أضواء
أعادت مجلة تايم الأميركية قبل يومين بعضاً من الضوء لربيبات المطابع (الوسائل الإعلامية المطبوعة) بنشرها تحقيقاً صحافياً عن فتاة أفغانية تبلغ من العمر 18 عاماً، قطع زوجها أنفها وأذنيها لأنها قررت فقط أن تنهي علاقتها معه هرباً! القانون الاجتماعي في أفغانستان الذي ينمو ويزدهر تحت إشراف دولة «الأبيض والأسود» طالبان يسمح للرجل بأن يتصرف في «حريمه» كيفما يشاء، فالبنت الأفغانية المسكينة «عائشة» - التي ظهرت صورتها على غلاف المجلة - دفعها أهلها قسراً وهي لم تبلغ الحلم بعد لرجل غريب (كفدية عينية) في مقابل عفوه عن أحد أقاربها لقتله واحداً من أقاربه، ام هو بدوره باستعبادها كزوجة هامشية لمدة أربع سنوات، وعندما قررت الهروب بحياتها وجمالها وأخلاقها وحريتها قيدها سيدها الذي يلبس عباءة الزوج وجدع أنفها وقطع أذنيها وتركها غارقة في دمائها تصارع الموت المقبل على نعش الحرية!في أفغانستان تتيح العادات القبلية للرجل أن يمارس مروءته وشهامته وكرامته في أمرين مهمين: الأول: استعباد المرأة وامتهان كرامتها والتعامل معها على أساس أنها تابع وضيع للجنس الذكري، والثاني: التكسب المادي من وراء زراعة الخشخاش. مسموح للرجل في الأرض المغلقة «أفغانستان» أن يمتهن المرأة جنسياً، وأن يتلف العقول «مخدراتياً»، لكنه مطالب بأوامر «طالبانية» أن يطلق لحيته إلى سره، وأن يتحدث باسم الرب على الأرض! هل هذا ما أود الحديث عنه؟... لا! فعودة إلى فوز مجلة تايم الأميركية بالأضواء هذا الأسبوع، يمكنني الجزم بأن الصحافة الورقية تمرض ولا تموت، فالتحقيق الصحافي عن حال عائشة وصورة الغلاف المؤثرة التي التقطتها مصورة المجلة جودي بيبر تناقلتهما عشرات وكالات الأنباء، ومئات المحطات التلفزيونية، وعشرات الآلاف من المواقع الإلكترونية، وصار اسم تايم خلال أيام قليلة في واجهة الأخبار العالمية، وراح المهتمون وغير المهتمين يبحثون عن الطبعة الورقية بعد أن نشر الموقع الإلكتروني للمجلة ملخصاً لحال عائشة، ووعد قراءه بالقصة كاملة في تايم الورق. خلال السنوات العشر الماضية خرجت نظريات كثيرة تؤكد على موت الصحافة المكتوبة بعد تنامي الأخبار والإعلام عبر «الإنترنت»، وراح الكثير من عرابي الصحافة الجديدة يطرحون الرأي تلو الرأي حول قرب انتهاء مطويات الورق المضمخة برائحة الحبر، بل إن الكثير منهم بالغ بأن المطبوعات الورقية ستختفي من الأسواق خلال عشر سنوات على أبعد تقدير.مجلة التايم بهذه الخبطة الصحافية المأسوية تؤكد أن من راهن على الوعاء وتجاهل المحتوى قد جانب الصواب، فمستقبل الصحافة مرهون بنوعية ما تطرحه وليس بشكل القالب الذي تضع فيه محتواها. صحيح أن سهولة الحصول على القالب ستسهم في ازدهار أنواع معينة من الإعلام، لكن ما في القالب غالباً هو الذي سيحدد مستقبلاً من الأحق بالبقاء ومن الذي يستأهل الموت والاندثار. «تايم» كانت قبل عشرات السنين أحد المصادر الرئيسة للأخبار في الإعلام الأميركي، ثم تحولت إلى التقارير والتحقيقات والمقابلات والأخبار الحصرية خلال الـ «30 أو 40» عاماً الماضية، وبعد الثورة المعلوماتية الإلكترونية المتمثلة في الشبكة العنكبوتية اهتمت أكثر بالتحقيقات الاستقصائية والتقارير التي لا تكون لسواها، وما موضوع عائشة الأفغانية إلا واحداً من التقارير التي تهب الحياة المرة بعد المرة لهذه المجلة العريقة، هذه التحولات الصحافية هي في النهاية فهم صحافي لا يختلف كثيراً عن ملء الصفحات بالقصص والأخبار والمقالات.