أجرت الحوار : نادرة عبد القدوسلُقب بـ « مايسترو الأخبار » في الوسط الصحفي في بلادنا ، بعد سنوات عدة من ممارسته لطقوس التعبد في محراب صاحبة الجلالة . ولم يأتِ اللقب جزافاً أو اعتباطاً ، لأنه كان الأكثر تميزاً في صنع الخبر بين زملاء المهنة ، وفي امتلاك ناصية أهم فنون الكتابة الصحفية .. تعلمنا منه الكثير في خطواتنا الأولى ، المرتبكة ، في منتصف سبعينيات القرن المنصرم .. كنا نحترم فيه الصحفي النشيط ، المتميز في البحث عن المعلومات وصياغتها في قوالب خبرية ذات مذاق خاص .. وكنا نحاول تقليده ، لكن لا محالة فهو وحده المايسترو . في الذكرى الأربعين لتأسيس صحيفة 14 أكتوبر ، مدرسة الصحافة اليمنية ، وعن مشواره الطويل المواكب لمراحلها المختلفة ، يروي لنا (مايسترو الأخبار) محمد عبد الله مخشف غيض من فيض الذكريات الراسخة في ذاكرته : [c1]بداية المشهد [/c]في بيته المتواضع الجديد الذي بناه مؤخراً ، مما أدّخره في مشوار حياته العملية المضنية ، كنت على موعد مع ملك الأخبار، الذي تعلمت على يديه صنع الخبر، حين بدأتُ أتلمس طريقي في بلاط صاحبة الجلالة . جلستُ أمامه كتلميذة أنصت إليه باهتمام تارة، وتارة أعود به إلى محطات ومواقف كانت له فيها ذكرى خاصة لا تنسى في بيتنا الثاني (صحيفة 14 أكتوبر ) : «كانت الصحافة التي نشأت في عدن في عهد الإدارة البريطانية ذات طابع ليبرالي تمثل مختلف الاتجاهات والتيارات السياسية والاجتماعية والفكرية ، وقد استفاد من هذا الوضع اليمنيون في عدن للتعامل بمفاهيم ذلك العهد . وكانت الصحف محدودة التداول وكذلك الكادر الصحفي والإمكانيات .. رغم ذلك كانت تشع في كل أرجاء البلاد ولها تأثيرها على الناس . والكادر الصحفي الذي عمل بها اكتسب خبرة لا بأس بها إلا أنها قبل الاستقلال بأشهر قليلة توقفت عن الصدور تلك الصحف ، ومنها اليومية والأسبوعية ، تلقائياً بفعل التطورات اللاحقة ، وبعد تأسيس الدولة المستقلة الوطنية تم إلغاء التراخيص لهذه الصحف والمطبوعات كافة في البلاد . ولأشهر بقيت البلاد بدون صحافة ماعدا صحيفة الثوري التي كانت تصدر بلسان حال الجبهة القومية . واستمر الحال حتى 19 يناير 1968 م ، إذ صدر في هذا اليوم القرار الجمهوري بتأسيس مؤسسة 14 أكتوبر للصحافة والطباعة والنشر وصدور صحيفة 14 أكتوبر عن المؤسسة « . [c1]ولادة متعسرة .. لكنها ناجحة [/c]يستمر محدثي في حديث الذكريات الجميلة قائلاً :«تأسست الصحيفة في ظل إمكانيات شحيحة جداً فلا رأسمال ولا استثمار لها في التأسيس، ولا كادر صحفي ، اللهم من شباب التنظيم السياسي الذي تولى الحكم في الدولة الجديدة . وتم استغلال الإمكانيات المطبعية القديمة التي ورثتها الدولة الوطنية عن المطابع المهترئة التي كان يملكها بعض أصحاب الصحف السابقة والسلطات البريطانية . كما تمت الاستفادة من صناديق الحروف المطبعية البدائية التي كانت تُصَف يدوياً . وتم أخذ هذه المطابع من أماكنها الأصلية ، فمثلاً كانت هناك مطبعة الجنوب العربي وموقعها في حافة (حارة ) القاضي في كريتر وكان يملكها حزب رابطة أبناء الجنوب ، ومطبعة في نادي الأهلي الرياضي بجانب قبر الولي المظلوم ، بكريتر أيضاً. في البدء تم أخذ هذه المطابع إلى مبنى قديم في كريتر كان مدرسة للجالية اليهودية ، حيث كانت هناك إدارة المؤسسة والصحيفة، ثم انتقلت الصحيفة والمطابع إلى قصر