محمد زكريافي مطلع القرن ( 20م ) تطلعت إيطاليا إلى سواحل اليمن بعد أنّ احتلت إريتريا على ساحل البحر الأحمر الأفريقي وبذلك صارت إلى أول مستعمرة لها في تلك المنطقة الأفريقية . والحقيقة أنّ إيطاليا بعد تأسيسها مستعمرة إريتريا ارتأت أنّ الأوضاع السياسية ملائمة لها للقفز على شريط الساحل الأسيوي للبحر الأحمر بغرض أنّ يكون لها موطأ قدم سياسي واقتصادي في الساحل اليمني . ولقد استغلت إيطاليا ضعف السلطنة العثمانية فخاضت البحر الأحمر من الساحل الأفريقي إلى الساحل الأسيوي بسهولة بسبب عدم مقاومة تذكر من العثمانيين الذين كانوا باليمن في حالة إنهاك وضعف شديدين بسبب الإضطرابات السياسية الداخلية التي اندلعت بقوة في وجهها فضلاً عن ذلك أنّ السلطنة العثمانية نفسها في الآستانة كانت تعاني مرض الشيخوخة , وكان ضمورها ماثل للعيان للقوى الأوربية ومنها إيطاليا . وفي واقع الأمر ، كانت إيطاليا يراودها حلم السيطرة على الساحل اليمني قبل تأسيسها لمستعمرة إرتريا سنة 1890م من فترة ليست قصيرة . ولكن كانت العقبة الكأداء التي تعرقل أحلامها وتحقيق مشاريعها الاستعمارية في الساحل اليمني أو على أقل التقدير بسط نفوذها السياسي فيه هي إنجلترا سيدة البحار حينئذ والتي كانت ترى أنّ البحر الأحمر يجب إلاّ يعكر صفوه أية قوة سواء . كانت أوربية أو غير أوربية . وهذا ما حدث مع والي مصر محمد علي باشا المتوفى سنة ( 1849م ) التي مكثت قواته المصرية في سواحل اليمن التي كانت مستعمرة عدن في مرمى الحجر منها . ولكن إنجلترا استطاعت أنّ تطرده من اليمن وتحديداً من السواحل اليمنية بل وتحجيم قوة مصر الفتية في معاهدة لندن سنة 1840م .[c1]بحيرة إنجليزية[/c]والحقيقة أنّ إيطاليا لم تدخل مياه البحر الأحمر أو بتعبير آخر أنّ إيطاليا ما كانت تستطيع أنّ تجول وتصول في الشاطئ الأفريقي للبحر الأحمر أو ساحله الأسيوي إلاّ بعد أنّ أذنت لها إنجلترا الدخول فيه ، فكانت سياسة الأخيرة هو عدم دخول جسم غريب إلى ذلك الشريان الحيوي الهام الذي يربطها بممتلكاتها في الهند والشرق الأقصى . ونظراً لقوة إنجلترا البحرية التي تحكمت بمدخل البحر الأحمر في الطرف الشمالي منه بعد احتلالها لمصر سنة 1882م بحجة حماية السيادة الشرعية المتمثلة بحكم الخديوي توفيق في مصر ضد ثورة أحمد عرابي ، وكذلك تحكمها بمدخل البحر الأحمر في الطرف الجنوبي منه بعد احتلالها لعدن بالقوة سنة 1839م . وبهذا صار البحر الأحمر بحيرة إنجليزية ، وباتت القوة الوحيدة المتحكمة في طريق البحر الأحمر .[c1]اليمن و محمد علي باشا[/c]وعندما سيطر محمد على باشا والي مصر على اليمن مرتين الأولى سنة ( 1818 - 1820م ) والثانية سنة ( 1834- 1840م ) . مما " . . . أزعج بريطانيا كثيراً وجود محمد علي في سواحل البحر الأحمر، وسواحل الخليج العربي ، وهذا ما جعلها تعمل على القضاء على قوة محمد علي باشا الفتية في تلك المنطقة ، ويقال أنه من الأسباب الرئيسية التي دفعت إنجلترا إحتلال عدن في سنة 1839م " . هو وجود القوات المصرية في تهامة اليمن بالقرب من عدن . وبالرغم أنّ محمد علي باشا استمات في طمأنت إنجلترا أنّ الغرض من بسط سيطرته على اليمن هو إخماد نار الفوضى والاضطرابات التي اشتعلت في كل مكان فيه وأعادت الأمن