الإبداع والسيادة في شعر محمد سعيد جرادة
الطيب فضل عقلانمحمد سعيد جرادة من مواليد 1927م في مدينة الشيخ- عدن،له ستة أولاد،درس اللغة العربية على يد فضيلة المرحوم الشيخ أحمد محمد العبادي ثم شق طريقه في حياة الأدب والمعرفة بفضل مجهوده الشخصي في القراءة والإطلاع بدأ قول الشعر في سن الثالثة عشرة.اشتغل في سلك التدريس قرابة 25 عاماً ثم موجهاً فنياً ثم مديراً للتوثيق التربوي فباحثاً في المركز اليمني للأبحاث الثقافية واختتم مشواره العملي مستشاراً بوزارة الخارجية اليمنية (في اثيوبيا) نال وسامين في الآداب درجة أولى.صدر له من المؤلفات،الأدب والثقافة في اليمن عبر العصور،أعلام من الأدب العربي،ديوان (مشاعل الدرب)،ديوان (لليمن حبي)،ديوان (وجه صنعاء)،ديوان (أرض الشعر)، (وحي البردة).لفترة من الزمن غابت عن عدن الحركة الوطنية وغاب الشعر المقاوم والتمردات الشعبية في وجه الاحتلال البريطاني ولم تظل عدن صامتة لفترة طويلة حيث أن حركة المقاومة انطلقت وبدأت تعبر عن نفسها وظهرت أسماء لامعة وفطاحلة في الشعر وتعتبر تلك البدايات الأدبية للشعر الوطني ومنهم شاعرنا الأستاذ محمد سعيد جرادة.وفي عام 1943م كان جرادة من أهم الأصوات التي ظهرت بتلك الفترة وأسست التجمعات والنقابات والمؤتمرات الشعبية التي تعادي الإمامة وتقف ضد الاحتلال الأنجلو سلاطيني وكان محمد سعيد جرادة يدعو جهراً إلى الوحدة اليمنية من خلال قصائده الوطنية ويحلم بقوة بتحرير (الجنوب) حتى أنه كان يظن أن الإمام أحمد قد يساعد (الجنوب) لينال استقلاله ويناهض المستعمر فمدح الإمام أحمد.إن الجنوب ليرتجي بك وثبــة تعليه من درك الحضيض المعتمإن الجنـوب لينبغــي بك نهضــة تبنـيـــه بعـــد تدهــــور وتـهـــــــدمأبنــاؤه وفــدوا إليــــك وكلهــــم يهوى السماع إلى زئـيــــر الضيغــــمليسوا ضيوفاً بل جند تنضــــوي فـي الـــروع تحت لوائــك المتقــــدمولو رجعنا إلى قصائد محمد سعيد جرادة نراها تحمل روح القضية الوطنية ليس في تطورهم الفكري بل نجد فيها أسرار تلك الفترات التي يصعب على الإنسان العادي أن يصل إلى عمقها وكان الجرادة من مجموعة شعراء بارزين عبروا عن اتجاهاتهم السياسية والوطنية.وفي مقدمة الأستاذ عبد الرحيم الأهدل للمجموعة الكاملة الجزء الأول لشاعرنا(إذا كان الشعر دقة خيال ونبضات قلب ونفحة روح وإشراقة وجدان وتدفق إحساس ورقة مشاعر ولمسات جمال وكهربة عواطف يسري تيارها في النفس يغمرها نشوة ومتعة ويفعمها لذة وبهجة فإن شعر محمد سعيد جرادة هو الرسم الصادق لهذا الشعر الأصيل،فشعره عميق وطيد الصلة بمناخه متألق في رؤاه يستخدم ألفاظه الشعرية الموحية ومجازاته التي تعقد الصلة بين الأشياء في خدر ورقة موضحاً جوهر المعاني،وفي شعره يرجع إلى الصياغة الفنية الموروثة في حس وينميها نمواً جديداً)).