شخصيتين متناقضتيـن في رجل واحد ـ خليل الفنان والسجان في آن
سلوى صنعاني : كنت خارج محافظة عدن حين تلقيت النبأ ساعة وفاته من ابنتي التي هاتفتني حزينة ، فهي من المعجبات بفنه بعد أن استمعت يوماً إلى أغانيه في شريط (كاسيت) كان أهداه لي ، وقد أخذتها يوماً معي لتتعرف عليه شخصياً ، بعد إلحاح منها ، لزيارته في مسكنه الكائن في منطقة الصهاريج ، حيث كنت أزوره بين الحين والآخر للاطمئنان والسؤال عليه ، وأحياناً كنا نتبادل التواصل عبر الهاتف . كانت زيارتي الأولى للفنان المبدع خليل محمد خليل في بيته عام 1998م ، بعد أخذي موعد معه لإجراء لقاء صحفي معه خاص لمجلة “ الجديدة “ التي كنت أكتب فيها . وكان ذلك اللقاء خاتمة الكتابة لهذه المجلة السعودية التي كانت تصدر في العاصمة البريطانية ، لندن ، ذلك أنها ـ كما يبدو ـ أفلست ولم يعد لها وجود . المهم ، إنني كنت أشعر بسعادة غامرة وأنا ألتقي بهذه القامة الفنية الرائعة في الإبداع الفني الغنائي وفي التعامل الإنساني الجم وفي دماثة الأخلاق وقمة التواضع . لم أكن أتوقع أن تكون حياة هذه القامة الكبيرة بهذه البساطة من العيش ولا أن يكون هو شخصياً بهذه البساطة أيضاً في التعامل مع الآخرين. إذ كان يخيّل لي ، وأنا في طريقي إلى بيته الوحيد الذي يمتلكه منذ عقود طويلة ،المكون من طابقين ودور أرضي ، إنني سأقابل رجلاً متجهم الوجه، فظاً ، غليظاً ، الحسنة الوحيدة أنه مطرب . وكانت هذه الأفكار باغتتني لعلمي بتاريخه الوظيفي ، حيث كان الرجل عسكرياً في نهاية العقد الرابع من القرن المنصرم؛ ومنح رتبة ملازم أول، وابتعثته سلطات الاحتلال لتلقي العديد من الدورات التدريبية، في نيروبي بكينيا، ولندن، رقي بعدها إلى رتبة نقيب وعين سجاناً في السجن المركزي بعدن، ثم ابتعث مرة أخرى إلى لندن للاطلاع على أحوال السجون فيها (ذكورا وإناثا) عاد بعدها بشهادة معمدة من وزير المستعمرات البريطاني حينها ؛ فعين بمنصب كبير السجانين ثم رقي إلى رتبة رائد وصار أول عربي يتولى منصب مدير عام سجن في المستعمرة عدن. لكن كل مخاوفي تبددت حال استقباله بنفسه لي ، مرحباً بي بكل أدب وتواضع وابتسامة عريضة تضفي على محياه الهادىء البهي ، مفسحاً لي الطريق في الممر المؤدي إلى غرفة صغيرة فيها عدد من الكراسي القديمة الصنع (يبدو عليها ذلك من طرازها )، بيد أنها تحتفظ برونقها وبعبق تاريخ عدن الجميل . وكانت الصور المعلقة على الجدران خير شاهد على تاريخ الفنان الراحل المبدع خليل محمد خليل وهي تحكي عن محطات تاريخية في حياة مؤسس ندوة الموسيقى العدنية واللون الغنائي العدني العذب كعذوبة مائها ، الدافىء كدفء شمسها. التقط جهاز التسجيل الصغير الذي كان يرافقني دائماً مع آلة التصوير ( الفوتوغرافية ) حديثه الشجي والشيق الطويل ، تارة كان ردوداً على أسئلتي وتارة كان إضافات ضافية منه على بعض ما ورد في حديثه للتأكيد . حملتني قصة حياته الطويلة ومحطاتها المفعمة بالذكريات الجميلة على أجنحة مخملية إلى زمن الإبداع الفني والأدبي والفكري والصحفي .. زمن التماهي مع جمال الطبيعة فأبدع الشعراء أيما إبداع في التغني للصباح والزهور