والأمان في ربوعه ، وأنه ليس لديه أية أطماع في سواحل البحر الأحمر ولكن كانت إنجلترا ترفض رفض قاطعاً أن ترى قوة فتية مثل مصر في تلك المنطقة " وأنه أفضل لها الإبقاء على كيان الشيخ المريض ( السلطنة العثمانية ) " لغرض السيطرة على شواطئ البحر الأحمر سواء منه الأفريقي أو الأسيوي . [c1]إيطاليا وحلبة الاستعمار[/c]وعلى أية حال ، لقد رأت إيطاليا نفسها بعد وحدتها سنة 1871م ، أنّ تنزل إلى حلبة الاستعمار وذلك بالاستيلاء على شريط من ساحل البحر الأحمر الأفريقي لغرض حل مشاكلها الاقتصادية إزاء الأوضاع الداخلية السياسية المضطربة التي حلت بها قبل أنّ تتوحد أراضيها في كيان واحد أو في دولة واحدة . والحقيقة لقد" كانت إيطاليا - مثل غيرها - ترى في الاستعمار حلاً لكثير من مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية ، بل ومنفى للمجرمين الذين اكتظت بهم سجون إيطاليا نتيجة كثرة المشاكل التي ظهرت بعد حروب الوحدة وأثنائها " . وفي الحقيقة أنّ إيطاليا شعرت في قرارة نفسها أنها متخلفة عن السباق في مضمار الاستعمار مما دفعها بقوة إلى الدخول إلى حلبة الاستعمار ومما زاد من إحساسها بالعجز أنها خرجت خالية الوفاض من مؤتمر برلين الذي عقد في سنة 1878م بخلاف إنجلترا وفرنسا اللذين التهما الكعكة كلها ونقصد بها استحواذتهما على ممتلكات السلطنة العثمانية. [c1]إيطاليا ومؤتمر برلين [/c]وفي واقع الأمر ، خرجت إيطاليا صفر اليدين من مؤتمر برلين الذي عقد سنة 1878م - كما أسلفنا - ومن أهم القرارات السياسية التي اتخذتها الدول الأوربية وعلى رأسها إنجلترا وفرنسا في ذلك المؤتمر هي " . . . مبدأ التخلي عن سياسة المحافظة على الدولة العثمانية وتقسيم الممتلكات بين الدول الكبرى ، وكان من نتائجه المباشرة فرض الحماية الفرنسية على تونس ( 1881م ) ، واستيلاء بريطانيا على قبرص ثم احتلالها مصر ( 1882م ) . وكل تلك العوامل مجتمعة التي ذكرناها دفعت إيطاليا دفعاً بضرورة أن يكون لها موضع قدم لها في ساحل البحر الأحمر الأفريقي . ولقد تمكنت إيطاليا أخيراً أنّ تكوّن مستعمرة إريتريا سنة 1890م وذلك بعد أنّ غضت إنجلترا الطرف عن تحركاتها في الاستيلاء على عصب على الرغم أن ميناء عصب كان يتبع خديوي مصر التابع للسلطنة العثمانية. ولقد جرت أحداث متلاحقة وسريعة بين إيطاليا من جهة والدولة المصرية والسلطنة العثمانية من جهة أخرى استطاعت إيطاليا في الأخير أن تكسب المعركة السياسية بسبب الضعف الشديد الذي أبداه كل من خديوي مصر ، والباب العالي العثماني فضلاّ عن ذلك أن إنجلترا وقفت إلى جانب إيطاليا ولم تحرك ساكناً في الوقوف مع مصر والسلطنة العثمانية ، بعد أنّ نهجت في مؤتمر برلين سنة 1878م سياسة تقسيم ممتلكات السلطنة العثمانية بين القوى الأوربية - كما أشرنا في السابق - علماً أنّ انجلترا كانت قبل عقد مؤتمر برلين تؤكد لكافة القوى الأوربية ومن بينها إيطاليا بأنّ عصب تدخل في صميم أملاك الخديوي المصري والتي هي جزء لا يتجزأ من ممتلكات السلطنة العثمانية , وكانت ترفع إنجلترا الشعارات البراقة المتمثلة بالسيادة الشرعية ،و بالحق الشرعي لمصر ، والسلطنة العثمانية . وعندما احتلت قواتها مصر سنة 1882م في عهد حكم الخديوي توفيق أعلنت للقوى الأوربية