عصر دولة المماليك في مصر الذين كانوا امتداداً للدولة الأيوبية والتي على أنقاضها ورثت حكم مصر والشام وبلاد الشرق العربي والذي كان لها دور مشرف في إنقاذ الأمة الإسلامية من الغزو المغولي في موقعة عين جالوت بفلسطين سنة ( 658هـ /1260م ) ، وكذلك في طرد الفرنج الصليبيين من الأرضي العربية نهائياً في عهد السلطان خليل بن قلاون . ويؤكد القاضي إسماعيل بن علي الأكوع أنّ طراز المساجد الإسلامية في اليمن تختلف عن باقي طرز عمارة المدارس الإسلامية في الشرق العربي ، فيقول : " لم تكن مدارس اليمن مستقلة كما كان الحالُ في مدارس الشام ومصر والعراق وبلاد فارس وخراسان وما وراء النهر ( نهر جيحون ) ، وإنما هي مدارس مسجدية وهي التي تجمع بين المدرسة وبين المسجد في بناء واحد ، وتلحق بها عدد من الغرف ( جمع غرفة ) وتعرف بالخلوة وجمعها خلو ليسكن فيها المدرسون وبعض الطلبة الذين لا بيوت لهم في ذلك البلد " . [c1]التدريس في المساجد ومميزاته[/c]ونستخلص من ذلك أنّ المدارس الإسلامية في اليمن هي المساجد حيث يتلقى الطلبة العلم فيها بخلاف المدارس الإسلامية الأخرى في مصر والشام حيث توجد فيها مدرسة مستقلة عن المسجد حيث يلقي فيها الشيوخ والعلماء على طلاب العلم العلوم الشرعية المختلفة والمتنوعة . ولكن يرى بعض الشيوخ ، والعلماء أنّ " التدريس في المساجد أفضل من التدريس في المدارس ، وأجزل نفعاً ، وأعظم أجراً ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، فإن التدريس في المساجد ، كان لا يحتاج إلى تكليف ، ولا تعيين لمن يقوم أو يرغب في التدريس فيها ، وإنما هو عمل اختياري يقومُ به من يريد الثواب الأخروي ، والنفع تطوعاً من ذات نفسه ومن دون أجر بينما التدريس في المدارس لا بُد له من تكاليف كما أنّ الطلبة لا يزيدون عن العدد الذي حدده باني المدرسة ، بينما الطالب الذي يدرس في المساجد ليس عليه قيود أو شروط تحدد علاقته به كما هو الحال في المدرسة ، فالمساجد مفتوحة أمامَ كل طالب علم يقرأ ويَدرس ما يُريد " . ومن المحتمل أنّ أسباب عدم انتشار طراز عمارة المدارس الإسلامية في اليمن على غرار المدارس في بلاد الشام ، ومصر وغيرها من بلاد الشرق العربي والإسلامي ، تعود إلى أنّ الأوضاع الاقتصادية في اليمن أقل من مستوى الحياة الاقتصادية في تلك البلدان الأخرى ، فاستعاض سلاطين وملوك الدولة الرسولية ببناء المساجد التي تكون في نفس الوقت مدرسة لتعليم العلوم الإسلامية وبذلك يتجنبوا التكاليف الباهظة في بناء مدارس مستقلة عن المساجد .