[c1]محمد زكريا[/c] احتلت الشحر الضاربة جذورها في أعماق الزمان مكانة كبيرة وهامة في عقل وقلب التاريخ اليمني . وتسابق الشعراء والأدباء في مدحها ووصفها بأجمل العبارات ، وأعذبها . كانت ومازالت لؤلؤة ثمينة في جيد تاريخ حضرموت بصفة خاصة واليمن بصفة عامة. ولقد أجمعت كتب التاريخ أن الشحر كانت في القرن العاشر الهجري ( القرن السادس عشر الميلادي ) موئلا ومركزا للعلماء والفقهاء. ومن تحت معطفها الضخم والفخم تخرج الكثير والكثير من طلاب العلوم والمعارف المختلفة وصاروا كواكب درية في سماء الفكر اليمنية. لسنا نبالغ إذا قلنا أن الشحر أغنية في فم الزمان.[c1]الشحر والغزاة البرتغاليون[/c]وكانت الشحر إلى جانب هامتها العالية والسامقة والشامخة في الحياة الثقافية والفكرية . كانت ـ أيضا ـ تتبوأ مكانة خطيرة على مسرح اليمن السياسي . فالأحداث السياسية الهامة التي وقعت على الساحة اليمنية في القرن السادس عشر الميلادي تدل بوضوح على مدى صلابتها وعزيمتها وإرادتها التي لا تلين أمام الخطوب والأزمات السياسية التي أنشبت مخالبها القاسية على اليمن وعلى وجه التحديد على سواحلها من قبل الغزاة البرتغاليين الذين نزلوا بغطرسة وقوة في البحر الأحمر , والبحر العربي لحصار اليمن واليمنيين والقضاء على اقتصادهم ونفوذهم السياسي في تلك المناطق السهلية والساحلية وإزاء ذلك استعملوا الشدة والعنف الكبيرين مع السفن اليمنية وغيرها من الموانئ الواقعة المطلة على السواحل العربية الجنوبية . ولقد تعرضت الشحر إلى هجوم البرتغاليين مرتين الأولى في سنة ( 929هـ / 1523م ) , والأخرى سنة ( 942هـ / 1536م )الذي استعمل فيه الأسطول البرتغالي المدافع الثقيلة في تلك الحملتين لدك حصونها وقلاعها بل أن الفرنجة البرتغاليين لم يكتفوا بذلك فنزلت قواتهم على ساحل الشحر في الحملة الأولى ، ونهبوا وسلبوا ، وقتلوا ، وأحرقوا الأخضر واليابس . ولكن أهل الشحر لم يقفوا مكتوفي الأيدي . فقد قاوموا الإفرنج البرتغاليين الذين ذهلوا من مقاومتهم الشرسة. وقد خلفوا ورائهم أثناء انسحابهم من الشحر عددا من القتلى البرتغاليين . ولقد سطرت الملاحم الشعبية تلك الواقعة التاريخية والتي أظهرت بطولات أهل الشحر في التصدي للغزاة . وربما كان مناسبا أن نقتبس فقرة من كلام العلامة الشاطري حول تلك الحملتين البرتغاليتين على الشحر , قائلا : " وقد دحر البرتغال في عدة مواقع من حضرموت أهمها موقعة 5 رمضان سنة 942 هـ إذ هجموا على الشحر وهو بها ( أي السلطان بدر أبوطويرق ) ونزلوا إلى البر ودارت معركتان برية وبحرية وفي كلتيهما انتصر السلطان وأسر منهم نحوا من سبعين رجلا واستولى على سفنهم وعددها أربع عشرة سفينة أو أكثر , وأرسل بعض الأسرى إلى الدولة العلية الإسلامية ...". وأما عن الحملة الأولى , فيقول: " ومن المعارك الشهيرة قبلها بين البرتغاليين والحضارمة في عهد أبي طويرق موقعة فجر الجمعة 9 ـ 4 سنة 929 . فقد أرست 14 سفينة برتغالية في ميناء الشحر ونزل منها الجيش البرتغالي وعاث في الشحر فسادا بالنهب والسلب والحرب ، وقد قاتلهم السكان واستشهد منه الشيخ العلامة أحمد الشهيد بافضل وكثيرون من أعيان وجمهور الشحر وبعد يومين اقلعوا إلى سواحل الهند ".