أنها تحمي الحق الشرعي لخديوي مصر ضد ثورة عُرابي التي كان غرضها الإطاحة به من على عرش مصر . [c1]المصالح الإنجليزية الإيطالية[/c]والجدير بالذكر أنّ إنجلترا قبل أنّ تحتل مصر ، طلبت من فرنسا وإيطاليا مشاركتها في ذلك الاحتلال ولكن أبدت كل من الدولتين ترددهما بسبب ظروفهما السياسية الداخلية . ويبدو أنّ الدولتين الفرنسية والإيطالية كانت تعلم علم اليقين أنّ إنجلترا لم ولن تسمح لأية قوى أوربية من المساس أو الاقتراب إلى مناطق نفوذها مثل مصر و لذلك رفضا الدولتين عرض إنجلترا بالمشاركة في احتلال مصر . والحقيقة لقد كانت ترى كل من فرنسا ، وإيطاليا إنّ إحجامهما عن طلب إنجلترا المشاركة أو المساهمة في الاحتلال سيكون لهما أثره الإيجابي على الصعيد السياسي والاقتصادي في المستقبل القريب. وهذا ما حدث عندما احتلت إيطاليا عصب وشكلت فوق أرضها أول مستعمرة لها على ساحل البحر الأحمر الأفريقي علاوة على ذلك لم تبد إنجلترا أية إعتراض تجاه إيطاليا في حربها في طرابلس الغرب بليبيا سنة ( 1911 - 1912م ) والتي كانت تعتبرها إنجلترا في السابق تدخل ضمن ممتلكات السلطنة العثمانية لا يسمح الإعتداء عليها بأي حال من الأحوال . ونقتبس فقرة من كلام الدكتور سيد مصطفى سالم حول طلب إنجلترا كل من فرنسا وإيطاليا مشاركتهما في إحتلال مصر ، فيقول : " ومن الطريف أن نتذكر أنّ بريطانيا قد عرضت على فرنسا وإيطاليا أنّ يشاركاها في التدخل في شئون مصر واحتلالها لإنقاذ (( الحق الشرعي )) بها - ويقصد الحفاظ على حكم الخديوي توفيق في مصر - وتأكيداً للوصاية الدولية المفروضة عليها - ولتجس في الواقع نبض الدولتين - ولكنهما ترددتا . . . عندئذ إنفردت بريطانيا واحتلت مصر في يوليو ( 1882م ) " . والحقيقة كانت من أهم الأسباب وراء الاحتلال الإنجليزي لمصر هو " لتمنع وقوع قناة السويس في أيدِ ِ غير يديها ، فاستكملت - إنجلترا - بذلك السيطرة على مدخلي " البحيرة " ( مياه البحر الأحمر ) . والحقيقة أنّ مصر كانت بالنسبة لإنجلترا دولة فقيرة الموارد ، وزاد من تدهورها الاقتصادي و المالي هو تصرفات حكم الخديوي إسماعيل الذي عزل في ( 25يونية 1879م ) من جراء حكمه الفردي المطلق ، وسؤ تصرفاته المالية الذي أوقع مصر في شباك الديون الأوربية أو بالأحرى أوقعها في قبضت الاحتلال الإنجليزي. ولقد قلنا : سابقاً أنّ مصر، كانت دولة فقيرة ولكن موقعها الهام وخاصة بعد افتتاح قناة السويس سنة 1869م زاد من أهميتها الاستراتيجي بالنسبة لإنجلترا ، فسارعت على احتلالها في سنة 1882م كما سبق وأن أشرنا إلى ذلك .[c1]إيطاليا في حلبة الاستعمار[/c]لقد ذكرنا سابقاً ، أنّ إيطاليا كانت تشعر بالغبن بسبب تخلفها في ميدان الاستعمار حيث سبقتها إلى ذلك الدول الكبرى إنجلترا , وفرنسا " وكان يخالج إيطاليا إحساس بالنقص تجاه باقي الدول الأوربية التي كونت لنفسها أساطيل ضخمة ومستعمرات شاسعة " . بل نجد أيضاً أنّ ألمانيا دخلت بقوة في حلبة الاستعمار بقوة وذلك بعد أنّ " حققت ألمانيا وحدتها بانتصارها على فرنسا ودخول جيوشها مدينة باريس وإجبار الفرنسيين على توقيع معاهدة فرانكفورت عام 1871م " . وعلى أية حال ، سعت إيطاليا بكل الوسائل والسبل الإسراع في تعويض ذلك التخلف في ميدان الاستعمار ، وأن