اللون في شعر "عبدالله بن المعتز" 247هـ / 296هـ
[c1]* (الحلقة 4 / 4) الجزء الثاني[/c]يعد (ابن المعتز) الحلقة الأخيرة في سلسلة تجديد الشعر ، في العصر العباسي الثاني ، فعلى يده تحول الوصف إلى صور فنية ، لتجعل منه أستاذ (مدرسة الصورة) ، حيث شغل النقاد بصوره الأرستقراطية ، التي هي صدى لتكوينه ونشأته ، ففتح بذلك للشعراء آفاقاً جمالية ، ظلت مثار اهتمام ، وباعث اقتداء ، لما حوته من إبداع التصوير وروعة التلوين في مجال شعر الطبيعة ، الذي احتل (ابن المعتز) قمته..وقد شكل اللون قوام تلك الصور ، التي مثلت لوحات فنية خلابة في خمال الشعر العربي..مثلما اللون عنصر هام في الحياة ، وطاقة يستمتع بها الإنسان ، كان أيضاً مكوناً امتلك في بناء الصورة الشعرية عند (ابن المعتز) ، وذلك لإدراكه أن اللون كلما أمتلك ثراه ، تحقق للصورة كمالها وجمالها ، لتنشأ عندئذٍ عملية التأثير الشعري ، القائمة على التصوير ، أو التقديم الحسي للمعنى ، من خلال الإحساسات البصرية ، التي يحتل فيها اللون (كطاقة مرئية) المركز ، ويمثل العصب ، الذي ترتبط به بقية الإحساسات الإدراكية الأخرى ، لإثارة الصور الحسية في ذهني المتلقي:وكأن حُمرة خده في لونها[c1] *** [/c]وكأن طيب رياحِها من نَشرِه(1)فالصورة البصرية ، المبنية على الطاقة المرئية للون (..حمرة خده في لونها)استقطبت صورة حسية أخرى عطرية (..طيب رياحها..)..ثقافة (ابن المعتز اللونية ، وإحساسه المتميز بالألوان ، جعلته يعي ما للون من أهمية في معرفة مواطن الجمال في الأشياء:وراحٍ كلونِ النبيرِ يضحكُ كأسُها[c1] *** [/c]صبحتُ بها شَرباً كراماً وغَادَيتُ(الديوان ص90)لقد شكلت الطبيعة باقة ألوان مثيرة في تنوعها ، لذا راح(ابن المعتز)يلون بها صوره الشعرية ، بشغف لا يدانيه فيه أحد:وعلى الأرض اخضرارُ[c1] *** [/c]واصفرارُ واحمرارُنقشه أسٌ ونسري[c1] *** [/c]منٌ ووردٌ وبهارُ كأن اللون هو دليل(ابن المعتز)إلى إدراك ما يحيط به من جمال مرئيات الطبيعة ، فإذا به يميز بين مظاهر الطبيعة من خلال ألوانها قبل أشكالها:وبدلتُ منها بعدَ بيضاءَ غضةٍ[c1] *** [/c]بأسود لونٍ كالحٍ حالِكٍ مُرا(الديوان ص17/ 1)النزوع الحسي الجمالي ، والشغف بألوان مرئيات الطبيعة ، حددا لابن المعتز أسلوب صياغته الشعرية التصويرية ، التي تثير "..في المتلقي صوراً يراها بعين العقل"(2)من خلال لغة تحقق إثارة المتلقي ، واستجابته الذهنية لتمثل صور حسية ، عبر ما تنظمه أنساقها من مدركات حسية (صور / أصوات / روائح / ملامس) تقوم بوظيفة التصوير..التصوير هو ما ميز (ابن المعتز) ، وجعله أشد حرصاً على العناية بصوره وأخيلته ، حتى وصف بأنه "...صاحب الصورة الشعرية وسيدها.."