مع الأحداث
الغالبية العظمى من التيارات الإسلامية المعاصرة - لا فرق بين المعتدلة منها والمتطرفة - ترفض الحداثة الغربية. وهي تعتبر أن أفكار الحداثة ليست سوى بدع غربية مستوردة إن آمن بها كلها أو ببعضها عدد من كبار مفكري النهضة العربية، فذلك لأنهم تجاهلوا تراثهم الإسلامي الخصب، وولوا وجوههم تجاه الغرب، مبهورين بإنجازاته التكنولوجية، وبتقدمه الحضاري في عديد من الميادين، وبنظامه السياسي الديموقراطي.ومن ثم اندفع أنصار هذه الجماعات للدفاع عن التراث الإسلامي كما يفهمونه. وهم في هذا المجال يميلون إلى تقديس تاريخ «الدولة الإسلامية»، وينفون عنها تماماً أنها قامت على القهر السياسي للنخبة وللجماهير على السواء. والشاهد على ذلك أن الشورى توقف إعمالها منذ تولي معاوية بن أبي سفيان الولاية، وأصبحت البيعة تؤخذ بعد ذلك بالسيف.وبالإضافة إلى ذلك فأنصار هذه الجماعات الإسلامية لا يؤمنون بالعقل في الوقت الذي يقدسون فيه النقل! ولذلك تراهم ينقلون عن القدماء بغير تفكير، ويعتمدون - للأسف الشديد - على أحاديث نبوية موضوعة. وذلك لأن عديداً منها ينافي العقل وبعضها ينافي الذوق، وبعضها الآخر لا يستقيم مع سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم).ولأن صناعتهم الأساسية هي النقل وليس العقل، تراهم يقدسون كتب الأحاديث الشهيرة وأبرزها «صحيح البخاري» وغيره، مع أن هذا الكتاب يحتوي على مئات الأحاديث الموضوعة. غير أنهم يقدسونه، ولا يقبلون أي نقد يوجه إلى بعض الأحاديث الواردة فيه.وهم في مسعاهم للنقل من التراث القديم يعتمدون اعتماداً أساسياً على آليتين هما التأويل المنحرف والقياس الخاطئ!أما التأويل المنحرف فاستخدم بكثرة لتدعيم حججهم السياسية في مختلف المجالات، من الخروج على الحاكم الظالم، أي بعبارة أخرى إضفاء شرعية دينية على الانقلابات السياسية، إلى إباحة قتل المسلمين كما تفعل الجماعات الإسلامية الإرهابية، استناداً إلى تأويلات منحرفة متعددة، أدت بهم إلى إضافة حقهم في استحلال أموال المسلمين وتخريب ممتلكاتهم، وكل ذلك يتم تحت راية الجهاد في سبيل الله!أما القياس الخاطئ فقد استخدم بتوسع، لدرجة أن «الجماعة الإسلامية» المصرية، وهي جماعة إرهابية سبق لها أن مارست العنف وارتكبت جرائم القتل العمد ضد المسلمين والأجانب وخصوصاً السياح، تطبق في ذلك قياساً خاطئاً!وورد في أحد كتب هذه الجماعة التي صدرت من باب التوبة عما فعلوا وممارسة النقد الذاتي، أنهم مارسوا قتل السياح الأجانب في مصر قياساً على ما كان يفعله الرسول (صلى الله عليه وسلم)، لأنه كان يستخدم آلة المنجنيق في قتال أعدائه! وهذه الآلة من آلات الحرب التي تتيح إلقاء الطوب على الأعداء فتشتتهم!وتقول كتبهم إنه قياساً على ما كان يفعله الرسول الكريم ضد أعدائه، فإن استهدافهم للسياح الأجانب وقتلهم يصبح مسألة مقبولة شرعاً! والحقيقة أنه لا مجال هنا لهذا القياس الخاطئ، والذي يستند زوراً وبهتاناً إلى السلوك الحربي للرسول ضد أعداء الإسلام.وكُتب هذه الجماعة الإسلامية بالإضافة إلى مراجعة جماعة «الجهاد» المصرية، وهي جماعة إرهابية أخرى، زاخرة بالفكر الديني الركيك، يعكس الضعف الشديد في ثقافة «أمراء» هذه الجماعات، فما بالك بأنصارهم الذين ساروا في طريق الإرهاب وهم لا يعرفون في الواقع من الإسلام إلا اسمه؟!غير أنه إذا كانت الجماعات الإسلامية في غالبيتها العظمى ترفض الحداثة الغربية نظرية وتطبيقاً، فإن بعض التيارات الإسلامية المتنورة لم يقنع بذلك، وإنما حاول أن يصوغ بديلاً إسلامياً للحداثة الغربية!