[c1]الشحر والعثمانيون[/c]والحقيقة أن الشحر أدركت تمام الإدراك واقع الأمور التي تغيرت على مسرح اليمن السياسي بصفة خاصة والوطن العربي والإسلامي بصفة عامة وهي بزوغ نجم الدولة العلية العثمانية في سمائها وأدرك سلطانها بدر أبو طويرق كذلك أن العثمانيون هم القوة الوحيدة القادرة على التصدي للبرتغاليين والعمل على تأمين السواحل اليمنية ومن بينها الشحر وهذا ما دفع بأمير الشحر بدر الطويرق المتوفى سنة ( 977هـ / 1569م) أن يقدم الطاعة والولاء والخضوع للدولة العثمانية . و يروي لنا الدكتور سيد مصطفى صورة الاحتفال والاحتفاء بالوفد العثماني عند وصوله إلى الشحر في 18 ربيع أول سنة 944 هـ الموافق25 أغسطس 1537م ، فيقول : " ... فأمر ( أي السلطان بدر الطويرق ) بعقد اجتماع كبير في المسجد الجامع (( بالشحر ))، وأمر أحد الفقهاء بقراءة رسالتي سليمان باشا في هذا المسجد بينما وقف هو وجميع من معه تعبيرا عن احترامهم للأوامر الواردة إليهم، ثم ألبس الحاضرون السلطان بدر خلعتي سليمان باشا أثناء قراءة المرسومين . وبالإضافة إلى ذلك فقد أمر السلطان بدر بأن يخطب في المساجد باسم سليمان القانوني، كما أغرق الرسول بالهدايا، وأرسل معه الهدايا الثمينة إلى سليمان باشا الخادم ". ويضيف قائلا : " وقد ظل سلاطين (( الشحر )) يعترفون بالسيطرة العثمانية عليهم طوال وجود العثمانيين في اليمن ". [c1]السلطان بدر أبو طويرق[/c]والحقيقة يجب أن نتحدث عن صفات السلطان بدر أبوطويرق الذي حكم غالبية حضرموت قرابة خمسين عاما والذي يعد من أهم وأشهر الشخصيات السياسية الخطيرة التي ظهرت على مسرح حضرموت السياسي ولا سيما الشحر, فيصفه الشاطري ،قائلا : " بدر أبو طويرق هو تاسع سلطان كثيري ... فتاريخه شهد له بالتفوق في السياسة داخلا وخارجا ، فهو يكاتب الدولة العثمانية والحكومة الزيدية في عصره مكاتبة السياسي الكبير والدبلوماسي الخطير بالنسبة لذلك العهد , وقد أعطته الدولة العلية ( فرمان ) مرسوما بتوليته على حضرموت ... وفي القيادة العسكرية يعد أكبر قائد حضرمي سواء من ناحية وضع الخطط أم في مباشرة الجلاد والفروسية ". وفي عهد حكمه الطويل ازدهرت الحياة الثقافية ازدهارا كبيرا . وفي هذا يقول الشاطري : " وكان عصر بدر أزهر عصور السلطنات الحضرمية , ويعد العصر الذهبي لها فقد أخصب بأكابر العلماء والفقهاء والأدباء والمؤرخين وبأعاظم الصوفية ". [c1]ما معنى الشحر؟[/c] والحقيقة أنه على الرغم من شهرة الشحر في تاريخ اليمن ، فإن المعاجم لا تسعفنا بمعلومات عن معنى اسمها . فمصادر التاريخ ـ مع الأسف ـ تضطرب اضطرابا شديدا في تعريف اسمها . ولكن كل الذي نجده في صفحاتها معلومات طريفة وغريبة تجانب الموضوعية والمنطق وهذا العلامة المؤرخ القاضي محمد بن أحمد الحجري في مؤلفه (( مجموع بلدان اليمن وقبائلها )) ينقل من مصادر تراثية قديمة مثل معجم البلدان لياقوت الحموي عن معنى الشحر بحذافيرها دون الوقوف عند تعريفها أو بعبارة أخرى يتلقى هذا التعريف دون أن يعقب عليه هل هو صحيح أم غير صحيح ؟ . فهو يقول نقلا عن ياقوت الحموي : " الشحرة الشط الضيق وهو صقع على ساحل بحر الهند في ناحية اليمن ـ والكلام مازال للعلامة القاضي الحجري ـ : " قال الأصمعي هو بين عدن وعمان قد نسب إليه بعض الرواة وإليه ينسب العنبر الشحري لأنه يوجد في سواحله ، وهناك عدة مدن يتناولها هذا الإسم ، قال : وينسب إلى الشحر جماعة منهم ابن خوي بن معاذ الشحري اليماني " . وينقل ـ كذلك ـ عن المؤرخ بامخرمة المتوفى سنة ( 947هـ / 1540م ) بأن الشحر سميت بسبب أن سكانها كانوا جيلا من المهرة يسمون الشحراء . وقيل سميت بالشحر لكثرة الأشجار والنخيل والآبار . كل تلك التعريفات تدل بوضح على مدى الاضطراب والقلق اللذين يحددان معنى الشحر . وفي واقع الأمر، أن العديد من المدن اليمنية الساحلية الهامة والتي طبقت شهرتها آفاق التاريخ مازالت تعريف أسماءها كعدن يشوبها الكثير من الغموض وإن لم يخلوا من الغرابة وأيضا الطرافة. [c1]متى بنيت الشحر؟[/c] في (( تاريخ حضرموت )) لصاحبه صالح الحامد أثار سؤالا هاما وهو من بنا مدينة الشحر ؟ . والحقيقة لقد حاول أن يجب عن ذلك السؤال الهام من خلال تقصيه للمصادر التراثية ولكن نلاحظ أنه أخفق في الإجابة عنه بسبب أن تلك المصادر لم تسعفه بمعلومات واضحة أو قل إن شئت يكتنفها الكثير من الغموض وعدم وضوح الرؤية التاريخية لها . فهو يقول أن الشحر مدينة موغلة في القدم . وأنه في نفس تلك المدينة القديمة بنا فيها الملك المظفر الرسولي المتوفى سنة ( 694 هـ / 1295 م ) مدينة أخرى . ويبدو أن الملك المظفر قد قام بتوسعة المدينة القديمة . وهذا في رأينا الأقرب إلى الحقيقة . وهذا ما يؤكده صالح الحامد بقوله أن المدينة الجديدة الذي بناها الملك المظفر الرسولي في ساحل حضرموت هي المكلا " وهي بلا ريب مدينة جديدة لا ذكر لها في المدن القديمة " . ويصف صالح الحامد أن حضرموت وخصوصا الشحر في عهد الدولة الرسولية التي بلغت من العمر في تاريخ اليمن عتيا أكثر من مائتي عام (626 هـ ـ 858 هـ / 1228 ـ 1454 م ) لم تظفر بعنايتها . وفي هذا يقول : " ومما ينبغي ملاحظته أيضا أن استيلاء بني رسول على حضرموت لم يفده أية فائدة ... وبالرغم من عظمة دولة بني رسول وطول عهدها فقد تقلص ظل المملكة ( هكذا ) الرسولية عن حضرموت ، غير مسفر عن أي أثر ، إذ لم يترك الرسوليون وراءهم بها معهدا ولا معبدا ولا مدرسة أو أي شيء يذكر مما يحفظ لهم جميل الذكر وحسن الأحدوثة. وقد دامت سلطتهم عليها ولا سيما الشحر أكثر من مائة وخمسين عاما ". ويفهم من ذلك أن الشحر انسلخت من الدولة الرسولية قبل غروب شمسها بأكثر من سبعين عاما . [c1]طبائع أهل الشحر[/c] ولا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا أن المدن الساحلية الهامة والمشهور المطلة على البحر كعدن والشحر وغيرهما كثير من سواحل اليمن تتميز بكون عقليتها متفتحة لكل التيارات الثقافية والفكرية دون تحفز . وهذا يجعلنا نتساءل لماذا لا يبحث الباحثون المختصون في الأدب بشقيه النثري والشعري عن الأدب الشعبي لمدن السواحل اليمنية ومدى تأثره بالآخرين ومن ناحية أخرى تأثر عادات وتقاليد تلك المدن الساحلية اليمنية بالمدن الساحلية الأخرى ؟ . وما هي العوامل المشتركة بينهم؟. [c1]من رؤية اجتماعية[/c]والحقيقة أن البعض من الباحثين الحاليين عندما يدرسون تاريخ مدينة ساحلية يمنية يدرسون من وجهة نظرية تاريخية بحتة حيث يبرزون جوانب أحداثها ووقائعها التاريخية فحسب ولا يبتعدون أكثر من ذلك. وكان حريا بهم أن يلقوا الأضواء التاريخية الاجتماعية المتمثلة بالعادات والتقاليد والأعراف أو بمعنى أوسع الغوص في أعماق المجتمع وهو ما يعرف بالتاريخ الاجتماعي والذي صار شيئا هاما في كتابة التاريخ بصورة دقيقة . ولقد كان قديما يدون المؤرخون القدامى بالتفصيل تاريخ الملوك والحكام ، والقادة ولا يلتفتون إلى الناس . ولهذا سبب كان الناس البسطاء يغرمون بالسير والحكايات الشعبية وهي الموروث الشعبي التي تصور وتجسد آلامهم وأمانيهم خير تصوير. وفي هذا يقول الدكتور قاسم عبده : " والموروث الشعبي يتسم بالتلقائية والبساطة من ناحية . كما أنه يدور حول أمور تتعلق بثقافة المجتمع ، وتقاليده وعاداته وأخلاقه من ناحية أخرى . كما أن هذا الموروث الشعبي عادة ما يحمل (( نواة تاريخية)) ؛ إذ أنه يحمل تفسيرات لأحداث (( تاريخية )) ويحكي عن أبطال تاريخيين ويتم ذلك كله بأسلوب مثقل بالخيال والرموز الشعبية التي تخدم الأغراض والغايات الاجتماعية " . ويمضي في حديثه ، فيقول: " ومن ثم فإننا يمكن أن نصف الموروث الشعبي بأنه نوع من (( القراءة الشعبية للتاريخ )) ... وإذا كان التاريخ قد اعتبر زمنا طويلا بمثابة المرادف لسبر الحكام والقادة وأنباء السياسة والحرب ، فإن التطورات التي أدت إلى الاعتراف بحق الشعوب في إدارة شئونها قد أدت إلى الاهتمام بالجوانب المختلفة من نشاط الشعوب وكان للتاريخ نصيبه من هذا الاهتمام ". وفي ضوء هذا على الباحث الذي ينقب في تاريخ الشحر أن يعتني بالتاريخ الاجتماعي لها ولن يجده إلا في الموروث الشعبي المتمثل ـ كما مر بنا سابقا ـ بالسير والحكايات الشعبية وغيرها المرتبطة بحياة الناس . والحقيقة أن صورة تاريخ الشحر لن تكتمل أو تأخذ شكلها الحقيقي والأصيل إلا من خلال دراسة متعمقة لتراثها الشعبي الضارب في جذور تربة الزمان . [c1]الشحر والأسطورة[/c]وفي الحقيقة أن هناك الكثير من المعلومات التي يشوبها الغموض والألغاز والرؤية الضبابية في تاريخ الشحر الموغل في القدم وكذلك في تفسير سبب تسميتها . والمراجع التاريخية لا تسعفنا بمدنا بمعلومات واضحة الملامح بينة المعالم عن تاريخها القديم . فعلينا أن نتوجه صوب الأسطورة لعلها تمدنا بالمعلومات القيمة والثرية عن تاريخها الغابر والسحيق . فإن تلك الأسطورة أو الأساطير قد تقودنا إلى حقيقة تاريخية وجديدة . وكان الأعم والأغلب من الناس يظنون أن الأسطورة وخصوصا الباحثين الناشئين أنها محض خيال أو خرافة لا تمت للحقيقة بصلة . وفي واقع إن التاريخ ولد من بطن الأسطورة وتربى على حجرها أو بعبارة أخرى التاريخ نشأ من ضلع الأسطورة ـ على حسب تعبير الدكتور قاسم عبده في كتابه (( بين