(3) لما زخرت به قصائده من صور متلاحقة ، وتشبيهات متوالية:وكأنما حصباءُ أرضكِ جوهرٌ[c1] *** [/c]وكأن ماءَ الوردِ دمعُ نداكِوكأنما أيدي الربيع ضحيتهً[c1] *** [/c]نشرت ثيابَ الوشي فوقَ رُباكِوكأن درعاً مفرغاً من فضة[c1] *** [/c]ماءُ الغديرِ جرت عليه صباكِ(الديوان ص297)التشبيه هو اللون البلاغي الذي أمتلك(ابن المعتز)ناصيته "..فقد شغف به شغفاً شديداً كاد لا يبقى فيه بقية.."(4).وقد أقر له بذلك قدامى النقاد ، كابن في إشارته إلى أن تبن المعتز ".. حسنى التشبيه مليح الألفاظ.."(5).وكذلك ابن منظور في كتابه(نثار الأزهار)في قوله:"..نادر التشبيهات الملكية.."لذلك ، وجدت تشبيهاته وصوره الفريدة الروعة مكاناً لها في كتب البلاغة والنقد ، ككتاب( أسرار البلاغة)لـعبد القاهر الجرحاني..كما وقف المحدثون إعجاباً أمام تشبيهاته ، ليقول عنها مصطفى الشكعة:"..كان لها طعم ومذاق وأحياناً سحر وأرج لم يتهيأ لشاعر أخر أن ينهض بمثلها.."(6). وليصفه شوقي ضيف قائلاً:"..كان ابن المعتز بارعاً في صنع الصور والتشبيهات ، وهي براعة نرى آثارها في كل مكان من ديوانه.."(7).وبهذا ندرك أن التشبيه كان من أهم مرتكزات(ابن المعتز)الفنية ، ليتحول التشبيه على يده إلى وسيلة فنية ثرية طيعة التشكيل ، وميدان واسع ترمح في ساحته خيل خياله.وبذلك استطاع(ابن المعتز)أن ينسج من خيط التشبيه ساحته خيل خياله.وبذلك استطاع(ابن المعتز) أن ينسج من خيط والتشبيه أثواباً متنوعة ، بديعة التفصيل ، جميلة الألوان وروائح ، لتفصح "..عن عبقرية خاصة ونبوغ فردي متميز.."(8) وعن تناغم رائع بين المخيلة والعقل ، وبين الفن والواقع ..فصور(ابن المعتز)إضافة إلى ترفها وأناقتها اتصفت أيضاً بالحياة والحركة ، وبالطرافة ، وأحياناً بالغرابة ، مظهرة إمكاناته الفنية ، وثراء خياله ، وبراعته في تركيب الصورة ، وقدرته على الإحساس الجمالي بالأشياء.كما أنها عبرت عن رؤيته الجمالية.تلك الرؤية التي أضافت من الجمال لجمال الطبعة ما جعلها تسمو على الواقع ، لتبدو وكأنها عالم من الخيال المترف ، بديع التفاصيل وساحر الألوان:انظر إليه كزورق ٍ من فضةٍ[c1] *** [/c]قد أثقلته حمولةٌ من عنبر(الديوان ص195)اهتمام (ابن المعتز) بالتشبيه دفعه إلى التفصيل فيه.غير أن تفصيله في التشبيه ، لم يكن لوصف الشيء وصفاً حرفياً دقيقاً ، وإنما كان من أجل اكتشاف جمال جزيئات الشيء ، أبراز خفاياه وتفاصيله الصغيرة ، وصولاً إلى بنيته الجمالية الكلية ، كوصفه للهلال في البيت السابق (مثلاً) وبذلك يضفي (ابن المعتز) على الشيء من خبرته الجمالية ، ومن رؤيته الفنية ما يجعل المحسوس (المنظور) يرتقي ويسمو على حقيقته ، ليبدو في صورة أجمل من طبيعته ، إذ أن "..المحسوس في الفن يتحول إلى روحاني ، والروح من جهة أخرى تتمثل في شكل حسي.."(9)إن (ابن المعتز) بتفصيله في التشبيه يحلل الشيء إلى أجزاء ، ويحول العالم الحسي المعتاد ، إلى عالم خيالي ، مدهش الصورة ، مثير اللون ، ذكي الرائحة:انظر إلى حسن هـلال بدا[c1] *** [/c]يُهتكُ من أنوارهِ الحندساكمنجل قـد صيغ من فضةٍ[c1] *** [/c]يحصد من زهر الدجى نرجسا(الديوان ص231)وإن أردنا التعليق على البيتين السابقين فلن نجد تعليقاً أدق وأفضل من تعليق (شوقي ضيف) في قوله:"...