سعيد محمد سالمينالقصة القصيرة في الأدب سجل للمشاعر الإنسانية،وفن بالغ الحساسية،فهو جرعة مركزة كل شيء مستخدم فيها بقدر دقيق،إنها تأخذ الكثير من اللغة الشعرية المستخدمة في القصيدة وتقتنص لحظة من لحظات الرواية ولكنها ليست كأي لحظة وإنما تجمع في ثوانيها المعدودة الماضي والحاضر والمستقبل وتأخذ الموسيقى لمسة من الإيقاع اللاهث،ومن علم النفس شخصياتها المنفردة الوحيدة دوما،إنها فن الفنون في صورة مكثفة،لذلك فإن التعامل مع هذا الفن يتطلب نوعاً من المهارة الخاصة.يميل البعض إلى اعتبار القصة القصيرة أحد الفنون الجديدة الوافدة علينا،بل أن كثيراً من النقاد الغرب الغربيين يميلون إلى أنها هي أيضاً أحد الفنون التي ارتبطت بصعود الطبقة الوسطى وظهور سكان المدن بمعناها المعاصر،ففي المضمون هي تركز على الإنسان المفرد،المختلف الذي قلما نجد له نظيراً في الواقع.وقد كان تشيخوف وهو واحد من أفضل كتاب القصة القصيرة يقول:(كلنا خرجنا من معطف(جوجول) )وهو يعني بذلك قصة المعطف الشهيرة التي ألفها نيكولاي عن ذلك الموظف البائس الذي كان يعيش في أحد أقبية مدينة بطبر سيرج الباردة والذي حلم كثيراً بمعطف دافئ من الفرو،فأخذ يجمع الروبل على الروبل حتى تحقق حلمه أخيراً،وأشترى المعطف وإذا به في اليوم الأول من إرتدائه،يفاجأ بأحد اللصوص وقد انقض عليه وأخذه من فوق كتفيه.لقد تجمد الموظف المسكين من شدة البرد والأسى،ولكن شبحه ظهر في الشوارع يطارد الناس،ويأخذ من فوقهم كل معاطف الفرو التي يتدفؤون بها.بهذه القصة بدأ- في رأي البعض- تيار القصة القصيرة،حتى أن فرائك اوكونور يقول في كتابه المهم(الصوت المنفرد)إنها فن الجماعات المعزولة التي لا تجد من يعبر عنها.فالرواية هي فن تجسيد الحياة وإعادة روايتها مرة أخرى،وهي شهادة على عصرها،في زمن مايمكن أن نقرأ من خلالها حركة المجتمع .أما القصة،فهي تغوص داخل ذات الفرد لتجسد مواجهته الدائمة للأسئلة الصعبة التي يطرحها عليه الكون والحياة.وهي ليست ابنة المدينة كالرواية ولكنها ابنة المجتمعات الصغيرة التي يتكون منها معظم عالمنا العربي،والعمل هذا أحد أسباب ازدهارها يقول الدكتور إحسان عباس. ويخالف البعض هذا الرأي،إذ يصرون على أن للقصة جذوراً بعيدة موغلة في القدم،تعود في الأدب العربي إلى خرافات إيسوب ذلك الكاتب اليوناني الذي صاغ الحكمة على ألسنة الحيوانات ونجد مثيلاً لهذا الأمر في كتاب(كليلة ودمنة)الذي نقله ابن المقفع عن الفارسية،كما نجد أيضاً في عشرات الأخبار الصغيرة أن نشأة القصة الغربية الحديثة مدينة في أسسها للأدب العربي.ففي عام1253 ميلادية،وفي عصر الملك الفونسو العاشر ملك أسبانيا ترجم إلى اللغة القشتالية(كتاب مكائد النساء وحيلهن)وهو عبارة عن26قصة قصيرة وكان هون الأساس الذي بنى عليه الكاتب الإيطالي الشهير بوكاشيو وكتابه(الديكاميرون).وهي تعني الليالي العشر التي تصف كيف انتشر الطاعون في إحدى المدن الإيطالية وأخذوا جميعاً- رجالاً ونساء- يقصون على بعضهم القصص المختلفة عن الحب والعشق وخاصة عن الحيل التي يتبعها الأزواج أو الزوجات لخيانة شركائهم.في(الديكاميرون)نشأت القصة على اعتبار أن فن القصة يشمل الرواية أيضاً- بمعناها المعاصر انتقلت من البلاد المغلق إلى عالم المدن الصغيرة،وجاء اختراع المطبعة وانتشار الصحافة بعد ذلك لتتحول القصة إلى سلعة مطلوبة ووسيلة ضرورية للتعبير عن لحظات القلق والحزن والسعادة في حياة الإنسان .