أضواء
إن التحول في مجال النظر لمفهوم الوسطية من نطاق الآخر الذي كان عليه في السابق، إلى نطاق الذات، هو الذي كشف عن قيمة وأهمية وفاعلية مفهوم الوسطية، وأعطى حافزاً قوياً على تجديد النظر إليه، والتمسك به.وقد جاء هذا التحول نتيجة تطور خطير للغاية حصل في المجتمعات العربية والإسلامية، وتمثل في انبعاث نزعات التعصب والتطرف والتكفير، بطريقة تظهر وكأن العالم الإسلامي دخل عصر القرون الوسطى، كالتي شهدتها أوروبا من قبل مع محاكم التفتيش والتعصب الديني والحروب الدينية، وعرفت بعصر الظلام والانحطاط.ولعله لأول مرة في تاريخ العالم الإسلامي الحديث تظهر هذه النزعات المخيفة والمرعبة، بهذه القوة، وبهذا الامتداد الواسع والمتصاعد، حيث رفعت وتيرة الانقسامات في الأمة إلى أعلى درجاتها، وكادت تدفع مجتمعات الأمة نحو حروب دينية في سابقة لم تحصل على امتداد التاريخ الإسلامي كله.وهي النزعات التي أطلقت معها أكبر وأخطر موجة من العنف شهدتها المجتمعات العربية الإسلامية في تاريخها الحديث والمعاصر، وبهذا الاتساع الذي يكاد يمتد على طول وعرض الجغرافيا الإسلامية من المغرب غرباً إلى إندونيسيا شرقاً. فمحور طنجة جاكرتا الذي طالما دعا إليه وبشر به مالك بن نبي ليكون محور نهضة وانبعاث حضاري في الأمة، يتحول اليوم بفعل تلك النزعات إلى محور عنف وقتل وتدمير وتخريب، بالشكل الذي جعل العالم العربي والإسلامي يظهر في صورة عالم يكاد يحترق، تشتعل فيه الحرائق وتنتقل من مكان لآخر، وتغطي فضاءه السحب السوداء وترتفع في سمائه الأدخنة الخانقة.وهي النزعات كذلك التي سلبت أو كادت تسلب من الثقافة الإسلامية كل سمات ومقومات وشروط التمدن والتقدم والمعاصرة، وجاءت بدلاً عن ذلك بثقافة متحجرة ومنغلقة تتشبث بالماضي بعيداً عن منطق تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، ولا مكان فيها للمدنية والتقدم والحضارة، وتصور الدين وكأن مكانه القرى والأرياف والكهوف، والارتداد إلى الوراء وما قبل المدنية.ولا شك أن الجميع أخذته الدهشة والحيرة في أن يكون لمثل هذه النزعات العمياء كل هذا الحظ في التأثير والحضور والامتداد، وكأنها النزعات الغالبة والمتفوقة على غيرها من النزعات الأخرى.كما أنها النزعات التي وضعت المسلمين في مواقف حرجة للغاية تجاه العالم، وكأننا أصبحنا في صدام مع العالم، فبعد أن بذل الفكر الإسلامي المعاصر جهداً مهماً في سبيل تطوير تواصله مع العالم، وتبني أفكار تعارف الحضارات وحوار الأديان، وتطوير مستويات التفاهم بين عالم الإسلام وعالم الغرب، وتجديد المعرفة بمنظومة الأفكار المعاصرة كالحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها، وإذا به يجد نفسه في مشكلة مع العالم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتفجيرات لندن ومدريد وغيرها، وإذا بتلك الجهود والأفكار والتجديدات تتراجع وترتد إلى الوراء، ولم يعد العالم يرى مشكلة إلا التطرف والإرهاب، ولا يرى المجتمعات العربية والإسلامية إلا من خلال هذه المشكلة.في ظل هذه الوضعيات التي جعلت المسلمين والثقافة الإسلامية على المحك، والمحك الخطير جداً، جاء انبعاث مفهوم الوسطية، وهو ما يفسر قوة الانبعاث الذي ظهر عليه هذا المفهوم، وكأن صحوة أصابت المسلمين تجاه هذا المفهوم، الذي جاء رداً ونقداً ومواجهة لتلك النزعات المتحجرة، ولكي يضع فيصلاً للتفرقة معها.كما أن قوة انبعاث هذا المفهوم كشف عن حالة من اليقظة في الأمة، التي تنبهت لخطورة تلك النزعات، وضرورة محاصرتها، والتمايز عنها، وذلك بالكشف عن صورة مغايرة ومفارقة لها تماماً، ولا تلتقي معها بتاتاً، لهذا فقد كنا في ظل هذه الوضعيات بأمس الحاجة لمفهوم الوسطية.[c1]* صحيفة «عكاض» السعودية[/c]