مسعود عمشوشإذا كان صالح باعامر قد أراد في روايته الاولى (الصمصام) أن يحتفي بشكل شاعري رومانسي بالبحر الذي كان قد كرس له مساحة مهمة في قصصه القصيرة التي نشرها قبل اصداره لـ (الصمصام) سنة 1993م، فهو في روايته الثانية (المكلا 2004م) يبكي البحر وشواطئه، ويبين أشكال العنف التي تعرض لها ذلك البحر الذي تقهقرت أمواجه فانكمشت العاطفة وتحجرت القلوب وغدا البحر الذي ربينا وسطه وأحببناه بعيدا عنا (ص7). ويؤكد بطل هذه الرواية أنه قد عرج على الشاطئ فوجده ليس هو (ص13) إذ أن الآليات تستبيح الرمل المتلألئ، تدفن الكثبان، تعيق انسياب البحر، مما دفع بعشاقه وهواة الصيد إلى الابتعاد إلى أمكنة أبعد لاصطياد السمكات التي يودون اصطيادها (ص32) ياسوبان!وإذا كان راوي (الصمصام) لم يهتم إلا بسرد الأحداث المرتبطة بطفولة بطله السحيم وتكوينه وحياته العاطفية، ففي رواية (المكلا) يركز الراوي/ البطل على أشكال العنف منذ عام 1996 وحتى بعد قيام الوحدة اليمنية في عام 1990. في بداية الرواية، يقوم رجال أمن غامضون باختطاف الراوي/ البطل، وهو أحد المثقفين المبدعين الذين، بعد أن كان ينادون بأدب واضح وملتزم، اضطروا إلى الابتعاد عن الوضوح واللجوء إلى الغموض. وقبل أن يقرر المختطفون التخلص من الراوي أو "لحسه" يحققون معه وسألونه عما إذا كان قد ذهب إلى البوسنة والشيشان وكشمير أو إلى افغانستان. وفي اثناء عملية "الاعتقال/ الاختطاف" يستعيد الراوي/ البطل فصول ذلك الشريط السينمائي من مسلسل الصراع بين رفاق الأمس أعداء اليوم، الذي بدأ بالاختلاف حول مصير الثورة والاشتراكية: يمين، يسار انتهازي، يمين رجعي، انحراف، زمرة طغمة.. وخلال تلك الاستعادة يركز الراوي على اشكال العنف الذي تعرض لها اليمن وهو شخصيا، في اعوام 1969 و1978 و 1986. ففي سنة 1978 أودع البطل في سجن المنورة مدة ثلاثة شهور بتهمة التآمر على النظام، أي بدون سبب. وفي 13 يناير من عام 1986 كان الراوي/ البطل في عدن حيث رائحة الدم تزكم الأنوف وأشلاء الجثث متناثرة هنا وهناك. شارع المعلا صار مظلما، أنابيب الماء غدت جافة، المطاعم اقفلت. اكاد أموت جوعا وعطشا... (ص23).وبالاضافة إلى هذا العنف العام هناك أنواع أخرى من العنف (الكافكاوي) يتعرض لها الراوي/ البطل على مستوى حياته الشخصية: فتيار الكهرباء قطع عن سكنه وكذلك الماء. وربما أنه لا يدري لماذا قبض عليه هذه المرة يتساءل: لقد كثرت الاختفاءات والاختطافات هذه الايام. فهل هذه الاخبار حقيقة أم بقصد الاثارة الصحفية ليزداد توزيع الصحف وبيعها؟ أم أنها تدخل ضمن منظومة المزايدات الحزبية التي اتخذت مسارا مختلفا بعد الوحدة ودمج نظامين سياسيين مختلفين؟ هل أنا أحد المختفين أو المخطوفين؟ ولم لم تنشر عني أي صحيفة من هذه الصحف؟ السؤال هل انا موقوف ام مخطوف أم معتقل أم سجين؟ (ص30- 31).