ما زالت العلاقة بين جماعات الإسلام السياسي المعتدلة والمتطرفة موضع جدل يبحر فيه المجادلون بلا شطآن في معظم الأحيان. فمن قائل إن الكل سواء وإن اختلفت الأساليب، إلى من يرى أن المعتدلين غير المتطرفين، يتواصل الجدل بطريقة دائرية فلا يصل إلى نهاية وإنما يعود دائماً إلى نقطة البداية. وهكذا بلا جديد يذكر في اتجاهات الجدل وقضاياه.غير أن جديداً أدخله مؤخراً على هذا الجدل أستر كروك مدير مركز (منتدى الصراعات) في لندن عندما طرح فكرة تتلخص في أن عدم إدماج الجماعات الأصولية المعتدلة في الحياة السياسية والتفاعل معها بشكل إيجابي يمكن أن يدفعها إلى خانة أقصى التطرف ممثلاً في شبكة ''القاعدة''.ولا تختلف هذه الفكرة في جوهرها عما يعتقده أركان ''المحافظين الجدد'' في واشنطن، وهو أن مشاركة الحركات المعتدلة مثل ''الإخوان'' في الانتخابات واندماجهم في العملية السياسية يؤدي إلى توسيع الصراع بينها وبين متطرفي ''القاعدة''.وقد بدا كروك، في طرحه هذا، وقد تأثر كثيراً بما سمعه من ممثلين لبعض الجماعات التي أشاد باعتدالها في لقاءات عقدها معهم على مدار عام 2005 ، واعتمد في شرحه لهذه الفكرة على افتراض تعامل معه كما لو أنه حقيقة ثابتة، وهو أن الجماعات التي أشاد باعتدالها تقع تحت ضغط متزايد من أعضائها الشباب لاتخاذ موقف أكثر تشدداً قد يدفع هذه الجماعات إلى حضن ''القاعدة''.هذا الافتراض قد يصح وقد يتبين خطؤه، ولذلك فهو ليس ما يستحق المناقشة في طرح كروك الذي يثير الانتباه فيه أنه خضع لتأثير شديد من ممثلي جماعات الإسلام السياسي الذين التقى بهم بالرغم من أنه مسؤول سابق في الاستخبارات البريطانية، وبالتالي مدرب على التعامل مع كل أنواع البشر بقدر كافٍ من الحرص والحذر.فالمهم، هنا، هو مناقشة فكرته الأساسية عن إمكان ارتماء جماعات إسلام سياسي معتدلة في أحضان ''القاعدة''، فهذه فكرة لا تسندها حقائق العلاقات بين جماعات الإسلام السياسي والأسس المعرفية التي تقوم عليها ونظرة كل منها إلى نفسها وإلى الأخريات منها. ولا يرجع ذلك إلى أن الفجوة بين من يعتبرون معتدلين ومن يوصفون بالتطرف غير قابلة للتجسير حسب ما يعتقده البعض. فالسبب الذي يجعل فكرة ارتماء جماعة إسلامية معتدلة في أحضان جماعة أخرى متطرفة غير واقعية هو النفي المتبادل.فالعلاقة بين ''القاعدة'' و''الإخوان المسلمين'' مثلاً ليست فقط عدائية ولكن أيضاً إقصائية. خذ مثلاً الشريط الذي سجله الرجل الثاني في ''القاعدة'' أيمن الظواهري، وبثته إحدى الفضائيات في أوائل يناير الماضي، وتحدث في قسم منه عن النتائج التي حققها ''الإخوان'' في الانتخابات البرلمانية المصرية الأخيرة.لقد تحدث عن جماعة ''الإخوان'' بكثير من التعالي، وأخذ يغمز ويلمز، واعتبرها ''منتسبة للإسلام'' واتهمها بأنها استغلت حب المسلمين للإسلام فاستغفلتهم. وبدا الظواهري، في حديثه هذا، كأنه يكتب فصلاً جديداً في كتابه المشهور ''الحصاد المر'' الذي قال فيه عن هذه الجماعة ما لم يقله أشد خصومها في مصر. ووصل، في شريطه، إلى حد اتهامها بأنها جزء من المشروع الأميركي للمنطقة، وأن الأميركيين هم الذين حددوا عدد المقاعد التي حصلت عليها في الانتخابات المصرية الأخيرة.هذا الميل الإقصائي الحاد هو امتداد لعدائه تجاه ''الإخوان'' منذ أن كان زعيماً لتنظيم ''الجهاد'' في مصر قبل أن يتحالف مع أسامة بن لادن ويؤسسا ''الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين'' في عام .1998 فالعداء بينهما بدأ محلياً في مصر، ثم اكتسب طابعاً دولياً عابراً للحدود والقارات.