هل هذا ما أود الحديث عنه؟... لا! فعودة إلى البنت الجريحة جسدياً ومعنوياً عائشة، تقول الأخبار إن مؤسسة خيرية أميركية تدعى «جروسمان» تكفلت بعلاجها في الولايات المتحدة الأميركية، على أمل إعادة البراءة والجمال والسحر الشرقي إلى وجهها من خلال سلسلة عمليات تجميل سيقوم بها نخبة من أشهر أطباء التجميل. أمريكا التي تقسو يومياً على عشرات الناس في أصقاع الأرض المختلفة، المذنب منهم وغير المذنب، تعطف أحياناً على ضحاياها أو ضحايا ضحاياها، وتأخذ بأيديهم إلى عالم الأحلام الوردية، وبالتالي تأخذ معهم أنظار العالم كله باتجاه أميركا المتطوعة الحالمة التي وجدت في هذا الكون لتنقذ المستضعفين وتجبر خواطر المحرومين، تفعل ذلك، لا لتؤكد على دورها الإنساني العالمي - وإن كنت لا أنفيه - وإنما لتصنع مفهوماً أممياً يلغي نار الدبابة بضمادة الجرح، وينفي دمار القنبلة في مجاهل الدواء المسكن! وما المحاكمات الصورية التي تجريها لجنودها في العراق بين الحين والآخر لأنهم قتلوا مدنيين عراقيين، إلا تكريساً لهذا المفهوم الذي يقول إن أميركا لا تستخدم الدبابة والقنبلة لمجرد القتل، وإنما لأنهما أحياناً يقومان بدور ضمادة الجرح والدواء المسكن. هل هذا ما أود الحديث عنه؟... لا! فعودة إلى تبني مؤسسة جروسمان الخيرية لعلاج عائشة يمكنني التأكيد على أن جمعياتنا الطبية وغير الطبية العربية لا علاقة لها باستراتيجيات رسم الصورة العربية عالمياً، بل إنها إذا ما نظرنا إلى خريطة الأزمات والكوارث العالمية، لا نجد لها أثراً أبداً، لو أن جمعية عربية انبثقت من تحت الرماد وتبنت حال «عائشة» وتكفلت بعلاجها في أي مركز طبي عربي متطور، لأسهم هذا الأمر في رفع أسهم صورة العربي «وبالتالي قضاياه» في تشيلي وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا وكندا وجنوب أفريقيا وغيرها من بلدان العالم، لو حدث هذا الأمر لكانت قضايانا العربية أقرب إلى التأييد منها إلى الإهمال العالمي. الأشياء الصغيرة غير المتوقعة تحدث في العادة أثراً كبيراً في ذاكرة العالم التي لا يمكن الوصول لها بالطرق الدعائية المباشرة.هل هذا ما أود الحديث عنه؟... لا! فبمقارنة المساهمات الخيرية لجمعيات الغرب ورجال أعماله، مع مساهمات رجال أعمالنا في السعودية، يتبين حجم الفرق ما بين من يريد صلاح مجتمعه ومن يريد صلاح نفسه، معظم رجال الأعمال السعوديين «هناك استثناءات» يكنزون الريال فوق الريال وعندما يذهب بهم العمر إلى مناطق نائية، ينتبهون إلى آخرتهم، فيبنون مسجداً أو مسجدين ويحملون كفنهم إلى الآخرة، يبحثون عن مصالحهم الأخروية ويتركون الدنيا لورثتهم الذين يمشون على الطريق نفسها إلى آخر العمر، تاركين المجتمع نظيفاً من أعمالهم الخيرية، باستثناء مسجد واحد صغير يشهد على أنانيتهم![c1]* كاتب سعودي[/c]