التاريخ والفلكلور )) ـ. [c1]الجغرافية وطبائع الناس[/c]وفي الواقع أن الجغرافية أو الطبيعة تلقي بظلها على حياة الناس ، وتأثر تأثيرا واضحا على طبائعهم ، وعاداتهم ، وتقاليدهم وبالتالي على موروثهم أو تراثهم الشعبي . وعندما ندرس تاريخ الشحر يجب أن ندرس الجانب الجغرافي وأثره على حياة أهلها أي أنه لا انفصام بين التاريخ والجغرافية . وبمعنى أوسع أن العامل الجغرافي له بصمة واضحة وعميقة في سلوكيات و طبائع السكان والمجتمع . وهذا ما دفع بالدكتور سيد مصطفى أن يذهب إلى أن الاختلافات الطبيعية لها أثرها الواضح في تشكيل سلوكيات السكان وحياتهم ، فلمجتمع الذي يعيش في المناطق الجبلية تتسم صفاته " بالنحافة وكثرة الحركة ، وشدة الحيوية ، كما أتصف بالذكاء والحذر من الغرباء والشك فيهم ، وذلك على عكس السهلي الذي يميل إلى البدانة والاسترخاء والركون إلى الراحة والسلام ، كما يشتهر بلين العريكة ". والمجتمع الذي يسكن على البحر فإنه تتسم صفاته بأنه يعشق المغامرة ومن ناحية أخرى قدرته الواسعة على استيعاب التيارات الثقافية والعقلية ونقصد بها الموروث الشعبي الآخر القادم من وراء البحار الذي امتزج بتراثه الأصيل. [c1]من نسيج حياتهم[/c]ولقد قلنا سابقا ، أن أهل الشحر يتحلون بحب المغامرة والارتماء في حضن الأهوال لكونهم بحارة ، فمنذ أن صافحت أعينهم الحياة لم يروا سوى البحر الذي صار جزءا لا يتجزأ من قدرهم ومصيرهم أو قل إن شئت صار جزءا من نسيج حياتهم الاجتماعية , صاروا جزءا منه لا يستطيعون الفكاك منه ، ولا يستطيع البحر الفكاك منهم . والحقيقة أن البحر صبغ أهل الشحر بطباعه , ولونه في عاداتهم ، وتقاليدهم ، وأعرافهم , ومختلف نواحي سلوكهم الاجتماعي . وهذا ما ذكرناه بأن للطبيعة بصمتها الواضحة على نشاط حياة الناس , وطبائعهم ، وسلوكياتهم . [c1]البحر والأغاني الشعبية[/c]وتترامى إلى إسماعنا أغاني شعبية غاية في الجمال والعذوبة تهز مشاعرنا ، وتدغدغ أحاسيسنا وذلك عندما يعود البحارة إلى ذويهم ، وأحبابهم من جوف البحر إلى شاطئ السلامة بعد غياب طويل . فيغني النساء ـ على لسان الشاعر الشعبي المجهول ـ اللواتي ينتظرن رجالهن على الشاطئ ، وفي عيونهن يطل القلق ، ويدق القلب من الخوف . وعندما تظهر في الأفق المراكب الشراعية التي على متنها البحارة شيئا فشيئا ، فيزغردن وغينين . وقد رفرفت الابتسامة على وجوههن ، فينشدن: (( يا قريب الفرج يا قريب ×××× يا الله مع الصابرين يا قريب))وفي موضع آخر ينشدن النساء مرحبين بأزواجهن، وآبائهن، وأقاربهن:(( حيا ومرحبا بالهادف ومن هو حضر ×××× رجال مثل النمارة ما تهاب الخطر)) . [c1]طوق النجاة[/c] والحقيقة لقد ـ مر بنا سابقا ـ أن أغاني البحارة تمثل طوق النجاة لهم أو بعبارة أخرى تمثل الجسر الذي يربط بينهم وهم في جوف البحر وبين ذويهم وأحبابهم الذين يعيشون في الشاطئ . فالبحارة يبددون خوفهم وقلقهم من عذابات الرحلة ، وأهوال البحار وأمواجه الهائلة من خلال الأهازيج التي ينشدونها على متن المراكب الشراعية . وينقل الأديب حسين سالم باصديق عن المستشرق الإنجليزي روبرت