وهل هناك أروع من هذا الهلال الذي يشبه منجلاً من فضة؟لقد وصف فيكتور هيجو الهلال بأنه منجل من ذهب ، فراع أصحاب الأدب الفرنسي ، ولكن ابن المعتز لا يقف عند هذه الصورة العامة ، بل هو هذا المنجل يحصد نرجسها بأضوائه وأنواره.."(10)إذا ما كانت عملية(التفصيل في التشبيه)تتطلب من الشاعر أن "...يعد نفسه لحاله عقلية مركزة تسيطر وتحكم وتوجه وتقبض على كل ما يراه ضرورياً خبرة نوعية ورؤية فنية ، وقدره على خلق تناغم بين العقل والمخيلة ، بين الذات والمحيط ، في تناول العالم الحسي ، والارتقاء به إلى مرتبة جمالية تحدث الإثارة وتحلق الشعور بالجمال:وانهار ماء كالسلاسل فجرت[c1] *** [/c]لترضع أولاد الرياض والزهر(الديوان ص204)الصورة الفنية ، تبلغ أعلى جمالياتها وإيحاءاتها وتداخل دلالاتها ، حينما يلجأ(ابن المعتز)إلى ألوان بلاغية نوعية للصورة الفنية ، كالاستعارةمثلاًالتي هي أكثر قدرة من التشبيه "...على الإيحاء وإثارة قد أكبر م التداعيات في ذهن المتلقي.."(12)ففي البيت السابق خلع(ابن المعتز)على مظاهر الطبيعة وكائناتها صفات إنسانية لتنجم عن تلك الطبيعة الجديدة ، علاقات جديدة بين مظاهر الطبيعة(..لترضع أولاد الرياحين والزهر)..[c1]المصادر والمراجع : [/c]1- ديوان عبدالله بن المعتز : جمع وضبط وتقديم : (د. عمر فاروق طباع) - دار الأرقم - بيروت - ص (213)..2- د. جابر عصفور : الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العربدار التنوير للطباعة والنشر - بيروت الطبعة الثانية 1983ص (284)3- د. مصطفى الشكعة : الشعر والشعراء في العصر العباسي - دار العلم للملايين - بيروت الطبعة الثالثة 1979م ص (756)..4- د. شوقي ضيف : الفن ومذاهبه في الشعر العربي - دار المعارف القاهرة - الطبعة التاسعة 1976م ص (267)..5- أبو بكر الصولي : كتاب الأوراق (قسم أشعار أولاد الخلفاء) - تحقيق : (ج.هيورت.دن) - تقديم : (د.منير سلطان) - الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة - أغسطس 2004م ص(113)..6- د. مصطفى الشكعة : الشعر والشعراء مرجع سبق ذكره ، ص(769)..7- د.شوقي ضيف : الفن ومذاهبه في الشعر العربي مرجع سبق ذكره ص (270).8- د. سعد شلبي : ابن المعتز العباسي صورة لعصره - دار الفكر العربي ، القاهرة - 1981 - ص (278)..9- د. أميرة حلمي مطر : فلسفة الجمال (أعلامها ومذاهبها) - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة - 2003م ص(149)..10- د. شوقي ضيف : الفن ومذاهبه في الشعر العربي - ص (269)..11- د. جابر عصفور : الصورة الفنية - مرجع سبق ذكره ، ص (193)..12- د. جابر عصفور : الصورة الفنية - ص (248)..