[c1]أول من أسس المدارس [/c]سبقتُ الإشارة إلى أنّ الملك المعز إسماعيل بن طغتكين بن أيوب أول من أسس المدارس في اليمن - على حد قول الخزرجي مؤرخ الدولة الرسولية - " فبني له مدرستين أحدهما في تَعز وسماها ( المدرسة السيفية ) نسبة إلى أبيه سيف الإسلام طغتكين بن أيوب . . . والأخرى في زبيد ، وقد بناها سنة 594هـ ( 1198م ) وسماها المدرسة المُعزية ) أو ( مدرسة المُعز ) ، وهي التي عرفت فيما بعد بمدرسة الميلين . فكان المعز أول من بنى المدارسَ في اليمن . . . " . [c1]وانتشرت المدارس الإسلامية[/c]والحقيقة لقد وصف جمهور المؤرخين المعاصرين والمتأخرين عصر الدولة الرسولية بأنه كان عصر العلوم والمعرفة والثقافة ، وأنّ الحضارة اليمنية الإسلامية بلغت أوج ذروتها في تلك الفترة التاريخية . فعندما غربت شمس الدولة الأيوبية عن سماء اليمن السياسي ، وأشرقت شمس الدولة الرسولية على يد مؤسسها الملك المنصور عمر بن علي بن رسول ، سنة 626هـ / 1228م " انتشرت المدارس في عهده وفي عهد أولاده ملوك اليمن انتشارا واسعاً إذ ما من ملك من ملوكها المشهورين إلاّ وقد بنى له مدرسة ، أو مدرستين ، ومنهم من بنى أكثر من ذلك . ولقد ذكرنا في السابق أنه من الأسباب الرئيسة التي دفعت ملوك بني رسول إلى تأسيس المدارس الإسلامية ليس فقط حبهم للعلوم والمعرفة والثقافة وإنما كان إنشاء المدارس في مختلف المدن اليمنية من دولته تعني أنّ لديهم سلطان ونفوذ في تلك المناطق أو بالأحرى أنّ بناء تلك المدارس مثلت مظهر من مظاهر السيادة ومنحت الحاكم شرعية الحكم في تلك الأقاليم مثلها مثل المنابر التي يذكر فيها اسم الحاكم ، وكذلك كتابة اسم الحاكم على المسكوكات أو النقود . وكيفما كان الأمر ، فقد انتشرت المدارس الإسلامية انتشاراً واسعاً وعريضاً . ويقال أنّ الناس على دين ملوكهم . فقد تسابق الوزراء ، والأمراء ، والوجهاء وغيرهم من الناس على تأسيس المدارس الإسلامية . وفي هذا الصدد ، يقول القاضي إسماعيل الأكوع : " ولم يقتصر بناء المدارس على السلاطين والملوك من بني رسول فحسب ، بل سار على سننهم واقتفى آثارهم نساؤهم ووزراؤهم ، وأمراؤهم ، ومواليهم ، وإماؤهم ، وسراة اليمن في عصرهم - والناس على دين ملوكهم - حتى صار تشييد المدارس سمة واضحة من سمات عصرهم ، ومعلماً بارزاً من مظاهر حضارتهم " . ويضيف ، قائلاً : " ذلك لأنهم - أي ملوك بني رسول - كانوا علماء ، لهم مشاركة قوية في كثير من العلوم ، ولبعضهم باع طويل في معرفة علوم لم تكن شائعة ولا معروفة أنذاك " . [c1]الفيروز آبادي[/c]وكان من البديهي أنّ يُتبع إنشاء المدارس الإسلامية في اليمن في عصر الدولة الرسولية اختيار المُدرسين الأكفاء المجيدين في مختلف فروع العلوم الإسلامية وبذلك تصير المدارس إشعاع حضاري لليمن ، ولذلك بذل سلاطين وملوك بني رسول كل غالي ونفيس من أجل جلب العلماء ، والفقهاء ، والأدباء ، والنحويين , واللغويين النوابغ أمثال العالم الجليل الإمام اللغوي مجد الدين الفيروز آبادي صاحب القاموس المحيط والذي احتفى به الملك الأشرف إسماعيل بن الأفضل العباس المتوفى ( 803هـ / 1400م ) احتفاءً كبيراً عند قدومه إلى اليمن . ولقد وفر له كل سبل الراحة والدعة ، ولقد أجزل له الأموال السخية ، وخلع عليه الخلع النفيسة حتى يلقي بعصا ترحاله في مملكته , وكان ذلك