د . المقالح .. وحديث شائق عن الفنان أبي بكر سالم بلفقيه
يستعد الفنان اليمني (أبوبكر سالم بلفقيه) لإصدار ديوان شعري يتألف من مجموعة الأغاني التي كتبها ولحنها وغناها.وقد قام صديقه الأديب الكبير (د. عبد العزيز المقالح) بكتابة مقدمة الديوان.. حيث تحدث في الجزء الأول من المقدمة عن (بلفقيه) الفنان.. بينما تناول في الجزء الثاني (البلفقيه الشاعر).. وتعتبر هذه المقدمة دراسة ممتعة وشيقة عن البلفقيه/ الفنان العظيم والشاعر المتمكن.(فنون) أستطاعت أن تحصل على الجزء الأول من المقدمة عن (البلفقيه الفنان) ننشرها هنا .. آملين أن نحصل من أستاذنا المقالح على الجزء الثاني من المقدمة عن (البلفقيه شاعراً). لم يكن طريقه سهلاً ولم تكن رحلته لعبة لذيذة كما قد يتصورها البعض، كان يدرك قبل أن يبدأ أنّ الأمر يحتاج إلى الصبر، وإلى المجازفة، وقد صبر وجازف وعانى وحقق بعضاً مما طمح إليه وما يزال الطريق أمامه طويلاً وعريضاً لا ليضيف إلى إبداعاته جديداً ومتطوراً وحسب، وإنّما لكي تزداد معرفته بالموسيقى اتساعاً وعمقاً، ومن حسن حظه وحظ الأغنية اليمنية أنّه قد ألقى عصا السير واستقر به الحال في القاهرة هذه المدينة العربية التي كانت بمنزلة القلب للجسد العربي الممتد من أقصى المحيط إلى أقصى الخليج ومنها انطلق الفنانون والمبدعون العرب في مختلف التخصصات.ويُلاحظ أنّ انتقال الفنان بلفقيه إلى القاهرة بكل ما يضج في أعماقها من أصوات القديم والجديد والأجد لم يصبه باختلال التوازن ولم يغير نظام الأولويات في برنامجه الفني وفي مقدمتها إحياء الأغاني الكلاسيكية اليمنية وتطويرها في النطاق المقبول وإقامة الجسور بين الماضي والحاضر وبين اليمن وبقية الأقطار العربية، ولا يعني هذا الموقف المتشبث بالموروث أي تراجع عن موسيقى العصر أو أي نكوص عن التجديد ومشاركة الشبان من هواة التحديث الشامل _ غير دعاة الانسلاخ والتغريب _ أحلامهم في تغيير بُنية الموسيقى العربية لتستوعب أحدث الظلال الدقيقة في إيقاعات العصر وما محافظته المتطورة واتكاؤه الواضح على الجذور إلا التأكيد على أهمية الدور الذي تقوم به الموسيقى العربية التاريخية من محافظة على كيان الأمة وتقاليدها تلك التقاليد التي تصبح جزءاً لا يتجزأ من مقومات الشخصية الوطنية والقومية كما أنّ تلك الألحان بجذورها التاريخية قد كانت وستبقى الخامة التي تشكل مادة لاغ نى عنها للإبداع الفني ومن هذه الخامات المتعددة الظلال والأوزان تتكون في الوطن العربي المدارس الفنية ذات الطابع المتنوع الذي يعكس تنوع البيئة الجرغافية والمُناخية من السهل المنبسط إلى النماطق الجبلية الوعرة، ومن الوديان إلى الصحاري، وبذلك تحقق الأمة نهضتها الحديثة في الثقافة والفنون وتعمل على صهر الوجدان الجماعي الموحد.