تكون على قدم وساق مع الدول الأوربية الكبرى كإنجلترا ، وفرنسا وألمانيا في ميدان الاستعمار . [c1]فشلها في حوض وادي النيل[/c]وعلى أية حال ، عندما أسست إيطاليا أول مستعمرة لها على ساحل البحر الأحمر الأفريقي في سنة 1890م وهي إريتريا أخذت ترنو ببصرها إلى ساحل البحر الأحمر الأسيوي وبالتحديد إلى الشواطئ اليمنية , وكان ذلك من منطلق الإسراع في إيجاد موضع قدم لها في الساحل الأسيوي للبحر الأحمر يكون بذلك لها نفوذ قوي و حاضر في ذلك الشريط الساحلي الهام تجني من ورائه أموال هائلة تملئ خزانتها بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة من جراء المشاكل السياسية الداخلية المضطربة التي ألقت بظلها الثقيل عليها - كما قلنا سابقاً - . والجدير ذكره أنه من وراء الأسباب التي دفعت إيطاليا أنّ تتطلع إلى الساحل الأسيوي وعلى وجه الخصوص في السواحل اليمنية هي أنّ إنجلترا وقفت لها بالمرصاد في محاولتها التوسع في إتجاه حوض وادي النيل و لقد فشلت إيطاليا في تلك المنطقة الأفريقية فشلاً ذريعاً نظراً لقوة إنجلترا . فرأت أن تحول مسار إستراتيجيتها صوب الساحل أو السواحل اليمنية , وكان ذلك بالفعل . [c1]إيطاليا وكنوز بلقيس[/c]والحقيقة أنّ إيطاليا ، كانت قبل أن تؤسس مستعمرة إريتريا في الساحل الأفريقي للبحر الأحمر ، كانت تخطط بأن يكون لها نفوذ سياسي ومصالح اقتصادية كبيرة على خريطة اليمن السياسية ومن أجل تحقيق مشروعاتها تلك ينبغي عليها أنّ يكون لها موضع قدم في الساحل اليمني . ولذلك عمدت إيطاليا على الأسلوب التدريجي ، في بداية الأمر حيث نهجت الأسلوب الاقتصادي أي أنّ خطوتها الأولى كان إقتصادياً في المقام الأول . وأما الخطوة التالية كان مسارها عنيفاً فقد قامت بضرب بعض الموانئ اليمنية . وأما خطوتها الأخيرة كان يتسم بالطابع الدبلوماسي الهادئ ولكن سرعان ما تأزم الموقف بينها وبين السلطنة العثمانية من جراء الحرب الطرابلسية سنة ( 1911 - 1912م ) فألقت تلك الحرب بظلها الثقيل على السواحل اليمنية . وعلى أية حال ، قام بعض الرحالة الإيطاليين باستكشاف أوضاع اليمن لغرض معرفة أحواله السياسية والاقتصادية عن كثب . فهذا الرحال الإيطالي ريتزو مانزو قام " بجولة في اليمن عام ( 1870م ) ، كما زار تاجر الآثار الإيطالي اليهودي موسى شابيرو اليمن عام ( 1878م ) . وفي ( 1880م ) كان لشركة التجارة الإيطالية الإفريقية مندوباً في اليمن لتصدير البن إلى جنوه ، وفي عام ( 1883م ) أقام اثنان من إخوان كاروتي مركزاً في صنعاء ممثلين لشركة إيطالية أخرى للتجارة " . وهذا ما أكدنا عليه أنّ الخطوة الإيطالية الأولى في اليمن كانت خطوة إقتصادية ولكن سرعان ما عدلت من سياستها تلك الاقتصادية وباتت سياسة عسكرية عنيفة . فقد ضربت بوارجها عدداً من الموانئ اليمنية كالحديدة ، المخا ، الخوخة ، ميدي وغيرها . [c1]إيطاليا وعملياتها العسكرية[/c]والحقيقة لقد استغلت إيطاليا ضعف السلطنة العثمانية في اليمن ، وافتعلت قضايا ضد الأخيرة بهدف تهديدها وابتزازها من ناحية وتثبيت أقدامها على السواحل اليمنية من ناحية أخرى " . . ففي 9 يونيو ( 1899م ) وصلت سفينة حربية إيطالية إلى الحديدة ، وهددت باستعمال العنف إذا استمرت السيادة التركية في رفضها دفع التعويضات