ومن الطبيعي أن تختفي من رواية (المكلا) اللغة الشاعرية التي كتب بها صالح باعامر روايته (الصمصام) والتي شدت انتباه عدد من النقاد مثل عمر محمد عمر وعبدالرحمن الاهدل الذي يؤكد ان في الرواية جزءا من سيرة الفنان صالح باعامر فهناك بعض التفاصيل الدقيقة في السرد لا يمكن ان يحيط بها المتخيل أو يلتقطها ما لم تكن التجربة الشخصية متماسة معها إلى حد كبير. وتختفي كذلك اغاني الحب وأناشيد الاطفال والاهازيج الدينية التي تتناثر في رواية (الصمصام) لتحل مكانها في رواية (المكلا) اغان تعكس استمرار العنف والخراب. ففي صفحة 15 يستغرب البطل/ الراوي من ان كرامة مرسال قد غير كلمات أغنيته (أزمة وعدت) وأصبح يردد "أزمة ولا زالت، عروقها سبحت، وفروعها طالت"! وحينما تعرض الراوي للابتزاز من قبل رفيقه/ خصمه سعيد الذي قاده- بسبب مخالفته له للرأي- إلى سجن المنورة، رد عليه بأغنية المحضار التي تقول "لي خربوا دار بصعر بايخربونك، خذ خمس، خذ عشر، لابد لك من خراب"! ص46.[c1]العنف في راوية (حمار بين الأغاني) لوجدي الأهدل:[/c]يبدول لنا من أبرز الاهداف التي سعى وجدي الاهدل إلى تحقيقها من تأليفه لرواية (حمار بين الاغاني): فضح بعض مظاهر العنف اليومي الذي يمارسه الناس بشكل شبه عفوي إلى درجة انه يكاد يصبح جزءا من حياتهم اليومية. فـفي أول الشارع الذي لم يتبرع أحد بتسميته حدثت مشادة بين اصحاب الدكاكين وموظفي البلدية، وفي وسطه وقع حادث تصادم مريع بين باص صغير وقاطرة محروقات أودت بحياة أربعة من ركاب الباص واصيبت طفلة تصادف مرورها وقت الحادث بحالة بكاء عصبية ذهبت بعقلها... (ص167). وتبرز الراوية إلى أي مدى اصبحت بعض اشكال العنف (عادية) وتتستر داخل العادات والاحكام الاجتماعية المسبقة. فمثلاً تبين لنا الراوية انه لا احد يمكن ان يشك في السلوك الشاذ امام مسجد يستغل موقعه ليهتك أعراض الصبية. وبالمقابل ليس هناك أحد مستعد أن يفكر في براءة علي جبران النائب الاشتراكي الذي اشاع المتشددون عنه انه ماركسي ملحد، وما صلاته وعبادته وتمسكه بشعائر الاسلام إلا بغرض كسب أصوات عوام الناس في الانتخابات. (ص97).كما تصور رواية (حمار بين الاغاني) اشكالا أخرى للعنف الاجتماعي الذي لا يمكن تفسيره أحياناً إلا بارتفاع مستوى الجهل الذي لايزال يعاني منه بعض أفراد المجتمع اليمني. فـ (الغشي)، مثلا، يدعو أبناء عمه الأربعة بمناسبة عودتهم من الخليج، وبعد الوليمة يدخل عليهم حاملاً بندقية كلاشينكوف بطنها عامر بالرصاص ويقتل ثلاثة منهم. كل ذلك لان عياش رضي ان يزوج بنته أروى من واحد منهم: الحدي. (ص166).أما العنف الجنسي فتصور رواية (حمار بين الاغاني) اشكالاً مختلفة منه: تبدأ من تلصص (كبش) على النساء عبر النوافذ أو بالمنظار المقرب، وتنتهي بالسادو- مازوشية التي يمارسها علي جبران الذي يعاني من العجز الجنسي، ويخلي ثايرة لما قدها راقدة ويقوم يربطها من أيديها ورجليها ويحشي فمها بخرقة، وبعدها يقوم بضربها بالحزام لما الفجر (ص244). وتقدم لنا هذه الرواية كذلك مشاهد لاعتداءات جنسية أشد عنفا. ففي وضح النهار يخرج شاب من سيارة صالون "أبو دبة" شاهرا مسدسه ويمسك ثائرة من ذراعها ويحاول اجبارها على الصعود معه تحت تهديد السلاح. وفي الشارع ايضا يمسك (كبش) بيد زينب ويحاول أن يجرجرها بالقوة إلى بيته لأنه محتاج "دروس خصوصية" (ص104- 106). ومرعب ايضا سلوك الشيخ هلال الذي يحول جلسات العلاج بالقرآن إلى فرصة لاشباع رغباته الجنسية. (ص67).