24 أكتوبر الذكرى الحادية والستون لنشوء منظمة الأمم المتحدة
الحقيقة الكبرى في عالم اليوم هي حالة التغير السريع التي تنتاب السياسة والاجتماع والاقتصاد وذلك تحت تأثير معارك التحولات التكنولوجية في مجالات المعرفة الحديثة فالتطورات المتلاحقة بإيقاع سريع حولنا تلح الآن على كل الخواطر وتثير تساؤلات لدينا جميعاً واهتماماً مشتركاً بيننا ومرد ذلك إلى أننا فؤجئنا بتحولات هائلة لم تكن متوقعة حتى من أكثرالمحللين للسياسات الدولية تطرفاً وشططاً أو أشد المراقبين للأحداث العالمية تشاؤماً أو تفاؤلاً ، وكأننا نتأكد عملياً أن الاعتماد على التنبؤ السياسي لإستشراق المستقبل وتوقع تطوراته لم يعد أمراً له ضوابط عملية موضوعية محكمة . ولم يكن يتوقع أن تجري الأمور بهذه السرعة في نقلة نوعية واضحة على امتداد خريطة الدنيا بأسرها. نحن نعيش اليوم في زمن التغير حيث تحيط بنا مظاهره ووقائعه وهذه حقيقة واقعة لازمت تاريخ الانسان منذ أقدم الأزمان ورسمت للبشرية منعطفات مسيرتها كانت جذرية ترتسم بين فترة وأخرى قد تطول وقد تقصر في عدد سنواتها وما زالت الحياة الانسانية تعيش هذه الحالة من الانعطاف والتطور وستبقى كذلك فهذه سنة الله في خلقه حتى يرث الارض ومن عليها .أوليناها ذلك فليس بالشكل أو المستوى المطلوب ولا شك في أن من أكثر الموضوعات حظوة بالنقاش وتحديداً على المستوى العالمي هو موضوع الأمن والسلام والحرب والعدوان لأننا في نهاية المطاف سنجد أنه وعلى مدار حياة الانسان كانت هناك أداتان رئيسيتان للإنعطاف والتطور، هما السياسة والحرب لكل أشكالهما وأنواعهما ووسائلهما الكثيرة والمتنوعة وما زالت هاتان الأداتان تفعلان فعلهما في حياة الانسان فتتناوبان على الفعل والتأثير والتغيير وتعملان معاً أو تحل إحداهما محل الأخرى حيناً من الزمن .فأين نحن من كل هذا الذي يجري.. وما هو دور منظمة الأممم المتحدة في هذا المعترك؟سعياً للإجابة عن هذه الاستفسارات نقول إن التطورات التي جرت في العالم ابتداءً من عام 1989م بدءاً من أحداث الصين مروراً بأحداث رومانيا وإنتهاءً بأحداث 11 سبتمبر 2001م والحرب على الإرهاب واحتلال أفغانستان والعراق و... !! أظهرت وكأن الخريطة الدولية تتشكل من جديد ، كما فوجئنا بأن مسلمات رسخت لأكثر من سبعين عاماً أنهارت فجأة وحتى الكيان الكبير المسمى الاتحاد السوفيتي أتجه الى تغيير جذري وصل به الى نهايته كوجود سياسي وقطب دولي في عالم اليوم إننا نكاد نكون في مواجهة نتائج حرب عالمية ثالثة لم تحدث في الواقع لكن نتائجها بدأت تطفو لتزيح أمامها الكثير من معطيات ونتائج الحر بين العالميتين الاولى والثانية وفي الواقع أن هذه التغيرات التي طرأت على عالم اليوم بدأت تنعكس على أوضاع الدول التي بدأت تعيد حساباتها وتفكر من جديد في التقليدية وبرزت الى الوجود حقائق جديدة فالنظام الدولي الذي استقر لسنوات طويلة وتميز بتأكيد الاختلاف سياسياً وفقاً هذا النظام الذي عاش في أجواء الحرب الباردة واعتمد على مفهوم الاستقطاب الدولي حول قوتين عظيميتين بدأ يتحول تماماً ويأخذ منحى جديداً يجعلنا نتحدث عن أحادية النظام وسقوط الثنائية أو فكرة الاستقطاب المزدوج . وقد بدأ العالم وكأنه يدفع النظم الاجتماعية الى التقارب.ومنظمة الأمم المتحدة التي نعيش اليوم الذكرى الحادية والستين لنشوئهما والتي أتت على أنقاض عصبة الأمم التي كانت نواتها وبداياتها الاولى مؤتمر فيينا لعام 1815م في القرن التاسع عشر نجد أنها وعلى الرغم من وجود التشابه بينهما من حيث انطلاقهما من مسلمة أساسية وهي أن نجاح مهام الحفاظ على السلم والأمن الدوليين مرتبطة مباشرة ببقاء التوافق الدولي بين القوى الكبرى في كل منظمة كذلك هناك تشابه في بنية المنظمتين فيما يتعلق بوجود أجهزة رئيسية متشابهة الادوار والمهام بشكل عام هي الجمعية العامة ،المجلس ، الأمانة العامة، والمحكمة الدولية وإن إختلفت التسميات فيما يخص الأخيرة .