اللازمة لأحدى السفن التي قالت إن تركيا . قد استولت عليها من قبل " . ولم تكتف إيطاليا بذلك بل قامت باستعراض القوة العسكرية حيث طافت بعض قطع أساطيلها في ساحل اليمن كالمخا ، والحديدة ، كمران ، وفرسان . ولقد زعمت إيطاليا بأن سفنها الحربية تطوف الساحل اليمني بسبب مطاردة القرصنة في تلك المنطقة . وعلى أية حال ، أخذت إيطاليا من تصعيد عملياتها العسكرية في الشواطئ اليمنية وذلك في سنة 1902م حيث كان التوتر العسكري بينها وبين السلطات العثمانية في اليمن على أشده . " فقد هددت إيطاليا بضرب موانئ الحديدة ، وميدي ، وخور الوحلة - الذي يقع إلى الشمال من ميدي بحوالي 33 ميل . وفي نفس العام قصف الأسطول الإيطالي ميدي بالمدافع " وعندئذ أسرعت السلطات التركية إلى حشد القوات في ميدي خوفاً من نزول الإيطاليين إلى المدينة " . وفي سنة 1904م ، انفرجت الأزمة السياسية نسبياً بين السلطنة العثمانية وإيطاليا وأقامت قنصلاً عاماً لها في الحديدة ، ونائب قنصل في المخا . " وقد وصل أحد الإيطاليين إلى المخا في ( 1909م ) لجمع عدد من اليمنيين للخدمة في الجيش الإيطالي في " إريتريا " .[c1]إيطاليا والحرب الطرابلسية[/c]ولقد شاهدنا قبل قليل أنّ العلاقة العثمانية الإيطالية اتخذت شكل جزر ومد , وشد وجذب مما كان يلقي بظله على السواحل اليمنية . فعندما اشتعلت الحرب الطرابلسية سنة ( 1911 - 1912م ) بين السلطنة العثمانية وإيطاليا . تعرضت الشواطئ اليمنية إلى تهديدات الأسطول الإيطالي , وبات البحر الأحمر منطقة غير آمنه على السفن التجارية مما أثر سلبياً على الحركة التجارية في تلك الموانئ اليمنية حيث ساد الكساد التجاري فيها . ومما يؤكد كلامنا أنّ الموانئ اليمنية تعرضت إلى الخطر من جراء الحرب الطرابلسية التي دارت رحاها على أرض ليبيا . فقد حاصر الأسطول الإيطالي " . . . كل من جدة والحديدة بعد أنّ أطلقت النار على الأخيرة ، كذلك على موانئ اللحية ، والمخا , والشيخ سعيد ، والخوخة ، ويختل ذباب " وذلك بغرض تهديد القوات العثمانية المرابطة في الساحل اليمني .[c1]إيطاليا أمام الساحل اليمني[/c]وفي الحقيقة أنّ إيطاليا ، كانت على علم ودراية عميقين بأن نجاح تحقيق مشاريعها الاستعمارية في الساحل اليمني وبسط سيطرتها عليه مرتبط أشد الأرتباط بموافقة إنجلترا سيدة البحار حينئذ . وقد حاولت إيطاليا تبديد مخاوف إنجلترا . فقد " أبلغت الحكومة الإيطالية السفير البريطاني في روما أنه ليس لديها أية مشروعات في اليمن ، وذلك للتخفيف من مخاوف بريطانيا من ضخامة التحركات الإيطالية أمام الساحل اليمني " . ولكن إنجلترا كانت تنظر إلى التحركات الإيطالية بعين الحذر والقلق والشك بسبب ضخامة تحركاتها أمام السواحل اليمنية من ناحية ومساعدة الإيطاليين للإدريسي في عسير ضد القوات العثمانية المرابطة هناك من ناحية أخرى حيث كانت تخشى أنّ الإدريسي تابع لها . ورأت إنجلترا أنه من المحتمل أنّ يكون لإيطاليا موضع قدم في بعض أجزاء من الساحل الأسيوي من خلال وضع الإدريسي في عسير تحت نفوذها وحمايتها السياسية التي أمدته بالمال والسلاح بغرض الوقوف أمام القوات العثمانية المنتشرة والمتناثرة في منطقة العسير . [c1]مستعمرة إريتريا[/c]والحقيقة أنّ إنجلترا كانت على يقين تام