وفي بعض الاحيان تمزج رواية (حمار بين الاغاني) بطريقة ذكية العنف الجنسي والعنف العسكري والعنف السياسي. فمثلا حينما كانت ثائرة _ بطلة الرواية- تسير وسط السوق "يذكرها العجيج المتعالي من وقوقة الدجاج وزعيق الباعة ومساومة الزبائن بضجيج المظاهرات الطلابية الحاشدة التي شاركت فيها احتجاجا على رفع اسعار الوقود، وأفلتت منها ضحكة خافتة حينما تذكرت شقاوتها في تلك المرحلة، يوم كانت تحمل كاميرا فيديو لتصور قمع شرطة مكافحة الشغب لزملائها بالعصي الكهربائية والغازات المسيلة للدموع، فلما انتبهوا لما تفعل طاردوها وأطلقوا عيارات نارية في الهواء لتخويفها، فتوارت بين مجموعة من زملائها واخرجت شريط الفيديو وخبأته بين فخذيها، وعندما وصل الجنود صادروا الكاميرا، ولكن واحدة من زميلاتها _ كانت تعمل لحساب الأمن- نبهتهم إلى مخبأ الفيلم.. وأمتدت عشرات الأكف الغليظة الخشنة في حنايا جسدها..!! (ص28- 29).وإذا كان صالح باعامر يستخدم الحروب الاهلية التي شهدها الشطر الجنوبي من اليمن في عامي 1978 و1986 كخلفية لمظاهر العنف العسكري في روايته (المكلا)، فوجدي الاهدل يوظف حرب صيف 1994 ليرفع من حدة العنف في روايته الثانية (حمار بين الأغاني) المنقطة بغارات الطائرات الحربية وصواريخ "سكود التي ترسل مع التحية من قاعدة العند الجنوبية" (ص179)، والتي تتداخل بشكل ملتبس مع اجراءات التحقيق في حوادث الاغتصاب والقتل البشعة التي تعرضت لها ثائرة عبدالحق محمود والمدرسة زينب والممرضة أروى عياش، إلى درجة أن المرء يتساءل في لحظة من اللحظات إذا كانت الحرب هي التي أدت إلى موت ثائرة، زوجة النائب الاشتراكي علي جبران، التي عثر على جثتها فوق جبل "قربوس سام بن نوح". ففي صفحة 133 نقرأ: "اجترأت الغربان على الاقتراب من الجثة إلى مسافة امتار قليلة.. ولم يحرك الضابط سيف ساكنا، واكتفى بالتحديق ذاهلا في المنظر الخرائبي الماثل امامه. وبعد دقائق سمع صوت طائرات حربية نفاثة تخترق السماء من الجنوب إلى الشمال، ثم تبع ذلك صوت انفجارات مدوية جعلت الأرض تهتز تحت قدميه، وبعد عدة طلعات هجومية تصدت الدفاعات الارضية للطائرات المهاجمة واجبرتها على الانسحاب. تأمل الضابط سيف ما حصل وادرك ان الحرب قد قامت بين الشمال والجنوب وخمن أنها لن تتوقف حتى تلتهم أكثر من عشرين ألف قتيل.ومن اللافت كذلك ان وجدي الاهدل، مثل صالح باعامر ومحمد يحيى الارياني وحبيب سروري، يسعى إلى تضمين روايته حوليات احدى الحروب الاهلية اليمنية وقراءة خاصة لمسارها. (انظر الصفحات 133 و 134 و 161 و 208 و 211).وفيما يتعلق بالعنف اللغوي في رواية (حمار بين الاغاني)، نلاحظ انه اقل حدة من المستوى الذي بلغته لغة (قوارب جبلية) الرواية الاولى لوجدي الاهدل. ومع ذلك يمكن ان نجد في الرواية الثانية لوجدي الاهدل بعض العبارات الصادمة. فحين يشتد الشجار بين زينب والجزار الذي يعاكسها في الشارع تقول له : "أنت أقذر انسان لقيته في حياتي.. ومهما غسلت وجهك ما عتقدرش تخليه نظيف، عارف للمه؟قال الجزار وقد ارتسمت على شفتيه الغليظتين ابتسامة إلا مبالاة بلهاء: للمه؟قالت زينب بلهجة هجومية وغضبها يتصاعد ويبلغ أوجه: لأن أرحم الراحمين خلق الناس من تراب وأنت وحدك خلقك الله من خراء!" (ص170- 171)[c1]اثر العنف في بنية الرواية اليمنية:[/c]اشار عدد النقاد إلى تفكك البنية السردية في (قوارب جبلية) الرواية الاولى لوجدي الاهدل. ويبدو لنا ان هيمنة العنف بأشكاله المختلفة هي التي أدت إلى تشظي السرد في تلك الرواية وجعلها تبدو وكأنها مجموعة من القصص القصيرة المتناثرة، وليس عدم قدرة المؤلف