من جهة أخرى -في الإطار المؤسسي- القانوني ميز ميثاق الأمم المتحدة بشكل واضح مقارنة مع عهد عصبة الأمم بين صلاحيات مجلس الأمن وصلاحيات الجمعية العامة ، حيث أنه في أمور السلم والأمن أعطيت الصلاحيات لمجلس الأمن في حين أن عهد عصبة الأمم سمح للجمعية كما سمح للمجلس بالتعاطي في أمور السلم والأمن ولكن لابد من الاشارة هنا إلى أنه في الممارسة العملية تعاطت الجمعية العامة للأمم المتحدة في شئون الأمن والسلم الدوليين ولو لم يطلب منها مجلس الأمن ذلك .وفيما يتعلق بموضوع الاقتراع كان يكفي لدولة في عصبة الأمم أن تعارض مشروع قرار حتى لا يعود هناك إجماع وبالتالي يسقط المشروع ولكن كانت هناك وسيلتان يلجأ إليهما للتغلب على هذا المبدأ فالدولة التي تمتنع عن التصويت لم تكن تحسب أنها حاضرة وبالتالي لا يتعطل الاجتماع كذلك اعتمدت قاعدة في الدورة الاولى للجمعية وهي أن كل قرار يعبر عن تمني ، يمكن اعتماده بالاكثرية وقد أتخذ الكثير من القرارات بهذه الصيغة.أما في الأمم المتحدة فالجمعية العامة تأخذ قراراتها التي هي بمثابة توصيات بالاكثرية (أغلبية الأعضاء الحاضرين) وفي القضايا الهامة بأكثرية الثلثين من الموجودين وفي مجلس الأمن فهناك حق النقض لمشروع أي قرار وهو محصور بالدول دائمة العضوية وإذا لم يحصل استعمال لهذا الحق فمشروع القرار يعتمد بأكثرية تسعة أصوات مقارنة مع عصبة الأمم حيث كان لكل الأعضاء حق النقض مما ساهم في شلل ذلك المجلس ومن ثم عجز عصبة الأمم عن القيام بأداء مهامها على الوجه الأكمل والحيلولة دون قيام حرب عالمية جديدة.فهل نستطيع القول إن منظمة الأمم المتحدة ومن خلال ميثاقها وما تضمنته من أحكام ونصوص قانونية وكذا من خلال الممارسة إنها لن تصل الى النتيجة نفسها وصلت إليها عصبة الأمم؟في هذا الجانب نرى أن هناك ضرورة لإدراك مسألة مهمة وغاية في الدقة فحواها أن موضوع صيانة السلم والأمن الدوليين هو من أعقد المهام التي يجب أن لا تواجهها كافة الدول بل وكافة الشعوب دون استثناء فالسلام العالمي يهم الجميع حتى الذين لا يسعون الى تحقيق السلام والاستعداد للدفاع عنه لم يكونا في يوم من الأيام حكراً على أحد ، وأن المقصود بالمحافظة على السلم الدولي كما يرى فقهاء القانون الدولي ليس الاعتداءعلى الغير أو التدخل في الشئون الداخلية للدول المستقلة ذات السيادة ( كما حصل في افغانستان والعراق) وإنما هو منع الحروب أو استخدام العنف الدولي بصفة عامة ( تحت ذريعة محاربة الإرهاب والارهابيين)والقيام بأعمال إيجابية تهدف الى توفير الظروف والعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية الضرورية للمحافظة على السلم ولجعل كل دولة (مهما كان حجمها أو عدد سكانها أو مساحتها) تعيش مطمئنة على سلامتها وعلى مستقبل شعبها.بمعنى آخر إن مسألة حفظ الأمن الدولي تستدعي معالجة الاسباب التي تؤدي الى حدوث الاضطرابات أو زعزعة الأمن أو الاخلال به ومهما تعددت الآراء والاجتهادات والتفسيرات هنا بشأن نظام الأمن الدولي وأسسه ومبادئه ومفاهيمه ووسائله إلاّ أن هناك إجماعاً لدى فقهاء القانون الدولي جوهرة أن نظرية الأمن الجماعي الدولي تتضمن تحريم استخدام القوة في المنازعات الدولية وإتخاذ تدابير جماعية في حالة وقوع عدوان وهي أساس وجود منظمة الأمم المتحدة ومحور أنشطتها وأعمالها وجوهر صلاحياتها واختصاص أجهزتها وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي .وإذا ما عملنا هنا على تقييم أداء مجلس الأمن في هذا المضمار فإننا سنجد أنه وعلى الرغم من الجهود المضنية والكبيرة التي تبذلها منظمة الأمم المتحدة في كافة المجالات وسعيها الدائم والدؤوب للحيلولة دون نشوب نزاعات والعمل على إيجاد سبل العيش الكريم وتوفير المساعدات الانسانية اللازمة للشعوب حين تكون بحاجة إليها (ولسنا هنا بصدد تعداد مثل هذه المساعدات أو الاعمال) إلاّ أن كل ذلك يصطدم بسلوك وأفعال سياسات الدول الكبرى والدول دائمة العضوية في مجالس الأمن ومن يدعمها ويسير في ركبها.فاليوم لا زالت تجلجل في دنيا العرب وفي جانب من الاوساط الدولية أصوات بالشكوى من ظلم مجلس الأمن وجوره بسبب ما يقال عن عدم موضوعيته وحياده في المواقف والقرارات التي تصدر عنه ووزن الأمور الواحدة بمعيارين مختلفين وكيلها بمكيالين متباينين إذ تراه حاضراً في مواقف وأزمات بعينها حازماً كل الحزم بشأنها مستخدماً أقصى ما يمكن من صلاحيات لمعالجتها ( حق الشعوب العربية في تحرير أراضيها) العراق، سوريا، لبنان، وفلسطين تراه عاجزاً أو متراخياً في مواقف وأزمات أخرى متردداً وضعيفاً في ما يتخذ من إجراءات وتدابير لمواجهتها العدوان على العراق ، الحرب العدوانية على لبنان ، الاعتداءات المتكررة واليومية والابادة الجماعية للشعب الفلسطيني .ضف الى ذلك فإن ما يجسد سلامة هذا الرأي وصواب هذا النظر يتم على أحسن وجه في ما امتلأ به العالم من حضور المجلس ونشاطه الفعال الحثيث في الحرب الاخيرة على لبنان والتي تجرع فيها العدو الاسرائيلي هزائم نكراء من قوات حزب الله ووصلت الصواريخ ولأول مرة الى عقر داره ووقف مشدوه الفاه عاجزاً عن عمل أي شيء حيالها سوى قصف النساء والشيوخ والاطفال العزل وتدمير البنية التحتية للبنان هذا في الوقت الذي نراه عاجزاً أو متراخياً بل ومحابياً اسرائيل في مواجهاته للأزمات التي تحدثها والاعتداءات التي تصد عنها وفي مقدمتها الحرب المنظمة والابادة المدروسة للشعب الفلسطيني .إن كل هذه المواقف والافعال ليست محسوبة على مجلس الامن بل بالعكس فهي محسوبة على منظمة الأمم المتحدة التي عدد أعضائها (192) دولة وليس خمس دول فقط فالجميع يتساءل هنا لماذا لا يأخذ مجلس الأمن والتشريعات الوطنية للدول من معيارية تنشد تطبيق أحكام القانون تطبيقاً للمادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة التي نصت على أنه "تقوم الهيئة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع اعضائها ولكي يكفل اعضاء الهيئة لأنفسهم جميعاً الحقوق والمزايا المترتبة على صفة العضوية يقومون في حسن نية بالالتزامات التي أخذوها على أنفسهم بهذا الميثاق".ثم ما الفائدة من القانون الدولي أو أي قانون يطبق على هذا القاتل أو السارق ولا يطبق على ذاك ؟ .. ولماذا لا يحاسب مجلس الأمن على الفعل أياً كان فاعله ؟ ولماذا يتأثر بأحوال هذا الطرف أو ذاك وعلاقاته بالقوى الدولية النافذة فيما يتخذ بحقه من قرارات وتدابير ؟ وألا يمكن لمجلس الأمن أن يقوم بالتقريب بين مواقفه والتنسيق بينها أزاء العدوان على قاعدة من قواعد القانون الدولي فيستريح الناس من الظلم والطغيان والعدوان سواء كان ذلك من داخل الدولة أم كان من خارجها ؟لعل طبيعة السلوك الدولي التشابك والتداخل بين هذا النمط أو ذاك في أنماطه وفي هذا التصرف أو ذاك بما ينطوي عليه بحيث تتباهى الحدود والخطوط ويعسر الفرز فيها بين الحق والباطل والعدل والظلم والاعتداء والدفاع والمشروع وغير المشروع وهذا يقودنا الى التعرف على الجهود التي تبذلها المنظمة الدولية للتفريق بين مثل هذه الاعمال والافعال ومن ما يصب في هذا الوعاء سعيها لتعريف العدوان الذي أنتهى الى شكل فضفاض ورد في توصية صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1975م لهذا نرى أنها لا تستطيع أن تفرق بين العدوان وصده بين الدولة المعتدية والدولة المعتدى عليها .وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الدول الكبرى في هذا الشأن حرصت على النأي عن التعاريف المحددة لأنماط السلوك الدولي والمعايير الدقيقة لهذا السلوك فهي تخشى من ذلك كله على حريتها في تقدير ماتراه محققاً لمصالحها ومآربها وسياساتها وما فعلته مع لبنان وحزب الله في أغسطس هذا العام لهو الدليل الساطع على هذا التوجه منها فعندما اعتدت اسرائيل على الدول العربية في حروبها السابقة وكان لها الانتصار والغلبة فيها بقيت ممانعة في إدانة هذا العدوان طيلة السنوات الماضية وعندما استطاع الشعب اللبناني ممثلاً بمقاومته البطلة ودفاعه المستميت عن أرضه وسيادته من الحاق الهزيمة بالإسرائيليين وصمته بالعدوان وبالارهاب وبالخروج عن الاجماع الدولي والشرعية الدولية وعملت كل ما وسعها لإدانته وأتخذت أزاءه القرار رقم (1701) الذي أدانت فيه لبنان ومقاومته وفرضت عليه حصاراً برياً وبحرياً وجوياً لكي تحمي اسرائيل التي لا زالت مستمرة بعربدتها وخرقها لقواعد ومبادئ القانون الدولي وللقرار الدولي الذي لم يجف حبره الذي كتب به .وهكذا تبدّى لنا كيف أن مجلس الأمن ( أو الدول الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية) يكيل الامور عندما تغزو اسرائيل وتعتدي بمكيال يختلف عن ذلك الذي يكيل بها الامور عندما يغزو ويعتدي الآخرون وكيف أن القانون الدولي لا يطبق على كافة من يسري عليهم حسب ما تقتضي به مصالح هذه الدول الكبرى طبيعته وغاياته وإنما يطبق حسب ما تقتضي به مصالح هذه الدول الكبرى أو تلك فتراه لا يدين أو يعاقب هنا ويدين ويعاقب هناك على رغم ما يقوم من تشابه وتقارب بين المواقف والافعال .إن المجتمع الدولي وعلى الرغم من تجلي تحيز منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والنظام العالمي الجديد للمعتدين الصهاينة .هذا التحيز الذي يظهر جلياً في مواقف العجز للقائمين على هذه المنظمة الدولية عن إيجاد حل لهذه المشكلة لن يثني أو يحول دون التفاؤل الذي يتطلع إليه في أن التغيير نحو الافضل هو الهدف المنشود وأن اليوم الذي ستتحقق منه أهداف ومقاصد منظمة الأمم المتحدة آت لا ريب فيه.فهذه هي رياح التغيير وتلك آثارها التي تمهد لأجواء جديدة ومناخ مختلف وطقس يحتاج الى ضمير العالم ووجدان البشرية وعقلها في وقت واحد ولن نصل أبداً الى المشهد الاخير في مسرحية الوجود إلاّ بإنتهاء الحياة ذاتها فالتطور سنة الحياة والتغير فلسفة الوجود والسباحة ضد التيار لا تستمر ولن يوقف الانسان أبداً كل ما يتماشى مع طبيعة الاشياء كما أنه ليس قادراً على أن يعاند الطبيعة البشرية وهو تفكير عبثي ذلك الذي يحاول شد الكيانات السياسية الى الماضي أو التصدي لحركتها نحو المستقبل .مما ورد آنفاً نستشف أن ما حدث وما سيحدث في أروقة الأمم المتحدة في المستقبل القريب هو بلورة لمرحلة انتقال نحو عالم جديد تتم فيه ترجمة لمصالح الدول جمعاء في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين ولمراكز القوى الجديدة والوصول الى مرحلة التوازن في العلاقات بين الدول وفقاً للأوزان الحقيقية لكل منها وقدرتها على فهم الصيغة الجديدة التي تحكم شكل المجتمع الدولي ولعلنا لسنا بصدد بدائل غير تقليدية لكننا بصدد عالم مختلف لابد من الاندماج فيه والتطور معه.ــــــــــــــــــ[c1]د. عبدالوهاب شمسانأستاذ القانون الدولي المشارك كلية الحقوق - جامعة عدن[/c]