أنّ إيطاليا بعد تأسيسها لمستعمرة إريتريا سنة 1890م على الساحل الأفريقي للبحر الأحمر سيفتح ذلك شهيتها بإقامة مشروعاتها الاستعمارية في اليمن التي أطلعت عليه عن كثب عبر الرحالة الإيطاليين - كما أسلفنا -. وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : " إلا أنّ ضخامة النشاط الإيطالي الحربي أمام السواحل اليمنية وعلاقاتها بالإدريسي. قد أزعج بريطانيا كثيراً . فالأخيرة تعلم نوايا إيطاليا على الساحل الشرقي للبحر الأحمر وجزره وخاصة جزر فرسان " . ويمضي في حديثه قائلاً : " وتخشى أن تتحول علاقة إيطاليا بالإدريسي إلى احتلال جزء من الساحل الأسيوي أو إلى فرض الحماية على الإدريسي " . [c1]قاعدة للانطلاق[/c]وكيفما كان الأمر ، فإن أطماع إيطاليا في السواحل اليمنية ، كانت قائمة قبل إقامة مستعمرة إريتريا بفترة ليست قصيرة - كما أسلفنا - ومما قوى من أطماع تحقيق مشروعاتها في الساحل اليمني هو أنها أسست مستعمرة إريتريا فمن تلك المستعمرة يمكن بسهولة القفز على الساحل الأسيوي بذلك تكونن إريتريا قاعدة للانطلاق إلى الساحل اليمني وذلك بعد أنّ فشلت فشلاً ذريعاً - كما قلنا سابقاً - في تحقيق أطماعها في حوض وادي النيل بعد أنّ وقفت لها إنجلترا كعقبة كأداء في تحقيق مشاريعها الاستعمارية في تلك المنطقة . ومن هذا المنطلق ، كانت ترى إيطاليا أنه من الضرورة بمكان أنّ تحقق مشروعاتها الاستعمارية في الساحل الأسيوي للبحر الأحمر وعلى وجه التحديد تحقق أحلامها الاستعمارية في السواحل اليمنية . ولكنها - كما قلنا آنفاً - أنّ إيطاليا كان على علم تام أنّ تحقيق حلمها الاستعماري في تلك المنطقة يحتاج إلى موافقة إنجلترا ولذلك كانت إيطاليا تستميت في طمأنتها بأن مشروعاتها في السواحل اليمنية لا تهدد مصالح إنجلترا العظمى في ساحل البحر الأحمر الأسيوي . ومن يطلع على الرسائل التي كانت تبعثها روما إلى لندن ، كانت جميعها تؤكد ذلك المفهوم وهو عدم المساس بمصالح إنجلترا الاقتصادية ، ونفوذها السياسي في تلك المنطقة الحيوية والحساسة بالنسبة لها . [c1]إنجلترا وعين الشك[/c]ولكن على الرغم من المحاولات الإيطالية المستميتة لتطمين إنجلترا - كما قلنا سابقاً - ، كانت الأخيرة تعلم علم اليقين أنّ إيطاليا ذلك الصديق المشاكس - على حد قول أحد الساسة الإنجليز - لن تقف أحلامها ومشروعاتها الاستعمارية عند تأسيس مستعمرة لها على أرض إريتريا بل أنها سترنو إلى الساحل الأسيوي وتحديداً إلى الساحل اليمني . ولذلك كانت إنجلترا تراقب إيطاليا عن كثب نشاط تحركاتها أمام الموانئ اليمنية. وكان الساسة الإنجليز الكبار غير مقتنعين من رسائل روما التي تؤكد تكراراً بأن مشروعاتها أمام الساحل اليمني لم ولن يضر بمصالح إنجلترا السياسية والاقتصادية - كما أشرنا في السابق - . والحقيقة أنه مما زاد من مخاوف وقلق إنجلترا هو تحركات إيطاليا الضخمة أمام الساحل اليمني من ناحية وعلاقاتها القوية بالإدريسي التي زودته بالمال والسلاح ليقف في وجه القوات العثمانية المنتشرة والمتناثرة في عسير من ناحية ثانية والذي من خلاله يمكن أنّ يكون لها موضع قدم لها في الساحل اليمني . ولكن كل تلك المحاولات الإيطالية في طمأنت إنجلترا بأنها " ليس لديها أية مشروعات في اليمن ، وذلك