سارجنت في كتابه (( شعر ونثر من حضرموت )) عن أهمية الغناء لدى البحارة ، قائلا : " أن لكل مركب شراعي ضاربا على الطبل أثناء مختلف الأعمال في البحر ، وهو رجل من الأهمية بمكان بحيث يأتي في الترتيب الثالث بين أصحابه الملاحين بعد القبطان ونائبه ". [c1]أغنية العمل[/c]ويعطينا الكاتب والقاص حسين سالم باصديق صورة عن الأغاني الذي ينشدها البحارة في المناسبات المختلفة ، فيقسمها إلى ثلاثة أنواع ، فيقول : " أن أغاني البحارة هي ذات أنواع ثلاثة وكل نوع مختلف عن الآخر من حيث النغم والمضمون ومن حيث الهدف أيضا، فالنوع الأول هو أغاني العمل أي الاستعداد بشباك الاصطياد ولوازمه أو الاستعداد بلوازم (( سواعي )) ـ زوارق صغيرة ـ لنقل البضائع والتوغل بها إلى أعماق البحر". ويواصل باصديق حديثه ، فيقول : " وهذا النوع يهدف إلى شد نشاط البحار نحو عمله في رتق الشباك وإصلاحها , وأعدادها وتكون الأغنية فردانية إذا كان البحر وحده يعمل . وقد تكون جماعية عندما يكون عددهم كبيرا، ويشتركون معا في إعداد شباك كبيرة ولوازمها ". : " ومضمون هذا النوع من الأغاني هو نفس مضمون أغاني العمل الشعبية... فقد تكون عن السمك أو الإنتاج العام في البحر أو عن حياة البحر أو عن حياة البحارة أنفسهم أو أفراحهم أو أحزانهم وآلامهم. وفي ذلك يشكو البحر همه وينفث ما في جوفه ويداه تتحركان في العمل ". [c1]العواطف الملتهبة[/c]ويصف الكاتب الكاتب والقاص حسين باصديق النوع الثاني من أغنية البحارة ، بأنه يغنيها على ظهر المركب الشراعي في جوف البحر ، وأمواجه العاتية كالجبال الراسيات تقذف به يمنة ويسرة أشبه بريشة في مهب الريح وفي تلك الظروف الصعبة تلمح فيها أي الأغنية الحنين الجارف , والعواطف الملتهبة واللوعة على فراق الأحباب ، فتنبعث أنين وأسى من صوت المغني . [c1]يا نجمة الصبح[/c]وأما النوع الأخير من أغاني البحرة والصيادين فمصبوغة بألوان الطيف الزاهية الألوان ونقصدها بها أغاني الأعراس , والمناسبات السعيدة الأخر مثل حصولهم على رزق وفير من الأسماك . وتغنى تلك الأغاني البهيجة عندما يأتي المساء ، وترصع النجوم قبة السماء ، ويغمر ضوء القمر الفضي المكان ، ويتجمع الصيادون وينشدون بصوت وإيقاع واحد متناغم ، فيقولون : " الشوحطة قد قال عبد الله لها بحر ثاني ×××× ما تحتجي في المغنصوتك يماني ، وانته ياذا المخمس يماني ×××× جيتك من أرض اليمن " ومن الأغاني التي توضح لنا البحار العاشق الولهان المغرم , والمتيم بحبيبته والذي يبث عواطفه إلى نجمة الصبح الساكنة في قبة السماء لتبلغها كيف ينكوي ويتألم لعذاب فراقها , فيقول الشاعر على لسانه : "يا نجمة الصبح طلي وارجعي وروحي ×××× وسلمي لي على من عندهم روحيبحق من أنزل القرآن في اللوح ×××× عندي دوا الناس ما عندي دوا روحي"ومثلما يتسامر البحارة في شاطئ البحر عندما يسدل الليل ستاره الداكن , ويغزل ضوء القمر خيوطه الفضية صفحة مياه البحر ، فإن البحارة أيضا يتسامرون على متن المركب الشراعي . وتنضح كلمات أغانيهم بالغزل العفيف نحو الحبيبة والتي شبهت بالغزال , فتقول : " يا مهري