[c1]ظهور الموشح[/c]يرى كثير من الباحثين ان ماشهده الغناء اليمني قبل القرن السادس الهجري كان بمثابة إرهاصات تبلور منها ذلك التطور الذي حدث في ذلك القرن ، وهو التطور الذي شكل مرحلة جديدة للغناء التقليدي اليمني الذي أبحر الحديث عنه الى قالب جديد هو الموشح ، والمعروف بالموشح الغنائي اليمني الذي عرف لاحقاً بشعر الغناء الصنعاني، وهو الغناء الذي يستمد معظم مادته مما يعرف بالشعر الحميني (بضم الحاء) وهذا الشعر ينفرد به اليمن دون غيره فهو غير ملتزم بقواعد اللغة الفصحى ومفرداتها وعروضها. ويتابع الفنان جابر: وللشعر الحميني في اليمن أشكال ثلاثة هي: الموشح والمبيت والقصيد، وهذه الأشكال الثلاثة مثلت أهم روافد الغناء التقليدي، وإن كان الشكل الأول المتمثل بالموشح قد عكس في منظومته المقامية والإيقاعية واللحنية الخصوصية الغنائية اليمنية التي تجلت كثيراً فيما عرف بالأغنية الصنعانية، لكون هذا الموشح يعتمد على ضروب إيقاعية وعلى صياغات لحنية ومقامية تستمد وجودها من منظومة حسية يمنية متفردة تتمثل في الأصوات الغنائية الشعبية في المرتفعات الجبلية.. ولعل هذا يتضح من خلال العلاقة البارزة بين موازين الأغاني الشعبية في هذه المناطق والتراكيب الضروبية لهذه الموشحات، هذا فضلاً عن الوشائج الواضحة - لغوياً وعروضياً - بين شعر الموشحات اليمنية والشعر الشعبي لأبناء هذه المناطق. ويضيف: وما يلقي مزيداً من الضوء على هذه السمة أن ضروب الموشحات اليمنية هي نفسها تلك الموازين المنظمة للرقص الشعبي في مناطق المرتفعات الجبلية بما فيها صنعاء .. وليس أدل على ذلك من أن الرقص في مدينة صنعاء يعتمد على الضروب ذاتها التي تتخلل البنى التحتية للموشح، ولعل هذا كان وراء تسميته بالأغنية الصنعانية، هذه الأغنية التي تعد أبرز ألوان الغناء اليمني إن لم تكن حالة التميز فيه. وعلى الرغم من الاختلاف الذي لايزال قائماً حول عمر الأغنية الصنعانية إلا أن الراجح بأن لها تراثاً غنائياً يعود الى ما قبل القرن السادس الهجري، وقد بلغ ذروته في القرن التاسع الهجري من خلال كوكبة من ألمع الشعراء يتصدرهم محمد بن عبدالله بن شرف الدين .ويتابع الفنان جابر علي أحمد موضحاً أن هذا الشكل الغنائي اليمني قد تعرض في اثناء الحكم الأمامي ، وتحديداً في فترة حكم الامام يحيى وابنه أحمد في النصف الأول من القرن العشرين ، إلى موجة تحريم اعاقت تقدمه .[c1]الغناء الصنعاني [/c]في ذلك الوقت كانت عدن والجزء الجنوبي من اليمن التي كانت تحت الاحتلال البريطاني ملجأ وملاذاً لكثير من المطربين الفارين من ملاحقة أسرة آل حميد الدين ، وتحملت عدن في تلك الفترة مسؤولية الحفاظ على التراث الغنائي القديم ونشره بشتى الطرق .. حتى جاء من قال إنه لولا وجود الغناء الصنعاني في عدن وغيرها من المناطق التي لم تكن خاضعة لحكم أسرة آل حميد الدين لتلاشى ذلك التراث ، حيث كانت عدن أول من سجلت الإغاني اليمنية في آخر الثلاثينات والاربعينيات والتي حفظت لنا الكثير من تلك الاغاني حتى يومنا هذا ، كما أسهمت في اخراج الأغنية الصنعانية إلى المستوى الاقليمي والعربي بفضل الكثير من المطربين أمثال : أبوبكر سالم بلفقيه وعبدالرحمن الحداد وأحمد فتحي ومحمد سعدعبدالله ومحمد مرشد ناجي وفيصل علوي وايوب طارش .. وغيرهم بعد أن قاموا بتهذيب الكثير منها وإعدادها وتقديمها من خلال فرق موسيقية عربية وأدخلوا عليها المقدمات الموسيقية واثروها باللزمات وملء الفراغات الزمنية واعطوا الآلات الموسيقية اليمنية التقليدية الدور الرئيس في تنفيذها كالعود مثلاً، واظهار الطريقة اليمنية التقليدية في الاداء والاسلوب والمحافظة على اللون اليمني وروحه ونكهته من خلال استخدام (تقاسيم الفرتاش) ذات النغم اليمني المميز ، وكذلك الاستعانة ببعض ضاربي الايقاع اليمنيين لاظهار الايقاع اليمني الصحيح بالوانه المختلفة .