للتخفيف من مخاوف بريطانيا من ضخامة التحركات الإيطالية أمام السواحل اليمنية " كانت تذهب أدراج الرياح في لندن . [c1]السلطنة العثمانية وإيطاليا[/c]ولقد تطرقنا أيضاً أنّ إيطاليا اتبعت خطوات متدرجة و متباينة في التعامل في تحقيق أطماعها في الساحل اليمني . في الخطوة الأولى كانت خطوة إقتصادية أمّا في الثانية فكانت خطوة تكتنفها الترهيب والتهديد إلى درجة أنها ضربت بعض الموانئ اليمنية بمدافع أسطولها مثل الحديدة ، المخا ، الخوخة ، ميدي ، والشيخ سعيد ، مما دفع العثمانيين بتعزيز قواتهم في ميدي خوفاً من نزول الإيطاليين إلى ميدي وهذا دليل واضح على مدى التوتر الذي شاب العلاقة العثمانية الإيطالية من جراء الأخيرة استعمال القوة ضد الساحل اليمني والتفكير الجاد أنّ يكون لها موضع قدم في ميدي . ويبدو أنّ هذا التفكير وصل إلى مسامع القادة العثمانيين العسكريين الذين سارعوا في تعزيز الحامية المرابطة أصلاً في ميدي بقوات عسكرية أضافية أخرى. ولكن في سنة 1904م ، تبددت نسبياً سحب غيوم التوتر بين السلطنة العثمانية من جهة والإيطاليين من جهة أخرى فعمدت الأخيرة على إقامة علاقة دبلوماسية مع العثمانيين في اليمن . فقد " . . . أقامت إيطاليا قنصلاً عاماً لها في الحديدة ، ونائب قنصل في المخا " . وذكرنا أيضاً أنّ أحد الإيطاليين ذهب إلى المخا بغرض تجميع عدد من اليمنيين للخدمة في الجيش الإيطالي في إريتريا " . كل تلك الشواهد والوقائع تشير بأنّ إيطاليا كانت لها أطماع واضحة في السواحل اليمنية ولكنها لم تتجرأ في التصريح بها بسبب إنجلترا سيادة البحار حينئذ التي ترى أنّ البحر الأحمر يمثل لها الشريان الحيوي والهام لممتلكاتها في الهند والشرق الأقصى . [c1]الاتفاقيات الاستعمارية السرية[/c]ولكن في سنتي ( 1911 - 1912م ) تفجر الموقف بين السلطنة العثمانية وإيطاليا الطامعة إلى تحقيق مشروعاتها الاستعمارية في شمال أفريقيا على وجه الخصوص في طرابلس الغرب بليبيا لاحتلالها . ولقد اندلعت الحرب الطرابلسية , وكان من نتائجها هزيمة السلطنة العثمانية هزيمة منكرة من الإيطاليين وخروج طرابلس الغرب من ممتلكاتها . فلا غرو أن لا تحرك إنجلترا ساكناً عما كان يجري في الحرب الطرابلسية . فقد كان هناك مخطط لتقسيم ممتلكات السلطنة العثمانية بعد عقد مؤتمر برلين سنة 1878م ( الرجل المريض ) أو ( نمر من ورق ) - على حد قول سفير روسيا القيصرية - و هذا ما أكده سيد مصطفى سالم : " ورغم أنّ بريطانيا كانت على علم بأهداف إيطاليا في طرابلس الغرب ، وساعدتها بطريق غير مباشر فيما تقوم به هناك ، باعتبار أنّ ذلك جزء من الاتفاقيات الاستعمارية السرية حينذاك " . ولقد ذكرنا في السابق ، أنّ الحرب الطرابلسية بين السلطنة العثمانية وإيطاليا ، كان لها تداعيات الخطيرة والوخيمة على الساحل اليمني حيث تعرض إلى حصار الأسطول الإيطالي وضربه بالمدافع . فقد ضربت " موانئ اللحية ، والمخا ، والشيخ سعيد ، والخوخة ، ويختل ذباب " . [c1]الإدريسي وإيطاليا[/c]وعندما اشتعلت الحرب الطرابلسية سنة ( 1911 - 1912م ) بين السلطنة العثمانية وإيطاليا بسبب أطماع الأخيرة باحتلال طرابلس الغرب بليبيا . كانت إيطاليا تبحث لها عن حليف لها في الساحل الأسيوي لغرض تحقيق مشروعاتها الاستعمارية