والطيور والمطر والسماء الصافية والبحر وساحل أبين وعشاق معبده ، وصدحت أعذب الألحان من أوتار فناني ذلك العصر الذين ترنمت حناجرهم الذهبية بها.. زمن الحب العذري ، النقي ، والود الجميل ، ودلع المحبين وخصامهم الجميل ، وحلاوة العودة إلى عهودهم .. زمن عشق النضال من أجل الحرية والتحرر من عبودية الاستعمار الأجنبي وشحذ همم أبناء الشعب ضد وجوده .. زمن .. لا أعتقده يتكرر . فتح الراحل خليل صدره وتحدث كثيراً معي .. عن وصول والده التاجر الحاج محمد أحمد خليل من مصر إلى ميناء عدن الأول ، صيرة ، بعد أن رست سفينته التجارية على الشاطىء . ولكنه لم يكن يعلم أن من تقذفه أمواج البحر إلى مدينة عدن وتطأ أقدامه أرضها يصاب بسحر جمالها ، وتفتنه شطآنها ، وتصهره شمسها المشعة ، فتذوب روحه في روح المدينة التي لا يفكر بعدها في مدينة أخرى سواها . وعندما استقر به المقام في عدن تزوج الحاج محمد خليل من إحدى بنات المدينة لتنجب له عدداً من الأبناء والبنات ، كان أحدهم فناننا المبدع خليل .كان والد الفنان خليل محمد خليل محباً للغناء والطرب إلى جانب اشتغاله بالسفر والتجارة ، وكان دائماً يداعب أوتار عوده الذي يرافقه في رحلاته التجارية ويغني من ألحانه وألحان غيره من فناني عصره. وقد ورث فناننا خليل عن أبيه شغفه وولعه بالغناء والطرب ، رغم اشتغاله في السلك العسكري الذي تركه بسبب مصادمة بينه وبين أحد المسئولين البريطانيين، الذي قام بتلفيق تهمة له بالتسبب بوفاة احد السجناء فزج بخليل في السجن، لكن المحاكمة أظهرت براءته فكانت تلك آخر صلة له بهذه الوظيفة، فقدم استقالته منها رافضا العودة إليها رغم الإلحاح البريطاني. وقد أخبرني ، رحمة الله عليه ، بأن البريطانيين لم يشعروا بالارتياح منه ، حيث اكتشفوا بأنه كان يساعد المسجونين الفقراء والمظلومين بتوصيل رسائل وطعام لهم دون أن تمر على المفتش . وتفرغ الراحل بعدها للغناء ، إلى جانب اشتغاله بالترجمة ليستطيع أن يقتات منها ويعيل أسرته الكبيرة. وفي السبعينات عمل في قسم المعاشات في السفارة البريطانية حتى عام 1990م . لم يكن الفنان خليل يخفي امتنانه لإذاعة البي بي سي (هيئة الإذاعة البريطانية) إذ أسهمت بشكل كبير في بروزه وبزوغ نجمه الفني، بتسجيل أغانيه أوائل الستينيات، وبعدها في إذاعة جيبوتي. اتهم الفنان الكبير عام 1994 فناناً يهودياً بسرقة أغنيته (حرام عليك تقفل الشباك)، وقال إن الفنان اشتهر بسببها. كان ذلك من جملة أشياء يحتفظ بها في أرشيفه الخاص مع حفيده خليل. وقد اظهر مؤسس الأغنية العدنية حزنا شديدا وطالب جهات الاختصاص في الدولة “بحماية الأغنية من السرقة والسطو”. نم قرير العين أيها الفنان الإنسان العظيم خليل وليبقى فنك شاهداً على العصر الجميل الذي أسهمت في بنائه وإرساء قواعده ، وإن حاول ولا زال هناك من يحاول سرقة أعمالك إلا أن بصماتك محفورة في وجداننا وستبقى على مر الزمن، وهكذا بالنسبة لرفاق دربك المرشدي وبن سعد وأحمد قاسم والزيدي وعمر غابة ويوسف احمد سالم والعطروش وغيرهم من الفنانين المبدعين الذين بذلوا كل جهودهم من أجل الفن الأصيل الذي يسمو بالروح ويرتقي بها.