السلطان في الخليج الأمامي ( البراق ) بكريتر عام 1974م ، في حين بقيت إدارة المؤسسة في مكانها ، ثم أخيراً انتقلت المطابع وإدارة المؤسسة والصحيفة إلى المعلا عام 1977م ، وتم تجميع المطابع في مجمع للمطابع ، كان في الأصل مستودعات للمواد الغذائية للجيش البريطاني وقد سمي فيما بعد بدار الهمداني للطباعة والنشر ، وفي بداية الثمانينيات انتقلت إدارة الصحيفة إلى عمارة الشميري أمام دار الهمداني لتظل المطابع في مكانها « . استوقفته للسؤال عنه كمحرر صحفي وعن دوره آنذاك كشاب غرق في مهنة المتاعب مبكراً واستطاع أن يكسب خبرة لا بأس بها .. وما صادفته من مصاعب في طريق التحاقه بالصحيفة.. فقال لي مبتسماً : «كنت واحداً من الشباب اليافع الذي اكتسب خبرة لا بأس بها في مهنة الصحافة من خلال عملي كمحرر في صحيفة «الأيام» لمدة ثلاث سنوات ، قبل الاستقلال ، حيث مارست الصياغة الخبرية من خلال عملي في الاستماع إلى نشرات الأخبار وتسجيلها وتفريغ الأخبار المطلوبة منها للنشر في الجريدة . وبعد الاستقلال وجدت نفسي مع عدد من الزملاء المحررين بدون عمل أمثال القرشي عبد الرحيم سلام، ومحمد زين الكاف ، وعبد العزيز الكثيري ، وإبراهيم الكاف ، ومحمود الحاج ، فتقدمنا بطلب للعمل في صحيفة 14 أكتوبر الناشئة وكان حينها رئيس التحرير عبد الباري قاسم . تقدمنا بالطلب عبر الأستاذ علي باذيب ، الذي كان حينها وكيلاً لوزارة الإعلام والثقافة بعد أن أخذنا المشورة من الصحفي الكبير محمد ناصر محمد صاحب ورئيس تحرير صحيفة الطريق لأنه كان من الشخصيات المعروفة لدينا والمقربة من الجبهة القومية ، الحاكمة .. لكن علي باذيب بكل أدب قال لنا إن السلطة لا تريد أي صحفي من خارج الجبهة القومية ، وبأنه ذاته مستغرباً أن تم اختياره وكيلاً لوزارة الإعلام ، وهو الذي لا ينتمي للجبهة القومية . وهكذا لم نجد فرصة للعمل حتى قيام خطوة التصحيح في 22 يونيو 1969 م ، كما سميت في تلك المرحلة، وهي التي تم فيها إزاحة الرئيس الأول بعد الاستقلال قحطان محمد الشعبي. في هذه المرحلة ، الجديدة ، شهدت البلاد بعض التغييرات ، منها القليل من الانفتاح وتقبُّل الطرف الآخر من ألوان الطيف السياسي . وعُين عبد الباري قاسم وزيراً للإعلام والثقافة ، في حين تم تعيين الأستاذ سالم زين محمد مديراً عاماً للمؤسسة ورئيساً لتحرير صحيفة 14 أكتوبر ، إبان تولي محمد علي هيثم رئاسة الوزراء . ثم جاء القرار بتأسيس وكالة أنباء عدن في مطلع عام 1970 م ، وتعيين الأستاذ محمد ناصر محمد رئيساً تنفيذياً لها ولا أبالغ في وصفي للأستاذ محمد ناصر بأنه «مجنون أو بركان صحافة»، إذ كانت تسري مجرى الدم في عروقه ، واختارني للعمل معه في الوكالة عند تأسيسها . فكنت أعمل صباحاً في الوكالة ومساء في صحيفة 14 أكتوبر . وكانت الوكالة أول وكالة للأنباء على مستوى الجزيرة العربية والخليج العربي والخامسة على مستوى الوطن العربي « . [c1]شعاع من الأمل في طريق الازدهار [/c]عن مراحل تطور صحيفة «14 أكتوبر» ورفدها بالكوادر المهنية المؤهلة يذكر محدثنا بكل اعتزاز : «الحقيقة إن صحيفة 14 أكتوبر ازدهرت في عهد الأستاذ سالم زين محمد من حيث تنوع المادة الصحفية وغزارة المواد الثقافية و متابعة الأخبار المحلية . وبدأ عدد من الشباب الجامعي يرد للعمل فيها ، مثل فضل النقيب ، وواثق شاذلي وكان محمود الحاج يكتب