وأهم مميزات الاغنية الصنعانية نجدها في المدى المحدود من الانغام الموسيقية التي يمكن ان يعزف بها اللحن على العود ، ويمكن استنتاج ذلك من أن معظم الاغاني الصنعانية من الممكن عزفها على الاوتار الثلاثة للعود في مدى إحدى عشرة نغمة من الانغام الخمسة عشر التي يمكن الحصول عليها عادة من الاوكتافين الاثنين في العود ذي الخمسة الاوتار ، لذلك كان العود المحلي المصنع ذو الاوتار الخمسة يكفي لاداء هذه الاغاني .. حسب ما ذكره عبدالقادر قائد في كتابه عن الغناء اليمني موضحاً ان العازفين للموسيقى الصنعانية كانوا يتخذون مع آلة العود ( القنبوس) آلة من النحاس تشبه الدف في شكلها وتسمى الصحن وطبلاً يدوياً صغيراً اسمه المرواس .. ولم يدخل التجديد على آلة الطرب المستعملة في الموسيقى الصنعانية إلا في الايام الاخيرة ، ويظهر هذا التجديد في الاستعاضة عن العود ذي الاوتار الاربعة والبطن المغشاة بالرق بالعود ذي الاوتار الخمسة والبطن المغشاة بالخشب وعن الصحن بالدف وعن المرواس بالدربوكة![c1]التجديد الغنائي [/c]وفي الوقت الذي شكل الموشح والاغنية الصنعانية خصوصية يمنية فإنه قد جسد ايضاً أهم حلقات التفاعل بين الغناء في اليمن والغناء في الاقطار الاخرى .. وفي هذا المجال يقول الفنان جابر علي أحمد لاننسى اسهام الفرق الصوفية في توظيف الموشح اليمني في تعزيز حالات التفاعل الفني بين اليمن والاقطار العربية والاستفادة من ذلك في إحداث نوع من التجديد في شكل الموشح مع بقائه محافظاً على نكهته اليمنية الخاصة . وقد بدأت الحركة التجديدية تلك مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من خلال عدد من الاعلام ، منهم الشيخ جابر رزق في زبيد الذي قدم نماذج غنائية مهمة جداً في اطار الموشح اليمني منفتحاً على العناصر الغنائية العربية ، كما ظهرت تجربة سلطان الشيخ هرهرة في منطقة حضرموت ، وهذا علم غنائي مهم جداً ظهر بطريقة خاصة في الغناء تبلور منها لاحقاً لون جديد في الغناء اليمني يعرف اليوم بالغناء الحضرمي الذي يعتمد اساساً على المفردات الموسيقية الشعبية في حضرموت .. ومن ثم جاءت بعد ذلك تجربة أحمد فضل القمندان في منطقة لحج وقدم تجربة جديدة في اطار الموشح اليمني .استمدت مفرداتها من الأوزان الشعبية في لحج وأصبحت تعرف باللون الغنائي اللحجي.. وبعد القمندان ظهرت في عدن - وتحديداً في عقدي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن المنصرم - وكانت حينها المحافظات الجنوبية والشرقية واقعة تحت الاحتلال البريطاني.. حركة يمكن أن يطلق عليها حركة أحياء الغناء التقليدي من خلال كوكبة من الفنانين التقليديين مثل علي أبوبكر باشراحيل وعلي عوض الجراش ومحمد الماس وابراهيم محمد الماس وآخرين.. وخلال تلك الفترة كانت الأفلام المصرية والهندية تمارس تأثيراً يومياً في الفنانين اليمنيين في عدن فظهر منهم إلى جانب من كان مهتماً بتراث الموشحات التقليدية شباب يعتقدون أن التجديد يمكن أن يستلهم على الأقل بعض مفرداته من الغناء المصري والغناء الهندي، ومن هؤلاء كان الفنان محمد جمعة خان الذي مثل واحداً من أعلام الغناء وكان أبوه هندياً وأمه حضرمية وقد دخل مجال الغناء تحت تأثير قوي للغناء الشعبي والإيقاعات الشعبية في حضرموت وتحت تأثير الغناء الهندي أيضاً؛ فكان يأخذ قصائد فصيحة من التراث الحضرمي ويلبسها ألحاناً هندية.. فبقيت الألحان الهندية على ضفاف التجارب التجديدية الغنائية؛ أي أنها مادخلت في صلب التجديد الغنائي اليمني. أما بالنسبة إلى العناصر الوافدة من مصر فقد دخلت في صلب التجديد الغنائي.. ويمكن هنا أن نذكر ممن كانوا واقعين تحت هذا التأثير الغنائي المصري خليل محمد خليل وسالم بامدهف وأحمد قاسم ومحمد عبده زيدي وياسين فارع.. وغيرهم. ومقابل كل هؤلاء ظهرت طائفة أخرى من الفنانين متمسكين بالعناصر المحلية وبالتراث الغنائي، منهم محمد مرشد ناجي وعبدالله هادي سبيت.. وآخرون.