بالفعل . وفي هذا الصدد ، يقول القاضي إسماعيل الأكوع : " ولما قدم إلى اليمن الإمامُ اللغوي مجدُ الدين الفيروز آبادي ، احتفى به الملكُ الأشرف ، وأنزله ضيفاً عليه ، فألقى عصا الترحال ، وتصدَّر في مدينة زبيد للتدريس ، وكان الملكُ الأشرف أحدَ من أخذ عنه ، ثم ولاه قضاء الأقضية ، فكان يقضي ، ويُدرّس ، ويُؤلف ، فقد ألف كتابه الشهير ( القاموس المحيط ) في اللغة ، وأهداه في مقدمته إلى الملكُ الأشرف اعترافاً بأياديه عليه فأغدق عليه أسباب الرزق " . [c1]تعز قبلة العلماء[/c]وفي نفس السياق ، يقول مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع حول تشجيع سلاطين وملوك بني رسول للعلماء والفقهاء العظام لغرض التدريس في المدارس الإسلامية لطلاب العلم من ناحية ومن ناحية أخرى أن تستفيد اليمن من علومهم ومعارفهم الغزيرة بصورة عامة " لقد كان عصرُ بني رسول أخصب عصور اليمن ، وأكثرها ازدهاراً بالعلم ، وأوسعها عطاءً بالإنتاج الفكري لاهتمام ملوك بني رسول بنشر العلم ، ورفع مكانة العلماء عندهم ، وتكريمهم ، وفتح أبواب قصورهم لهم في تعزَ حاضرة الدولة الرسولية ، فكانت موئلاً للعلماء ومقصداً لهم يُنيخون بها ركائبهم ، ويُلقون فيها عصا الترحال ، فيجدون من التكريم والتقدير أكثر مما يؤملون وفوق ما يتوقعون " . ويسترسل : " كما وفد إلى تعز عددُُ ُ من العلماء المشهورين جاءوا إليها من شتى ديار الإسلام طمعاً في الإفادة والإستفادة ، فكانوا يُقدمون إلى ملوك بني رسول أبدع ما جادت به قرائحهم من مؤلفات ، ويُهدونها إليهم ، فيجيزونهم عليها أسنى الجوائز وأسخاها ، ويعرضون عليها أعلى المناصب ليتولوا أعمالها ، فمنهم من يقبل ، ومنهم من يعتذر . وكان ملوكُ بني رسول يحرصون على التمسك بمن يفدُ إليهم من هؤلاء العلماء ليبقوا لديهم حتى تنتفع بهم البلاد " . والحقيقة لقد تعمدت أنّ أطيل الحديث عن مناقب ومآثر ملوك بني رسول في نشر الحضارة الإسلامية في اليمن من خلال تأسيس المدارس الإسلامية الكثيرة في مختلف المدن اليمنية الهامة ومن ناحية أخرى تشجيعهم للعلماء الكبار في الاستقرار والعيش في اليمن لغرض تقريب صورة الحياة الثقافية المزدهرة التي كانت عليها اليمن في عصر تلك الدولة والذي شبهها أحد المؤرخين المحدثين بالخلافة العباسية في العراق - كما قلنا سابقاً - التي كانت تموج بالحركة والنشاط الثقافي الكبيرين ، وكانت قبلة العلماء والفقهاء العظام ، وكبار الأدباء والشعراء والحق يقال لقد كانت تعز تمور موراً بكل فن من فنون الفكر والثقافة والإبداع ، كان عصر الدولة الرسولية - كما أجمع المؤرخون القدامى والمتأخرون بأنّ عصرهم العصر الذهبي للحضارة اليمنية الإسلامية . [c1]أنواع المدارس [/c]ومن أجل أنّ يتقرب السلطان الملك المنصور عمر بن علي بن رسول المقتول سنة ( 647هـ / 1250م ) مؤسس الدولة الرسولية في اليمن إلى أهلها - بعد أنّ خلع طاعته عن الدولة الأيوبية في مصر