في الجانب الأدبي ، ثم أصبح سكرتيراً للتحرير ، وظهرت التحقيقات الصحفية لأول مرة والصفحة الأدبية التي اهتمت بالشعر والنقد الفني والمواد الثقافية المختلفة ، وكان الزميل الصحفي شكيب عوض ـ رحمة الله عليه ـ محرراً مساهماً فيها ، إذ كان يعمل في حقل التعليم ، ولم ينتقل إلى الصحيفة رسمياً إلا في عام 1976م. كما ظهرت الصفحة الرياضية وكان للزميل محمد عبد الله فارع ( الله يرحمه ) دوراً بارزاً في تطوير الصفحة من خلال المتابعات للحراك الرياضي في عدن .. كما أنه في عهد الأستاذ سالم زين صدرت صحيفة «الشرارة» التي ترأس تحريرها صالح الدحّان وكذلك مجلة أنغام لعلي أمان . وفي مطلع عام 1973 م انتقلتُ من الوكالة للعمل رسمياً في صحيفة 14 أكتوبر . كانت الصحيفة تتلمس طريقها نحو التألق في الفضاء الإعلامي الناشئ في البلاد ، خاصة بعد أن تواتر فيما بعد عدد من الصحفيين الشباب أمثال محمد عمر بحاح ، ومحبوب علي، وعبد القادر سنان ، وسعيد عولقي ، وعبد العزيز مقبل ، وعبد الله عبد الإله ، الذي كان عاملاً مطبعياً في الصحيفة في الوقت الذي كان يدرس في المرحلة الثانوية ثم انتقل إلى العمل كمحرر صحفي بعد إنهاء الدراسة» . يتوقف ملك الأخبار هنيهة ثم يستطرد قائلاً : « في نهاية عام 1972م جاء الأخ الزميل سالم باجميل في قيادة إدارة المؤسسة والصحيفة ، وشهدت الصحيفة حينها تطوراً ملحوظاً ، وكان عدد من الصحفيين الشباب ذهب للدراسة الجامعية التخصصية في روسيا ، وعاد إليها فيما بعد ، منهم عبد القادر سنان ومحمد حسين محمد ومحبوب علي ، والأخير لم يكمل دراسته . في عام 1974 م قدّم الحزب الشيوعي السوفيتي لصحيفة الثوري مطبعة حديثة متكاملة شملت عدداً من آلات جمع الحروف آلياً ( اليونيتيب ) وآلة لصنع إكليشات الصور وبدخول هذه المطبعة قفزت الصحيفة إلى مرحلة متقدمة من العمل المطبعي والصحفي ، حيث انتقل إلى الصف الآلي بدلاً من اليدوي « . ويستدرك قائلاً : « ولا أنسى هنا أن أؤكد إن الفضل في إدخال عملية الإخراج والتبويب الصحفي يعود إلى الرئيس اليمني السابق علي ناصر محمد الذي كانت تربطه علاقة ودية بعدد من الشخصيات الإعلامية والسياسية العربية ، حيث تم استقدام مخرج صحفي ، لا يحضرني اسمه للأسف ، ومحرر اسمه حنا صالح من صحيفة النداء اللبنانية إلى عدن ، اللذين قاما بتعريفنا فن الإخراج الصحفي وعناصر الخبر ومكوناته وكيفية صياغته إلى آخره والطريف إننا كنا لا ندرك فقط التسميات العلمية التي أتى بها المدرب ، أما الخبرة العملية فكانت موجودة لدينا . كان ذلك بعد إدخال مطبعة (الأوفسيت) التي غيرت معالم الصحيفة نحو الأفضل ، وكان لابد أيضاً من وجود خطاطين وفنانين تشكيليين للعمل في الإخراج الفني وكتابة العناوين ( المانشيتات ) فاقترحت على إدارة الصحيفة الاستفادة من الأخ نصر صالح الذي كان يعمل في حقل التعليم وكان ذو خبرة في مجال الخط العربي في صحيفة الأيام ، وجاء أيضاً الفنان التشكيلي قيس أحمد حسن بواسطة الأخ أحمد سالم محمد الذي كان يعمل في مكتب رئاسة الوزراء ، وتم تدريبهم لمدة شهرين في لبنان في الإخراج الصحفي ليعودا إلى الصحيفة ويصبحا من أكفأ المخرجين الصحفيين فيها تدرب على أيديهما العديد من مخرجي الصحيفة اللاحقين . كذلك ذهبت الأخت ألطاف محمد عبد الله في دورة تدريبية في الأرشفة الصحفية إلى لبنان أيضاً ، وعلى يديها