تزامن ذلك الحراك الغنائي الذي شهدته عدن والمحافظات الجنوبية مع حالة انحسار في صنعاء والمحافظات الشمالية التي كانت واقعة حينئذٍ تحت حكم الأئمة الذين كان لهم موقف سلبي من هذا الفن، وهذا بحد ذاته - كما يقول الفنان جابر علي أحمد - كان له أثر سلبي في الفعل الموسيقي في هذا الجزء من اليمن خلال الفترة التي امتدت إلى قيام الثورة في بداية الستينيات، إلا أن ذلك لايعني أن التحريم الإمامي للموسيقى والغناء قد منع الناس اعتماد هذا الشكل في التعبير، بل كان هناك ممارسة وخصوصاً في ما يتعلق بالغناء الشعبي. أما بالنسبة إلى الغناء التقليدي فهذا المستوى من الغناء قد مورس عليه ضغوط شديدة وهذا كان له انعكاس سلبي يجد تعبيره اليوم في تكنيك العزف وتكنيك الأداء وهذا لايعني أنه لم يوجد فنانون محترفون في صنعاء، بل على العكس كان هناك فنانون مرموقون مثل الفنان قاسم الأخفش الذي ظل يمارس فعله الغنائي من خلال آلة (القنمبوس). وكما ظهر بني العجمي وظهرت أسماء أخرى كثيرة وخصوصاً بعد ثورة 26 سبتمبر 1926م التي فكت القيود التي كانت مفروضة على الغناء في صنعاء والمحافظات الشمالية والغربية وظهرت حركة انتعاش فني في تعز وصنعاء والحديدة، وهذا الانتعاش انعكس في ظهور أسماء كبيرة مثل الفنان علي الآنسي والفنان أحمد السنيدار، وغيرهما من الفنانين الذين مارسوا تأثيراً مهماً في الحياة الفنية.. وبدأت في تلك الفترة محاكاة في الشمال لما تعيشه الحياة الموسيقية في الجنوب من تجديد وتفاعل.[c1]الإيقاعات الشعبية [/c]عبر مراحل تشكله ظل المكون الموسيقي والغنائي اليمني محتفظاً بخصوصيته. يقول الفنان جابر علي أحمد : وهذه الخصوصية ظلت تلازمه منذ الممالك القديمة فمنذ تلك الممالك اشتهر الغناء اليمني في شكلين : الأول هو الغناء التقليدي بوصفه غناء متقناً يؤديه محترفون، وإلى جانب الغناء المتقن كانت توجد أشكال غنائية شعبية.. ظلت هي المرجعية الأساسية في الألوان الغنائية التقليدية اليمنية التي تبلورت لاحقاً وحتى بعد انهيار دولة الخلافة العباسية التي ظهر فيها ما يسمى الموسيقى التقليدية العربية، والتي اختزلت كثيراً من خصوصيات كثير من البلدان التي خضعت لدولة الخلافة ظلت اليمن محتفظة بسماتها الغنائية الشعبية شعراً وموسيقى، ونتيجة لتعدد أشكال وأنماط الموروث الشعري الموسيقي الشعبي داخل اليمن من منطقة إلى أخرى تعددت أشكال وأنماط الموسيقى والغناء التقليدي، ولهذا تجد أن التركيبة الشعرية والموسيقية لكل منطقة تستمد جذورها من الموروث الشعبي للمنطقة نفسها.هذا الموروث الغنائي الشعبي اليمني - حسب الفنان جابر - ليس له خصائص محددة سوى أنه يتمثل في إيقاعات شعبية خاصة تنسجم مع خاصية كل منطقة، ولهذا لكل منطقة يمنية أشكالها الإيقاعية الخاصة، ولو عددنا هذه الإيقاعات لوجدنا أنفسنا أمام مئات الأشكال، فيها ما يجمع وفيها مايفرق؛ فمثلاً هناك إيقاعات تجدها في كثير من المناطق اليمنية مثل (السارع) تجده في تهامة وفي يافع وفي مناطق أخرى، وهناك (الموازين السداسية) في تهامة وفي لحج وفي حضرموت.. وكل هذه مسميات هي بحاجة إلى جمع ورصد؛ وهذا ميدان خصب جداً للباحثين اليمنيين.
|
رياضة
الأغنية اليمنية من الداخل (2-2)
أخبار متعلقة