على صياغة نصه كما أراد له ان يكون. وليصور مدى قدرة مرتكبي العنف على الاختفاء والتمويه والتستر اضطر وجدي الاهدل في روايته الثانية (حمار بين الاغاني) إلى استخدام بناء الرواية البوليسية الذي يذكرنا ببنية أفلام رعاة البقر الامريكية، وذلك حينما يجعل ضابط الأمن سيف هو نفسه القاتل. وكذلك يفعل باعامر في روايته الثانية (المكلا) التي استخدم فيها نوعا من أنواع المونتاج (او الكولاج) رص بواسطته أجزاء الرواية بشكل يكسب النص، بالاضافة إلى بنية سردية "حديثة"، شيئا من الغموض يبدو ان الراوي- الذي يؤكد انه لا يعرف ان كان موقوفاً أم مخطوفا أم معتقلا أم سجينا- يريد الحفاظ عليه. ويمكن ان نشير كذلك إلى ان محمد يحيى الارياني قد حاول هو ايضا ان يعطي لروايته (نحو الشمس شرقا) بنية مثيرة حينما جعل من بطلة الرواية (نضال الضحياني) أرملة لعوب وتطاردها المخابرات لان في حوزتها حقيبة تحتوي (مخططات حل الوحدة اليمنية، وكل الشفرات المتعلقة بالعملية، وبجهات التمويل). ص67.ومن الواضح كذلك ان اتساع ظاهرة العنف قد اثرت في البنية الزمنية والمكانية للرواية اليمنية. فبالنسبة للزمن، بدلا من التركيز على فترة النضال ضد الامامة أو الاستعمار نلاحظ ان كثيرا من الروائيين يميلون إلى اختيار سنوات الحروب الاهلية اليمنية 1969 و 1978 و 1986 و 1994. وكذلك فيما يتعلق بالمكان يمكن ان نلمس تراجع مكانة القرية والمهجر في الرواية اليمنية. وبالمقابل نجد ان بعض الروائيين نقلوا احداث رواياتهم حتى دون مبرر إلى مدينة عدن التي اضحت تجسد عنف المكان في الرواية اليمنية. هذا ما لاحظناه مثلا في رواية (المكلا) لصالح باعامر. وكذلك فعل حبيب عبدالرب سروري في روايته (الملكة المغدورة). فعلى الرغم من ان راوي/ بطل رواية (الملكة المغدورة) لحبيب عبدالرب سروري كان سنة 1986 يقيم في فرنسا، فهذا لم يمنعه من لي رقبة السرد ليصور مطاردة القتلة لصديقه عدنان داخل أروقة مستشفى الجمهورية في عدن، وليؤرخ لحرب اخرى من اعنف الحروب الأهلية واشرسها في تاريخ اليمن الحديث التي سقط فيها الآلاف من الناس من بينهم عدنان، قائلا: "ماذا حدث من غرابة في صباح 13 يناير؟ لا شيء غير عادي. (...) ربما لاشيء غير عادي، إذا نسينا ان تناسخ المؤامرات والكذبات الكبيرة والضربات المقيتة في الحياة السياسية اليمنية سوف تلد كما فعلت دائما وستتجه دورات العنف الخسيس حتما نحو الهاوية، نحو واحد من انفجاراتها الهائلة القاتلة: اصطفت السلطة والجيش والسكان في عشيرتين كبيرتين، وأعلن كل منهما ولاءه لأكثر الشعارات صوابا وتقدمية، و"اممية بروليتارية". كانت الاقنعة التي الصقت طويلا بالجوه قد فصلت لتناسب الوجوه ويضنها الجميع مخلصة. رأت كل عشيرة في الآخر شرا مطلقاً، وعدوا ينبغي ذبحه، معارك قديمة: قبلية عشائرية مزينة اليوم بعطورات الصراع الطبقي، وفقا لتحليل (عدنان السبعينات). الساعة العاشرة صباحا ضربت احدى العشيرتين ضربتها.. انفجرت أفظع الحروب في تاريخ اليمن شاملة، عنيفة، وصاعقة. كسبتها العشيرة التي كانت مذبحة المماليك قد اعدت لذبحها، وانتصرت الضحية فانهمكت في القراءة المفصلة لجميع بطاقات هوية المارة لافناء العشيرة التي بدت الحرب بالقدر نفسه من الخسة والشؤم.. ص109- 110 .
|
ثقافة
العنف في الرواية اليمنية
أخبار متعلقة