و''الإخوان'' بدورهم يبادلونه العداء لأن كلاً من الطرفين يريد احتكار استغلال الدين وحرمان الآخر من هذه الميزة. ولذلك فلا مفارقة في موقف الظواهري ضد ''الإخوان'' بخلاف ما ذهب إليه بعض قادتهم رداً عليه، مثل عصام العريان الذي قال إن المفارقة في موقف الظواهري أنه بهجومه هذا (انضم إلى غلاة العلمانية). فليس هناك مفارقة ولا يحزنون. والظواهري لم ينضم إلى العلمانيين ولا إلى غيرهم، وإنما أعاد إنتاج موقف أصولي أصيل هو معاداة كل من ينافسه في استغلال الدين أو يتفوق عليه فيه. وقد تفوق ''الإخوان'' بالفعل على الظواهري، بل على أنفسهم، في قدرتهم على استغلال الدين في الانتخابات الأخيرة في مصر.ولذلك شعر الظواهري بالخطر، فانبرى يهاجم ''الإخوان'' ويتهمهم بأنهم لم يحصلوا على المقاعد التي حصلوا عليها في مجلس الشعب المصري إلا بضوء أخضر أميركي. فرد عليه العريان بأنه يردد مزاعم الأميركان عن أن مشاركة ''الإخوان'' في الانتخابات خطر على الديمقراطية.وهكذا تنابذ الظواهري والعريان بالأميركان، واتهم كل منهما الآخر بأنه يقف معهم أو يخدم مصالحهم. وليس هذا التنابذ إلا محاولة من كل منهما لتسديد ضربة قاتلة ضد الآخر من أجل هدف محدد هو إضعافه والحد من قدرته على استغلال الدين.فالمعركة بينهما، كما بين معظم الإسلاميين، هي على من يحتكر استغلال الدين، ولذلك فهي معركة اجتثاث وإقصاء متبادل، وليست خلافاً على مواقف أو سياسات. الظواهري يحاول فضح ''الإخوان'' حتى لا يصدقهم أحد عندما يستغلون الدين في التأثير على الناس. والعريان يسعى بدوره إلى تسخيف منطقه والهجوم على تنظيمه أكثر من تشريح مرجعيته. وليس في إمكان ''الإخوان'' حتى الآن الطعن في مرجعية الظواهري لأنهم لم يأخذوا أي خطوة يمكن أن نعتبرها حاسمة باتجاه القطيعة المعرفية مع ''القاعدة'' والحركات الإسلامية القطرية التي ترتبط بها.لقد حرص ''الإخوان'' على التمايز عن ''القاعدة'' وليس القطيعة مع مرجعيتها، فهم يكتفون بإعلان أنهم ينبذون العنف الذي تمارسه ''القاعدة'' وتحض عليه، ويقولون إنهم مع العمل السياسي، وهذا تمايز وارد بين أي طرفين تحت المظلة نفسها. والمفارقة، هنا، أن ''الجماعة الإسلامية'' في مصر التي كانت ضمن معسكر الإسلام السياسي الأكثر تطرفاً، ونفذت معظم عمليات العنف منذ أواخر الثمانينيات وحتى عام ،1997 أحدثت قطيعة مرجعية مع ''القاعدة'' ضمن المراجعات الفكرية والفقهية الواسعة التي قامت بها وتراجعت بموجبها عن منهج العنف. فقد جاءت مراجعات ''الجماعة الإسلامية'' في عدة كتب من بينها كتاب أساسي لبيان حكم الشرع في فكر ''القاعدة'' ومرجعيتها وممارساتها. غير أن ''الإخوان'' لم يذهبوا إلى هذا المدى في خلافهم مع ''القاعدة''، ولو أنهم ذهبوا لربما قل ميلهم الشديد إلى محاولة إقصائها خارج دائرة الإسلام السياسي.وفي ظل هذا الإقصاء المتبادل يستحيل أن تصح نبوءة أستر كروك عن إمكان ارتماء ''الإخوان'' باعتبارهم الحركة الأهم بين قوى الاعتدال الإسلامي في أحضان ''القاعدة''. وهذا الميل إلى الإقصاء قد نجده عند الأفراد أيضاً في الغالب الأعم، خذ مثلاً العلاقة بين كثير من شيوخ الأزهر ومن يطلق عليهم الدعاة الجدد. فهؤلاء الدعاة في رأي الشيوخ هم مدعون بلا علم ويجهلون الدين. وما هؤلاء الشيوخ إلا ''خشب مسندة'' في رأي كثير من الدعاة، ولذلك نجد، مثلاً، بعض الشيوخ يسعى إلى اصطياد خطأ هنا أو هناك في حديث أو آخر لهذا الداعية الجديد أو ذاك.أخطأ مرة أحد أشهر هؤلاء الدعاة الجدد (عمرو خالد) في رواية قصة سيدنا موسى مع ابنتي العبد الصالح، فانهال عليه بعض الشيوخ شتماً وتقريعاً وليس فقط نقداً وتصحيحاً.أليس الإقصاء المتبادل، إذن، قاعدة غالبة في العلاقة بين منظمات الإسلام السياسي وأفراده أيضاً؟* نقلا عن صحيفة "الاتحاد" الإماراتية
|
مقالات
الإقصاء المتبـادل بيـن الإسلاميين
أخبار متعلقة