إنّ محاولة تطوير وتجديد الأغنية اليمنية الكلاسيكية وهو العهد الذي شغل ويشغل وعي الفنان بلفقيه صارت بعد انتقاله إلى القاهرة قضية فنية بالغة الأهمية ينبغي أن تثير اهتمام الباحثين والدارسين في حقل الأغنية العربية، لأنّها تأتي بعد سنوات وربما قرون تناساها العرب كما تناسوا أهلها مع أنّها كانت كما يقول تاريخ الموسيقى العربية المعين الأول الذي استقى منه عرب الأقطار العربية جذور موسيقاهم بعد أن استعادوا وحدتهم بالإسلام :(ليس هناك مصادر موثوقة عن الموسيقى والفنون الشعبيةويستفاد من تقرير يرجع عهده إلى القرن السابع قبل الميلاد (زمن أشور بانيبال) إنّ الأسرى العرب كانوا يؤدون غُناءً حزيناً، يسحر حراسهم من الأشوريين، إلا أننا نعلم السر في ذلك، فقد كان هناك شبه كثير بين حضارات الشعوب السامية بحكم القرابة اللغوية والصلات التجارية المباشرة.وفي نحو الميلاد، عندما أدت حملات الروم إلى زوال الممالك العربية، بقيت الحضارة القديمة قائمة في الجنوب العربي، وتمّ فيما بعد وعن طريق الهجرات، نقل هذه الحضارة مجدداً إلى الشمال، إلى الحيرة التي كا نت مركزاً ثقافياً مزدهراً، تتبوأ الموسيقى فيه مكانة مرموقة، وحيث كان موسيقيون عرب يعملون في قصور الحكام الأمراء).وهذا البُعد الإحيائي الذي يتجلى في اهتمام الفنان أبوبكر سالم بلفقيه بالأغنية التراثية لا ينبغي أن ينسينا ما يفيض به من حب عميق لوطنه ولإبداعات هذا الوطن. والذي تجلى أيضاً في مقالاته الصحفية التي يقول في إحداها قبل أن يعود إلى وطنه في زياراته الأخيرة (الصلة بالأرض والوطن أقوى من كل الصلات العابرة، ولا شك أنّ حنيني أو حنين أي يمني مغترب يفوقان كل وصف، لابد من زيارة قريبة للوطن، فحنيني إلى أحبتي جائح رغم الظروف المعوقة حالياً، لأنّ نكران الوطن الأم مستحيل جداً فناكر أصله لا قيمة له بين الناس، والوطن هو الحب، هو الإحساس، هو الصدق، هو باختصار كل حياتي) وهذا الموقف يذكرني بكلمات بديعة لرسول حمزاتوف شاعر (داغستان) وسليل الثقافة العربية الإسلامية وخُلاصة الثقافة الإنسانية المعاصرة حيث يقول :(كل إنسان يجب أن يعرف من صغره. أنّه جاء إلى العالم، من أجل أن يكون رسول شعبه، ولذا عليه أن يكون مهيأ لهذا الدور، وإلا لماذا يعطون الإنسان اسماً، وطاقية، وسلاحاً، ويعلمونه وهو في المهد الأغاني الوطنية.. أما أنا فبأي مكان يضعني القدر، وإني حللت أشعر إنني رسول تلك الأرض، وتيك الجبال، وذياك الحي، هناك حيث تعلمت ركوب الحصان، إني أعتبر نفسي، وفي أي مكان كنت مراسلاً خاصاً لبلدي).ولاشك أنّ دور الفنا الكبير في المرحلة الراهنة _ بوصفه رسول شعبه _ يتضاعف لأنّ اليمن التي كا نت مجهولةً بالاحتلال وبالطغيان الملكي _ كانت صغيرة بالتشطير صارت بالثورة على ألسنة الناس في القارات الخمس وأصبحت كبيرة بالوحدة وصار عليه أن يغني شجنها وشجوها وأن يكتشف في السلم الموسيقي للأغاني اليمنية القديمة مناجم جديدة للإبداع :يا أحبة ربا صنعاءسقى الله صنعاءكيف ذاك الربىلا زال للغيد مرعىوقد