إشراقة
كثيراً ما كانت جدتي ـ طيب الله ثراهاـ تردد على مسامعنا إذا أجهد أحدنا نفسه من دون فائدة تعود عليه، «حمار مات بكراه» (أجرته) ويردد آخرون «حمار القارة» والقارة هي أبرز مناطق يافع وقد صار المثل يطلق على حمارها الذي يجلب الماء من أسفل إلى أعلى وعند وصوله يقوم بشرب ما جلب من الماء بمفرده دون أن يستفيد منه الآخرون..والحال يمكن إسقاطه على الواقع الذي آل إليه حال الصحفيين الذين يتحملون معاناة الآخرين ويحملون أوزارها ويعبرون عنها ولا أحد يساعدهم في حمل همومهم أو التعبير عنها.نحو ثمانية عشر عاماً ومعاناة الصحفيين في وسائل الإعلام الرسمية تزداد سوءاً حتى غدت كالجبال تنوء بحملها كل الملفات.ذهبت نقابة وأخرى وجاءت ثالثة والرابعة على مشارف الرحيل.. وتعاقبت أكثر من عشر حكومات حتى الآن ولايزال حلم الصحفي في تحسين مستوى معيشته معلقاً على حبال من خيوط العنكبوت في الهواء.أضرب الكثير من عمال وموظفي قطاعات الجهاز الحكومي لنيل حقوقهم .. أضرب المعلمون والأطباء وعمال وموظفو الصحة، وأساتذة الجامعة.. وغيرهم كثر.. وكان للصحفيين دور كبير بالضغط وشرح قضية هؤلاء .. ونالوا حقوقهم.. ليس بمقدور الصحفي في أي وسيلة إعلامية رسمية أن يضرب أو يعتصم لنيل حقوقه، وهذا ما تدركه الحكومة التي تعاملت جهاتها المختصة مع هذه المسألة بنوع من البرود بعكس قطاع التربية والصحة والجامعة الذين أصابها إضرابهم في مقتل، حين أغلقت المدارس وعطلت المستشفيات وأوصدت قاعات الجامعات.. لكن من يجرؤ أن يوقف بث الإذاعة أو التلفزيون لدقيقة واحدة.. دقيقة فقط.. أو يعرقل صدور عدد من صحف الثورة أو أكتوبر أو الجمهورية.. حيث وأن المسألة عندها تتجاوز ما يمكن الاتفاق عليه من وسائل ضغط للحصول على الحقوق إلى ما يمكن تأويله بتفسيرات أخرى قد لا تفقد هذا الصحفي المسكين حقه، بقدر ما تلحق به الأذى.لا نريد كصحفيين عيشاً رغيداً، مع أننا أشد قطاعات العمل تعباً ومعاناة وأقلها أجراً.. ومن حق الصحفي أن يحصل على ما يعينه على كفاف العيش ولا يدعه يبحث عن موقع آخر يشحت فيه قوت أطفاله .. مع العلم أنه بمقدور أي موظف آخر الجمع بين وظيفتين ليرفع من دخله حتى يتمكن من العيش إلا الصحفي فليس بمقدوره ذلك إطلاقاً لعدم وجود الوقت لديه ولما تفرض عليه مهنة الصحافة من حمل هموم الآخرين والانشغال ليل نهار، وإلا لما سميت بمهنة المتاعب؟!إذن نرى وقد انتظر الصحفيون أعواماً طويلة ما سمي بـ «الهيكل» عفوا ليس محمد حسنين الكاتب المصري، لكنه هيكل الأجور، وفيما استفادت قطاعات واسعة من هياكلها فقد شرب الصحفيون من البحر، ولما جاءت إستراتيجية الأجور تبدلت المسميات والهم واحد حتى ينسى الصحفي مأساة الهيكل، ابتدع لنا الحاذقون مسمى «التوصيف» الوظيفي.. ومثلما فقدنا العشرات من أرباب الحرف وهم ينحتون الصخر بانتظار الهيكل، فأخشى أن يلحق بركبهم الآخرون من دون أن يذوقوا لا بلح «الهيكل» ولا عنب «التوصيف» .. ويستثني من ذلك مجلس النقابة الذين انصبت اهتماماتهم في عوالم «الرزق»الأخرى وما أحسنهم مع دنو مؤتمر النقابة وطريقة تذللهم وانبطاحهم لشحت أصوات الصحفيين من أجل الفوز.لا عزاء لكل زميل وقد ارتضى هذه المهنة التي عليه أن يتحمل ويلاتها.. وأرجو قلوبهم ألا تحزن مثل قلبي حتى وإن انفطرت على الحلم!!