وهذا البديل يتسم بالشمول، لأنه يقوم على خمس دعائم أساسية وهي المعرفة، والهوية، وإنكار مفهوم الوطن والوطنية، والنظرية السياسية الإسلامية، ومذهب الحكم.أما المعرفة فقد أسس بصددها مشروع مترامي الأطراف أشرف عليه طه جابر علواني، وهو عراقي أزهري، وأطلق على المشروع «أسلمة المعرفة». وأتيح لي أن أطلع على الوثيقة الرئيسية للمشروع التي صدرت قبل سنوات عدة وهي تقوم أساساً على فكرة محورية هي الاستحواذ على المعرفة الغربية في مجال العلوم الاجتماعية، وتلخيصها بواسطة عدد من العلماء الاجتماعيين الغربيين، ثم إعطاء هذه الملخصات إلى علماء اجتماعيين مسلمين لأسلمتها!ومن الواضح تهافت الأساس المعرفي لهذا المشروع الوهمي، لأنه في مجال العلوم، طبيعية كانت أو اجتماعية، ليست هناك معرفة مسيحية وأخرى إسلامية وثالثة بوذية! ومن الأقوال التي تستحق التأمل بهذا الصدد أن المنهج لا جنسية له!ومن ثم فبلورة منهج لدراسة ظاهرة البيروقراطية كما فعل عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر - على سبيل المثال - لا يمنع من تطبيقه في مصر أو في أحد البلدان العربية، رغم أن الظاهرة البيروقراطية ذاتها تتشكل وتتلون بحسب التاريخ الاجتماعي الفريد لكل بلد.وحاول مشروع أسلمة المعرفة تحقيق أهدافه عن طريق تجنيد مئات من الأساتذة الإسلاميين والعرب، وعبر مشاريع علمية متعددة، ومؤتمرات كثيرة، إلا أنه فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق أهدافه. ويحمد لأصحاب هذا المشروع أنهم اعترفوا أكثر من مرة علانية بهذا الفشل.والدعامة الثانية للبديل الإسلامي للحداثة الغربية هي صياغة ما يمكن أن نطلق عليه هوية متخيلة! Imagined identity وهذه الهوية الإسلامية المتخيلة يزعم المروجون لها أن المسلمين يعتنقونها في كل أنحاء الأرض أياً كانت أجناسهم أو أعراقهم! وذلك لسبب بسيط - في نظرهم - هو أن كل المسلمين في العالم ينتمون إلى الأمة الإسلامية الواحدة، وبغض النظر عن الاختلاف في أنظمتهم السياسية، أو الاختلافات الثقافية بينهم، أو تنوع الفهم للإسلام، حسب الأعراف والتقاليد السائدة!ويرتبط بهذه الهوية المتخيلة إنكار مفهوم الوطن ونقد مشاعر الوطنية! فالوطن - أياً كان - لا قيمة له في ميزان الإسلام كما يزعمون، لأن الحدود بين الأوطان حدود مصطنعة وضعت تعسفاً للفصل بين أبناء الأمة الإسلامية الواحدة!.والدعامة الرابعة لهذا البديل الإسلامي المزعوم هي فكرة الشورى الإسلامية التي تقدم بديلاً لنظرية الديموقراطية الغربية! يتم ذلك في تجاهل تام للحقائق التاريخية التي تتمثل في تعطيل الشورى عملاً طوال تاريخ الدولة الإسلامية منذ ولاية معاوية بن أبي سفيان·بالإضافة إلى أن الرفض الأعمى للديموقراطية الغربية يركز في الواقع على بعض سلبياتها، ويتجاهل جوانبها الإيجابية المتعددة.وقد حاولت بعض الاتجاهات الإسلامية المعتدلة، في العقود الأخيرة، التخلي عن هذا الرفض القاطع للديموقراطية الغربية، ودعا بعضها مثل جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، إلى تشكيل أحزاب سياسية بمرجعية إسلامية!والواقع أن هذا البرنامج الذي طرحته جماعة «الإخوان» في مصر أخيراً يخلط خلطاً متعمداً بين الدين والسياسة.ووصل التطرف الديني إلى أقصى مداه، حين حددت جماعة «الإخوان المسلمين» المرجعية الإسلامية لحزبهم السياسي المقترح بضرورة تشكيل مجلس أعلى للفقهاء، تعرض عليه قرارات رئيس الجمهورية لإقرارها أو رفضها، وكذلك قرارات المجالس النيابية.ومعنى ذلك بكل بساطة الدعوة إلى إقامة دولة دينية ضد التيار الديموقراطي العالمي السائد، وذلك بإعادة إنتاج مذهب «ولاية الفقيه» الشيعي، ولكن على الطريقة السنية هذه المرة![c1]عن / صحيفة “الحياة” اللندنية[/c]