كشفت الاختيارات الرائعة للنماذج التي غنّاها أبوبكر أنّ الأغنية اليمنية القديمة، والصناعنية منها بالذات كانت سجينة قمقم المحلية، وأنّه قد أطلق سراحها وأخرجها بصوته القوي الشجي إلى العالم الواسع العريض. وهو يعكس من خلال أحاديثه عنها ضرورة أن تجد طريقها إلى الجمهور العربي المتعطش إلى الفن الأصيل وإلا تبقى مطموسة ورهن جدران العزلة والإهمال (الأغنية الصنعانية ثرية وغنية وقديمة وتعتبر من أقدم الأغاني في الجزيرة العربية كلها، ولكن لابد من تطويرها ولابد من أن تنتشر إلى ما وراء الحدود على أساس أن تصقل بالآلات الشرقية الحديثة مثل الناي والكمان وغيرهما ويكون لها عزف جماعي، مثل ما لها عزف منفرد وعلى هذا النحو حصدت استحساناً طيباً _ أن تطوير الأغنية الصنعانية بالنسبة لي بداية خوف لأنني لا أستطيع أن أجيدها كما يجيدها أرباب الأغنية الصنعانية.. وبداية تطويري للأغنية الصنعانية سيحدث جدالاً كبيراً مثلما حدث سابقاً فقد قمت بتطوير للأغنية الحضرمية عام 71م حينما أحضرت الأغنية الحضرمية من بيروت حدث جدل كبير جداً حولها لأنّ الأذن بالذات لم تتقبلها بسرعة فقد كانت أول مرة تخضع للعزف الجماعي، وقد قمت بالبداية وعلى الأخوان في اليمن مواصلة المسيرة.. لقد كانت تعزف بآلة منفردة وأصبحت تعزف بأكثر من عشرين آلة).تلك هي مهمة الفنان الكبير كما حددها لنفسه، وهي مهمة _ كما سبقت الإشارة _ صعبة وجديرة باهتمام الباحثين والدارسين في اليمن وخارج اليمن، ولا ننسى الإشارة _ في هذا المجال _ إلى الدور الكبير الذي اضطلع به فنانان من أهم رواد الفن في بلادنا في مساعدة الفنان أبوبكر سالم بلفقيه على اقتحام عالم الأغنية الصنعانية والخروج بها وبجمالياتها الإيقاعية إلى المشرق والمغرب وأول الرائدين هو الفنان الذائع الصيت/ أحمد فتحي أما ثانيهما فهو الفنان الذي تتلألأ إبداعاته الموسيقية الشجية فيما يشبه الخفاء وأعني به الأستاذ علي أحمد الخضر الذي يؤدي دوره الخطير في تشجيع الفن وفي الأخذ بأيدي الفنانين في صمت وتواضع، ولأنّ دراسته الجامعية قبل الثورة ثمّ المناصب التي تقلدها بعد قيام الثورة قد حالت دون احترافه للغُناء فقد كان السباق في اتخاذ المواقف المؤيدة والمشجعة وتحول الغناء عنده إلى هواية شخصية يسعد بها قلوب أصدقائه المقربين في أوقات متباعدة كما تحول عشقه للأغاني إلى حب غامر للفن والفنانين المبدعين، وإلى نوعٍ نادر من التفاني في خدمة المواهب الكبيرة حتى لا تصدأ أو يدركها الذبول والانكماش.لقد تولى هذان الفنانان الأصيلان دعم موقف الفنان الكبير من أحياء الأغنية اليمنية التراثية العامة والصنعانية منها بخاصة وبذلك أنطلقت أقوى حنجرة تترنم بأحلى نغم كلاسيكي احتفظت به الذاكرة الفنية للبشر :وامغرد بوادي الدورمن فوق الأغصانوامهيج صباباتيبترجيع الألحانما بدا لك تحرك شجو قلبي والأشجان لا أنت عاشق ولا مثلي مفارق للأوطان