الذي أصابها الوهن والعجز ، وسرى في جسدها الشيخوخة - ليثبت أقدامه سياسياً في اليمن أعلن أنه تحول من المذهب الحنفي إلى المذهب الشافعي وهو مذهب الأغلبية الساحقة من أهل اليمن . وقبل ذلك زعم الملك المنصور ألرسولي بأن جذوره تمتد إلى قبائل يمنية لغرض أنّ يتقبل أهل اليمن حكمه بصورة شرعية ، وأنه لم يأت من خارج اليمن بل من داخلها . وفي هذا الصدد ، يقول القاضي إسماعيل الأكوع : " ولم يكتف نور الدين - يقصد الملكُ المنصور ألرسولي - بهذه الإرهاصات والتنبؤات لإقناع أهل اليمن بأنه منهم وإليهم بل أكد على ذلك بأن تحول من المذهب الحنفي مذهبه ومذهب أسلافه إلى المذهب الشافعي مذهب الأغلبية الساحقة من أهل اليمن . . . " . وبأسلوب ساخر يعقب القاضي إسماعيل الأكوع على الخطوة التي قام بها الملكُ المنصور وهو تحوله من المذهب الحنفي إلى المذهب الشافعي ، قائلاً : " وذلك لتكتمل فيه ( أي يقصد الملكُ المنصور بن رسول ) شروط ما يعرف اليوم بالمواطنة حتى يقبله أهل اليمن ملكاً عليهم فلا يجدون في أنفسهم حرجاً منه . . . " . ومن أجل أنّ يؤكد صدق تحوله من المذهب الحنفي إلى المذهب الشافعي . " فقد بنى لأصحاب هذا المذهب - أي المذهب الشافعي - ست مدارس : مدرستين في تعز ، هما المدرسة الغرابية ، والمدرسة الوزيرية ، ومدرسة في الجند ، ومدرسة في حد المنسكية من وادي سهام ، ومدرسة في مدينة زبيد أطلق عليها اسم المدرسة المنصورية العُليا . . . بينما لم يبن لأصحاب مذهب أبي حنيفة مدرسة على الإطلاق . . . " ولكن مؤخراً قام " . . . ببناء مدرسة في زبيد ذات قسمين قسم لأصحاب أبي حنيفة وقسم لأصحاب الحديث ، وقد أطلق عليها إسم المدرسة المنصورية السُفلى ، كما بنى مدرسة في عدن لتدريس فقه المذهبين الحنفي والشافعي " . وهذا ما أكدناه في السابق أنّ بناء المدارس الإسلامية من قبل سلاطين وملوك بني رسول لم يكن خالصاً لوجه العلوم والمعارف والثقافة فحسب بل كان لغرض كذلك تثبيت أقدامهم في اليمن ، وانه يمنحهم السيادة والشرعية على حكم البلاد والعباد .[c1]مناهج التدريس[/c]يشرح لنا مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع الكتب المعتمدة للتدريس في المدارس الإسلامية في عصر الدولة الرسولية ، فيقول : " كانت الكُتب المعتمدة لتدريس المذهب الشافعي هي (( التنبيه )) (( المهذب )) لأبي إسحاق الشيرازي وشروحهما وحواشيهما ، وكذلك (( الوسيط )) و (( الوجيز )) للغزالي وشروحهما ، و (( الحاوي ) لعبد الغفار القزويني وشرح ، و (( وإرشاد الغاوي في مسلك الحاوي )) لإسماعيل بن أبي بكر المُقري ، و (( المنهاج )) للنووي ، و (( معين أهل التقوى )) لعلي بن أحمد الأصبحي ، و (( البيان )) للإمام يحيى بن أبي الخير العِمراني " . وفي نفس السياق يتحدث القاضي إسماعيل الأكوع عن الكتب المعتمدة لتدريس مذهب الإمام أبي حنيفة ، فيقول : " فهي كثيرة منها مختصر القدوري وشرح (( الجوهرة النيرة )) لأبي بكر الحدّاد ، و (( دُرَر المُهتدي وذخر المقتدي )) لأبي بكر بن علي بن موسى الهاملي وشرح (( سراج الظلام )) لأبي بكر الحداد " . وتلك الكتب المعتمدة سواء الشافعية منها أو الحنفية في المدارس الإسلامية هي نفسها التي كانت تدرس في المدارس الإسلامية في مصر أو في الشام أو الشرق العربي وهذا دليل أنّ المدارس الإسلامية في عصر الدولة الرسولية كانت تقف في مصاف المدارس الأخرى في الوطن العربي والإسلامي . واللافت للنظر أن مواد التدريس في تلك المدارس الإسلامية في اليمن كانت الأغلب الأشمل هي الشافعية ، والحنفية أمّا المذاهب الأخرى المشهورة فلم تدرس فيها مثل كتب مذهب المالكي ، وكتب المذهب الحنبلي . [c1]مدة الدارسة وموعدها[/c]والحق يقال أنّ المؤرخ الكبير القاضي إسماعيل الأكوع في مجلده الضخم كشف لنا الكثير من المعلومات الهامة والشيقة التي كانت في طي النسيان . فقد نفض الغبار عن حضارة يمنية إسلامية كانت ملء السمع ، والبصر ، والفؤاد و ذاعت شهرتها الآفاق . وكانت المدارس الإسلامية أحد وسائل تلك الحضارة اليمنية المجيدة . على أية حال ، فقد أوضح لنا مدة الدراسة في المدارس الإسلامية ، وموعدها ، قائلاً : " كانت مدة الدراسة في كل عام تسعة أشهر ، سبعة أشهر منها للفترة الرئيسية التي تبدأ من غرة محرم الحرام ، وتنتهي بنهاية شهر رجب ، وشهران للفترة الأخيرة التي تبدأ بعد انقضاء أيام عيد الفطر ، وتنتهي آخر ذي القعدة " . ويضيف ، القاضي إسماعيل ، قائلاً : " ويخصص شهر رجب في مدينة زبيد ، وتهامة لقراءة صحيح الإمام البخاري رحمه الله . . . " . [c1]المدرسة الظاهرية[/c]شهد ثغر اليمن عدن في عصر الدولة الرسولية عدداً من المدارس الإسلامية منها المدرسة الظاهرية " بناها السلطان الملك الظاهر يحيى ابن الملك الأشرف إسماعيل " . ويروي التاريخ عنه ، أنه توفى سنة ( 842 هـ / 1439م ) ، و دفن في المدرسة الظاهرية بتعز ، وكانت آخر مدرسة بنيت في العصر ألرسولي لأحد ملوكها . وشهدت اليمن في عهده الكثير من القلاقل ، والفتن ، والاضطرابات التي نشبت في الكثير من المناطق وعلى الرغم من سياسته العنيفة والدموية إزاء مناوئيه لم يستقيم له أمر البلاد " . . . ولم يزل الظاهر يعاني من اختلال الأمن الذي تفاقم عليه ، وعجز عن كبح جماحه حتى فارق الحياة في مدينة زبيد " . ولكننا لم نعلم أين تقع تلك المدرسة الظاهرية في عدن ، ومتى شرع في تأسيسها ؟. وما الشيوخ ، والعلماء ، والفقهاء الذين درّسوا في تلك المدرسة ؟ وهل كانت قاصرة على تدريس المذهب الشافعي أمّ المذهب الحنفي أمّ أنها جمعت بين المذهبين معاً ؟ . [c1]المدرسة الأتابكية [/c]أسسها الأمير سيف الدين الأتابك سُنقر الأيوبي في أبين ، وكان أحد الأمراء الكبار في جيش السلطان طغتكين بن أيوب الذي قدم إلى اليمن سنة ( 578 هـ / 1183م) بسبب الاضطرابات ، والقلاقل التي اشتعلت في كل مكان من اليمن بعد وفاة السلطان توران شاه ، وتنازع نوابه على عدن ، وزبيد ، وتعز على السلطة .