ولعل تاريخ تطور القصة على يد ثلاثة من أهم أفرادها هو الذي رسخ هذا الاتجاه،فمن الغرب جاء لجعار آلن بو الأمريكي شاعر سوداوي النزعة يميل إلى الوحدة والتفرد ليكتب قصصاً غريبة مليئة بقصور القرون الوسطى بكل ما فيها من أرواح هائمة معذبة وعشاق ينسجون وشائج علاقاتهم بالدم..وربما كان إدجار آلن بو هو رائد قصص الرعب والتشويق التي ما زالت تخاطب النفس حتى الآن ومن أوروبا جاء الكاتب العزيز الإنتاج جي دي موباسان الذي ألف حوالي35مجلد مليئاً بالقصص القصيرة،وشرح من خلالها العديد من أنماط المجتمع الفرنسي.ولكن اكتمال القصة المعاصرة كان- بلا شك على يد ذلك الكاتب الذي جاء من أصقاع روسيا الباردة انطون تشيخوف الذي دخل باب القصة القصيرة من باب تعاطي الرزق حين كلفته إحدى الصحف بأن يكتب لها كل اسبوع قصة فكهة يسلي بها القراء،ولأن موهبته كانت فياضة فقد تحولت هذه الحكايات إلى قصص قصيرة رائعة مليئة بالسخرية.هناك العديد من فرسان القصة القصيرة،ولكن تم التركيز على هؤلاء الثلاثة ليست بسبب ريادتهم لهذا الفن فقط،ولكن لأن كل واحد منهم ترك طابعه المميز عليها وقد دعاء هذا بعض النقاد للقول إنه لا توجد قواعد للقصة القصيرة،وإنما كل كاتب عظيم يكتب بقواعده الخاصة.ولكني اعتقد أن هناك قواعد أساسية يجب على الأقل أن يتوافر بعض منها في كل قصة جيدة.أول هذه القواعد هو وحدة الانطباع،فالقصة القصيرة عليها أن تسعى منذ السطور الأولى إلى هدفها،لا تتشتت ولا تشتت ذهن القارئ معها،ولكن يجب أن تنظمها جميعاً وحدة شعورية واحدة،لا تتعدد فيها الشخصيات أو الأماكن،وكما أنها تصور لحظة قصيرة يمكن اختصار أزمنة عديدة فيها تتعرض لها..كما أن نسيجها اللغوي يكون مختلفاً،يساهم في خدمة الشخصية الرئيسية حيث تفكر اللغة بنفس الطريقة التي تفكر بها شخصية القصة،وأن تكون اللغة في خدمة المضمون.كما أن القصة يجب أن تهتم بالشخصية بأبعادها الجسيمة وأبعادها العقلية والنفسية والاجتماعية أيضاً.وكذلك لابد من ألأن توجد العقدة التي تواجهها هذه الشخصية والتي تظهر من خلالها كل سماتها النفسية والتي تؤدي إلى الصراع الدرامي.وليست بالضرورة أن تجتمع كل هذه القواعد معاً في قصة واحدة،ولكن على الأقل تحرص على البعض منها حتى لا تفقد القصة روحها وتتحول إلى مجرد مغامرة نثرية لا نطلق عليها قصة بل كلمة(نص)كما يفعل الكثير من شباب القصة هذه الأيام.أما في عالمنا العربي فهناك الكثيرون الذين يدعون ريادة فن القصة القصيرة،وتختلف الأسماء ويختلف تواريخ نشر أوائل القصص:هل و محمد تيمور من مصر أو هو ميخائيل نعيمة من لبنان؟ولكن يكفي أن نقول إنها جاءت من عالم المقامات لنجد وسيلة للتعبير عن ذاتنا حتى ولو جاء القالب من الخارج.خلاصة القول:أن القصة القصيرة تتصل وتعبر عن الذات الفردية في مواجهة أسئلة الكون العويصة إنها لا تعبر عن مجموعات بشرية،ولكنها تعبر عن أفراد بعينهم بكل ما فيهم من سواء من شذوذ،ولهذا ازداد عدد كتاب القصة القصيرة في عالمنا العربي ازدياد كبيراً ولا يحدث هذا لمجرد أنها الفن الأسهل بل لأنها الأقٌرب للتعبير عن بيئات عربية مازالت منغلقة على نفسها.والكُتّاب يجدون في هذا الشكل إحدى وسائل الانعتاق والتعبير عن هذا الأسر.
أخبار متعلقة