ارتبط شاعرنا الكبير بالأرض والإنسان كقضية وانتماء كابن قرية فهو يخاطب صناع الخير الفلاحين بتحفيز لعشق الأرض وإفساح الأمل الجميل وخاصة للمعاناة التي ظلت ردحاً من الزمن:غدا يسر الربيع البكر يا فلاح في الحقلغدا تصحو على فجر ندي وارف الظلأتذكر أيها الفلاح عهد الضيم والهونوحكما دام نصف القرن في ظل الشياطينولا يذهب بعيداً فهو يخاطب (الفدائيين) الذين يقارعون المستعمر ويرفضون الخضوع: الطفل يسأل أمه عن ثأئرحمل السلاحاكالطيف يسري من شعاع النجم متخذاً جناحاويهب كالإعصار حينا يسبق القدر المتاحاأمست يداه تداعب الرشاش تسأله النجاحاوقد أشاد بدور المرأة وانخراطها في خضم الصراع ضد المستعمر المحتل،ففي قصيدته التي كتبها في عام 1963م (ثائرة من ردفان):فاتنة منعمة كالزهرة المبتسمةتقلدت رشاشها والمدية المعلمةتقدمت موكبها لبؤة منتقمةيا بنت ردفان تحيات القوافي الملهمة وفي السبعينات وحول انتخابات المجالس المحلية قال قصيدته الرائعة (لك يا جموع) وهي تناسب أحداث اليوم في انتخابات المجالس المحلية في ظل الوحدة الوطنية العظيمة:لك يا جموع الشعـب إنشـــادي نغماً يسافر في فمي الشــاديوعصائب الأمــــراء يلعنهـــــم تاريــــخ آبـائـــــي وأجــــداديفي كل شبر شبــه سلطنــــــة تحني الجبيـن لشـــر جــــلاديجمعوا علـى وعـــــد لفرقتنــــا وتفرقـــــوا من غير ميعـــــادِ ذهب الجميع وعاش بعدهـــم يمن الأبـاة الثائــــر الفــــــاديوتأكيداً للوحدة الوطنية التي سرت مجرى الدم في عروق وقوافي الشعر قال في الخمسينات قصيدة (إنسان اليمن) متفائلاً وحالماً بوحدة الوطن..كعز وشرف للإنسان:صنعاء لاحت فيه..يحضن جفنها طيفاً بتوحيد السعيدة يحلمويـــزل الإعصــار في سبتمبـر عرش الطغاة فيجثمون ويجثمويشع في أكتوبر الفجر الــــذي تصحو لو مضته العيون النومصنعاء أيقضها النـــداء فآنســت عرساً ومات بناظريها المأتموتسلمت عدن المصيـــر ودربهـا متأجج الساحات يصبغه الدموالوحدة الكبرى أجـــــل قصيـــدة يصغي لها هذا السواد الأعظملقد كان شاعرنا مناضلاً جسوراً قارع الاستعمار البريطاني وفضح كل ألاعيبه فعندما عطلت حكومة الاحتلال البريطاني دستور ما يسمى بالمجلس التشريعي لعدن وخلقوا دستوراً (مسخاً) صرخ شاعرنا بقوة:عطلوا الدستور في هذا البلـد فهو ثلــج ذاب إذ كــان جمــــدفلقـــد شكلتمــــوه صـــــورة لا تثير العشق فــي قلب أحـــدعـدن يا تـــاج بلقيس الــــذي بسنى السؤدد والمجـد اتقــــدفادخــر حقـــدك للعقبـــى إذا عبــأ الشعــب قــــواه واتحــــدوظل يقارع طلوع المستعمر وإحتقار وجوده بوطنية واعتزاز:أيا مــن خضعنا لسلطانكم سئمناكم واعترانا الضجركفاكـــم بقاء طويلاً أســـاء إلينا وأكرم منه السفــــــردعونا نشاهد شعاع الصباح وسحر الأصيل ونــور القمردعونا نظن بأنـــــــا أنـــاس دعونا نحس بأنــــا بشــــر(إن شاعرنا العملاق الأستاذ محمد سعيد جرادة قد استطاع أن يصل إلى أعلى المراتب وأن يتربع عرش الشعر والأدب في اليمن،وأثبت في الخمسينات قدرته الفائقة في تهيئة الجماهير وتوجيهها لخوض نضالها العادل وبدء من سبتمبر 1962م برز الجرادة كباحث أدب ينبش لنا من أعماق التاريخ الثقافي لليمن- من مقدمة ديوان لليمن حبي- للأستاذ محمد عبده نعمان الحكيمي..)