في الساحل اليمني في البحر الأحمر . فوجدت ضالتها بـ (محمد بن علي الإدريسي ). والحقيقة أنّ الإدريسي ، كان على عداءاً شديد للسلطنة العثمانية التي كانت تحاول بشتى الوسائل والطرق أنّ تقوض حكمه في منطقة عسير ولذلك سرعان ما تحالفت إيطاليا مع الإدريسي وأمدته بالمال والسلاح ومثلما وجدت إيطاليا حليف لها ضد السلطنة العثمانية وجد هو أيضاً حليفا ضد العثمانيين . فكان هدفهما مشترك هو القضاء على العثمانيين في منطقة عسير والساحل اليمني .[c1]شخصيته[/c]والحقيقة أنّ الإدريسي شخصية كانت من الشخصيات القوية التي تنزع إلى الاستقلال وترفض الوصاية عليها من قبل الآخرين فالسلطنة العثمانية كانت تتعمد التدخل في شئونه الداخلية ولذلك بدت بينهما العداوة والبغضاء . وكانت السلطنة ترسل الجيوش الضخمة الواحدة تلو الأخرى لمحاربته والقضاء عليه . وتعطينا المراجع التاريخية صورة عن حياة الإدريسي ، قائلة : " فقد ولد في صبيا سنة 1876م ، وتلقى تعليمه مابين الأزهر (( بالقاهرة )) و (( الكُفرة )) مقر السنوسيين في برقة ، كما ذهب إلى السودان ثم عاد إلى (( صبيا )) في أوائل القرن العشرين " . ويمضي في رسم شخصيته ، قائلاً : " وقد أصبح رجلاً ناضجاً واسع الأفق واسع الإطلاع بعد هذه الجولات الواسعة . وبعد زيارة المراكز الإسلامية الهامة . وترجع بداية ظهوره - كشخصية قوية لها خطورتها - في أفق عسير إلى سنة 1907م .[c1]جسر إلى الساحل اليمني[/c]والحقيقة أنّ إيطاليا ، كانت ترى في الإدريسي تلك الشخصية القوية وسيلة لتحقيق أطماعها الاستعمارية في الساحل الأسيوي وتحديدا في الساحل اليمني - كما أشرنا في السابق - فزودته بالمال والسلاح للوقوف ضد القوات العثمانية المناوئة لها في ذلك الشريط الأسيوي وخصوصاً بعد أنّ عزز العثمانيين قواتهم في ميناء ميدي خوفاً من نزول القوات الإيطالية فيها . وهذا ما أدركته إنجلترا من وراء المساعدات السخية الإيطالية للإدريسي . فقد كانت تخشى أنّ يكون الإدريسي تابعاً للإيطاليين الذين استخدموه كوسيلة للنفاذ إلى الساحل اليمني . " فالأخيرة ( إنجلترا ) تعلم نوايا إيطاليا على الساحل الشرقي للبحر الأحمر وجزره ، وتخشى أنّ تتحول علاقة إيطاليا بالإدريسي إلى إحتلال جزء من الساحل الأسيوي أو إلى فرض الحماية على الإدريسي ، وذلك في وقت كانت على علم بمحاولات إيطاليا في مدّ سيطرتها من الساحل الغربي ( إريتريا ) إلى الساحل الشرقي أو إلى الجزر القريبة منه وخاصة جزر فرسان " . و نستخلص من ذلك أنّ مساعدات إيطاليا للإدريسي بالمال والسلاح ، كانت وسيلة للسيطرة على الساحل اليمني وليست هدفاً استراتيجياً في حد ذاته .[c1]الهوامش : [/c]د / سيد مصطفى سالم ؛ البحر الأحمر والجزر اليمنية تاريخ وقضية ، الطبعة الأولى 2006م ، الناشر : مؤسسة الميثاق للطباعة والنشر . د / سيد مصطفى سالم ؛ تكوين اليمن الحديث ، الطبعة الثالثة 1984م ، مكتبة مدبولي بالقاهرة 6 ميدان طلعت حرب . د / عبد الله عبد الرازق إبراهيم ؛ المسلمون والاستعمار الأوروبي لأفريقيا ، عالم المعرفة ، العدد 139 - ذو القعدة 1409هـ / يوليو / تموز 1989م . المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت - .
|
تاريخ
الأطماع الإيطالية في السواحل اليمنية
أخبار متعلقة