وعندما توفى السلطان طغتكين بن أيوب سنة ( 593 هـ / 1196م ) ، وتولى ابنه السلطان المُعز إسماعيل مقاليد الحكم في اليمن ، ولكنه لم يكن بقوة شخصية والده طغتكين ، وقد ترك شئون الحكم إلى الأمير الأتابك سُنقر ، وأنغمس في اللهو والملذات مما أتاح الفرصة للأخير أنّ يبسط نفوذه وسلطانه على أمور السياسية في اليمن ، وكان الأمير الأتابك سُنقر منذ أنّ تولى السلطان الملك المعز إسماعيل يعد العدة للإطاحة به . ومن أجل أنّ ينفرد الأتابك سُنقر بالسلطان والحكم ، كان لا بد من تصفية الملكُ المعز جسدياً حتى يخلو له الجو السياسي . وبعد مقتل الملكُ المعز صار بعدها الأتابك سُنقر الحاكم الفعلي ، وصاحب الكلمة النافذة في اليمن . وتذكر بعض الروايات التاريخية أنّ مماليك السلطان الملكُ المعز. قد دبروا مؤامرة لقتل الأتابك سُنقر انتقاماً لسيدهم الملك المعز التي تشير أصابع الاتهام بأن الأتابك سنقر هو مدبر قتل الملكُ المعز ، وقيل أنّ الأتابك قتل سنة ( 607 هـ / 1211م ) مسموماً . وكيفما كان الأمر ، لا نعلم علم اليقين متى بنيت المدرسة الأتابكية في أبين ؟ . وما هي الكتب المعتمدة التي كانت تدرس فيها هل كانت على المذهب الشافعي أم على المذهب الحنفي أم قسمت إلى قسمين لتدريس المذهبين الشافعي والحنفي ؟ . [c1]المدرسة المنصورية [/c]بناها الملكُ المنصور عمر بن علي بن رسول في عدن ، ويعد الملكُ المنصور مؤسس الدولة الرسولية في اليمن ، وتقول المراجع التاريخية أنّ تلك المدرسة ضمت قسمين ، قسم لتدريس المذهب الشافعي ، والقسم الآخر لتدريس المذهب الحنفي . وقيل أنه اهتم بها اهتماما بالغاً . فقد أوقف لها أوقافاً كثيرة في لحج وعدن . ولكن المعلومات التاريخية تصمت عن تحديد موقع تلك المدرسة المنصورية في عدن ، ولا نعلم على وجه الدقة متى كان تاريخ بناءها ؟ . ولكن القاضي إسماعيل الأكوع أسهب في الحديث عن شيوخها ، وعلمائها ، وفقهائها الذين درسوا فيها على سبيل المثال الزكي بن الحسن ، أبو طاهر ، شمس الدين البيلقاني الفقيه البارع المُناظر الأصولي المنطقي " . [c1]الهوامش : [/c]القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ المدارس الإسلامية في اليمن ، الطبعة الثانية 1406هـ / 1986م ، مكتبة الجيل الجديد - صنعاء - ، مؤسسة الرسالة - بيروت - لبنان - .القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ الدولة الرسولية في اليمن ، الطبعة الأولى 2003م ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر - عدن - الجمهورية اليمنية - .الدكتور حسين مؤنس ؛ المساجد ، عالم المعرفة ، 1401هـ / 1981م , المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت - . محمد زكريا ؛ الملكُ المعز الأيوبي في الميزان ، 14أكتوبر ، العدد 13819، 16/ يوليو/ 2007م
|
تاريخ
المدارس الإسلامية في اليمن عبر التاريخ
أخبار متعلقة