عن الوطن/بقصيدة (وطني)كان بليغاً بل كانت كلماته دروساً: وطني حملتك في صميم فؤادي كنزاً من الآثار والأمجاد أنا لست حزبياً وأهوى موطني أأقيم حزباً كي أحب بلاديواستمر في مغازلة الوطن:غنيت لحن هواك يا وطني ترنيمة في مسمع الزمنوهتفت باسمك ناشراً عبقاً من أرض قحطان وذي يزنهذا صباحك شعّ،بسمته وضاءة في ثغرك الحسنيمناه تورق بالربيع لنا وتوزع الخيرات لليمنوبحُرقة المحب للوطن خاصة بعد أحداث13 يناير المشؤومة 1986م نتذكرها هنا لنذكر الرفاق الذين يلملمون فلولهم المتبقية للعبث بقدسية الوحدة العظيمة..قطعنا مسافاتها الحالكات على ألسن اللهب المشرعه على جثث كوّمت في الطريق تلا لًاً تبث الرؤى المفزعـهفجادهم وابل من رصاص لاقى بها كلهم مصرعهبلادي احترقت بنار الخلاف سحقاً وبعداً لمن وسعهمشيت على ظهر أرضي الخراب أذرف أدمعي الطيعةالوف بنيها ثووا في القبور ليل مأساتها الموجعهوكم حامل وضعت حملها وريعت بمولودها مرضعهسأ بكي بلادي وأدعو لها بعود ربيعاتها الممرعهوعود عصافيرها للغناء وعود المياه إلى المزرعةولشاعرنا الكثير من الشعر الوصفي والمديح والرثاء والتهاني وكانت أعماله مترابطة فكرياً ولم يكن مسرفاً في الزخرفة وكان متحكماً بشكل رائع باللغة حتى أصبح وبجدارة حجة ومرجعاً،وحتى يكون للوداع نكهة المحبة فقد لكم قصيدة (وقفة) التي شذا بها الفنان الكبير محمد مرشد ناجي...محمد سعيد جرادة يحتاج إلى أكثر من قراءة ودراسة ولكني فقط أتذكر هذا العملاق خاصة وأن لله قد أكرمني بصداقة وأخوة جميلة بالشاعر (هاني) ابن الشاعر الذي قال عنه والده في عام 1954م يوم مولده..جئت يا هاني فأفعمت حياتي بالجمالونفيت اليأس عن نفسي وآثار الملالأي بنى أسمع وصاة قد ترى فيها دليلامن أب قد مارس الآفات والهول المهولالا تعش كالبوم نعابا وغرد كالهزارواقتبس فتك من أفق المعالي والفخار[c1]وقفة (عام 1954)[/c]هي وقفة لي لست أنسى ذكرها أنا والحبيب في ليلة رقصت من الأضواء في ثوب قشيبلما التقينا والجوانح لا تكفَّ عن الوجيب بعواطفي المتكبرة ومشاعري المتفجرة وشرود وجداني الكئيبجو غنائي سبحنا لما اقتعدنا الرمل في محيط سناهلمعت بأيدنا الكؤوس قفر ترامى جانباهلكنه لمح اكتئابا وأجرت النغم الشفاهفرنا إليّ مسائلاً في لم يعرف مداهدمع بجفني لم يره وأسى بصوتي أنكره فمضى يلح ولا يجيب ودنا ألي وللتأثر في لواحظه بريق يلقي إلى سمعي حديث الحب في همس رقيق ولصوته السحري موسيقا لها وقع عميق تنساب موجات من الألحان في الجو الطليق من مبسم قان أذيب ألشهد فيه والعقيق وجد دفين أظهره وشعور قلب صوره لم يخش من كيد الرقيب ورأيته سحر الجمال وفتنة الغزل الخصيب والبدر يغمر وجهه الفتان بالنور الصبيب والخمر قد عكست على وجناته شفق المغيب فضممته في لوعة حرى وفي عطف الحبيب وعببت من شفتيه خمراً ليس تسكر بل تذيب حب بكأسي أسكره وشذى بزهري عطره زهوي وقاه اللهيب [c1]المراجع:[/c] عدن في عيون الشعراء / الدكتور أحمد علي الهمداني الأعمال الكاملة للشاعر محمد سعيد جرادة (الجزء الأول)