المشدود ومن خيالك ×××× يرعاك زهر المقطوف دائم على حالكحيا زمن يومنا حبك تشعلك ×××× واليوم شوفي مكلوف باهب لي من قبالك " [c1]مشاعر مشتركة[/c] وفي الحقيقة أنه من الصعوبة بمكان أن نفرق بين أغاني البحارة والصيادين سواء في الشحر أوعدن ، أوالمكلا ،أوالحديدة أوالمخا ، فالمشاعر والأحاسيس مشتركة بينهم تعبر عما يجيش في صدور هؤلاء البحارة الذي يمخرون عباب البحر وراء الرزق . وأن أغاني البحر في السواحل اليمنية ما هي في حقيقة أمرها إلا موروث شعبي قديم يصف حالة البحارة القدامى مع البحر, فيرددها جيل بعد جيل من البحارة سواء في الشحر أو غيرها من المدن الساحلية الأخرى. [c1]من المراجع التاريخية[/c]وعلى ضوء ذلك نرى من الأهمية بمكان العناية والاهتمام الكبيرين بها وذلك من خلال تجمعيها و تدوينها وتوثيقها ليعود إليها الباحثين والمهتمين بأغاني البحارة والتي هي جزء لا يتجزأ من تراث سكان السواحل اليمنية بصفة خاصة واليمن بصفة عام ـ كما قلنا سابقا ـ . وكيفما كان الأمر ، فإن أغنية البحارة تعد من الموروث الشعبي الذي في الإمكان أن يكون من المواد المساعدة للتاريخ. فمراجع التاريخ لا تستند على المؤرخين فحسب بل تتكئ على لسان الشعراء الشعبيين والسير الشعبية والحكايات . فالمدن الساحلية اليمنية سواء الشحر أو عدن أو المخا أو الحديدة يملكون موروثا شعبيا ضارب جذوره في أعماق التاريخ اليمني . [c1]تراث أغاني البحارة[/c]وكيفما كان الأمر ، علينا أن نشمر سواعد العزم والحزم في تجميع تراث أغاني البحار بغية الحفاظ عليه من مخالب النسيان والضياع فيذهب هذا التراث العظيم هباء منثورا . وأنني أكاد أجزم أن وزارة الثقافة بقيادة وزيرها الأستاذ خالد الرويشان المفعم بالنشاط والحيوية والمليء بالحب العميق لتراث اليمن التليد. سيعمل على تجميع تلك المأثورات الشعبية اليمنية الأصيلة . [c1]هوامـش :[/c]العلامة : محمد بن أحمد الشاطري ؛ أدوار التاريخ الحضرمي ، الجزء الأول ، الطبعة الثالثة 1415 هـ / 1994 م ، دار المهاجر للنشر والتوزيع . توزيع مكتبة تريم الحديثة .صالح الحامد ؛ تاريخ حضرموت ، الجزء الثاني ، الطبعة الثانية 1423 هـ / 2003 م ، مكتبة الإرشاد ـ صنعاء ـ الجمهورية اليمنية ـ توزيع مكتبة تريم الحديثة ـ حضرموت. القاضي : محمد بن محمد الحجري ؛ بلدان اليمن وقبائلها ، تحقيق وتصحيح ومراجعة : القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ، الجزء الثالث ، الطبعة الأولى 1404 هـ / 1984 م ، منشورات وزارة الإعلام والثقافة ـ صنعاء ـ.الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول لليمن 1538 ـ 1635 م ، سنة الطباعة 1969 م ، معهد البحوث والدراسات العربية ـ جامعة الدول العربية ـ . الدكتور قاسم عبده قاسم ؛ بين التاريخ والفولكلور ، الطبعة الثانية 2001م ، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ـ ج . م . ع .حسين سالم باصديق ؛ في التراث الشعبي اليمني ، الطبعة الأولى 1414هـ /1993م ، مركز الدراسات والبحوث اليمني ـ صنعاء ـ .
|
تاريخ
الشحر أغنية في فم الزمـان
أخبار متعلقة