كان الأرشيف الصحفي بالطريقة العلمية للأرشفة « . [c1]اكتمال المشهد[/c]وصل ( ملك الأخبار ) إلى المرحلة الهامة والبارزة التي مرت بها صحيفة 14 أكتوبر، وهي مرحلة الثمانينيات التي شهدت الكثير من التغيرات النوعية أكان في شكل الصحيفة أو في الكادر الصحفي الذي حمل الراية بعد زملائهم الأوائل الذين سبقوهم ، فيقول : « في عام 1982م جاءت مطبعة ( الجوس ) الضخمة التي طورت الصحيفة إلى الأفضل .. وغيرت بنيتها التحتية وتم التخلص من تجميع صفحات الصحيفة اليدوي ( تعطيف ) ليتم العمل آلياً . ومنذ بداية الثمانينيات وفد إلى الصحيفة عدد من الصحفيين الشباب من الجنسين المؤهلين علمياً من جامعات الاتحاد السوفيتي ومصر ، ووجدوا طريقهم للعطاء المهني ، فتنوعت الكتابات الصحفية وزاد عدد الصفحات و تغير شكل الصحيفة وتم الاهتمام بالمادة الخبرية والتقارير وتحسنت الصفحة الثقافية بحيث تم الاهتمام بالحراك الثقافي في مختلف المجالات كالمسرح والسينما والنقد الفني والأدبي ، آنذاك في بلادنا،كما واكبت الصحيفة الحركة الرياضية اليمنية التي كانت في أوجها ، وأخذت التحقيقات الصحفية عمقها في الاستقصاء الصحفي ونشر هموم المواطنين . لقد كان لصحيفة 14 أكتوبر منذ التأسيس حتى اليوم الفضل في بروز أسماء أخذ أصحابها نصيبهم من الشهرة في مجال الصحافة والأدب وهم كثر ، لأن أكتوبر كانت المتنفس لهم والمنبر الوحيد الذي أوصل أصواتهم إلى المتلقي اليمني . من خلال خدمتي في الإعلام الرسمي التي تصل إلى أكثر من 37 عاماً أدين لأكتوبر التي احتضنتني شاباً وعلمتني دروساً في مهنة البحث عن الحقائق وأبجديات العشق لها ، والتي رفضت من أجلها كثير من الدعوات لتحمل مهام قيادية فيها لأبقى في ساحة معترك التحرير الصحفي تجنباً للغرق في مشاكل الإدارة حتى أُحلت إلى التقاعد في منتصف عام 2007م». [c1]أربعون عاماً حافلة بالعطاء الإعلامي المتميز [/c]في ختام حديثي مع الأخ والزميل محمد عبد الله مخشف سألته عما تعني له الذكرى الأربعون لتأسيس مؤسسة وصحيفة « 14 أكتوبر « ؟ فرد مبتسماً « مع مرور أربعين عاماً على نشوء مؤسسة « 14 أكتوبر « للطباعة وصدور صحيفة « 14 أكتوبر » .. يمكنني القول إن مشوار الأربعين سنة الذي قطعته المؤسسة والصحيفة لم يكن سهلاً أو مفروشاً بالورود .. بل كان أكثر من شاق ، وأشد صعوبة عبر المحطات والمنعطفات ، التي مر بها في كثير من النواحي . ولذلك فإنه لا مجال للمقارنة بين ظروف وأجواء مشوار الأربعين عاماً وما انتهى إليه في محطته الأخيرة التي بلغها في العام الماضي 2007 م ، عندما أصبح للمؤسسة والصحيفة مبنى عصري حديث لائق وواسع أعتبره ، بحق ، تتويجاً لكل مراحل التعب والتدرج التي مرتا بها طوال العقود الأربعة . فالمبنى الحديث الجميل المكون من خمسة طوابق مجهزة بكل المستلزمات والمعدات المكتبية والاتصالاتية والالكترونية وأجهزة الكمبيوتر التي أخذ يديرها ويتقن استخدامها جيل جديد من الشباب المتعلم هو ، في الحقيقة ، انتصار لكفاح ذلك المشوار الذي خاض معركته واكتوى بناره العشرات من الزملاء الأعزاء سواء قياديين أو محررين أو مطبعيين منهم من توفاهم الله ومنهم من انتقل إلى رحاب أعمال أخرى فضلاً عمن أُحيل إلى التقاعد ومنهم من ينتظر» .
(مايسترو الأخبار) معلم الأجيال محمد عبد الله مخشف يروي قصته مع مدرسة 14 اكتوبر للصحافة
أخبار متعلقة