عبدالله سالم باوزير (أنموذجاً)
علي حسن العيدروستضافر الأحداث وتسخيرها لتضخيم حدة الرواية المفارقةعندما نلتقي:إن المعادل الطبيعي لأي لقاء بيننا وبين من يحتلون مكاناً وجدانياً في نفوسنا هو الشفافية والصدق العاطفي، ذلك الذي يجعلنا - ببديهة - نرفض أي إلتواء أو تغييب للحقيقة أو ممارسة المخادعة من الآخر الذي نلتقي به مما يعني أن ما نطلبه منه أيضاً يجب أن يتمظهر في ممارساتنا تجاهه، لكن المفارقة تتبدى عندما نمنح أنفسنا حق ممارسة الخديعة والالتواء وتغييب الحقيقة عن هذا الآخر ذلك ما يكشفه النص هنا من خلال جملة من الممارسات السيكلوجية لعدد من اللقاءات بين الحبيبين في صورة مفارقة متنامية تعبر عن مستوى مرضي من اللااستواء لشخصياتنا وسوء تكيفها مع محيطها الإنساني الطبيعي في شكل من أشكال إنزياحاتها الزمانية والمكانية تتجدد من خلال الرؤية المفارقة التي بني عليها هذا النص بين ما نؤمن به وبين ما نمارسه بين ما نطلبه وننشده في الآخر وبين ما نقدمه له من نقيض منافر.لقد سخر النص أحداث مساره السردي لهذه الغاية وجعلها تتضافر نحو تعميق وتضخيم حدة الرؤية المفارقة التي بني عليها من خلال نموذج لحبيبين ضمن لقاءاتهما المتكررة المفعمة بالحب والحنان جعل من المحبوبة صورة مثالية وشفافة لقداسة الحب الأمر الذي نتج عن تماه بين الحبيبين في كل لقاء بينهما رسما في ذهن المتلقي صوراً ذات دلالات إيجابية للمعاني المقدسة للحب يمنحه إياها الخطاب السردي للنص حتى إذا اطمأنت هذه الصورة في ذهنه عصف بها وكسر كل توقعاته وخيب انتظاراته بمفارقة تجعله يعود أدراجه للنص مفتشاً في كل نسيج من أنسجته عن انزياحات كانت خافية عنه عند قراءاته الأولى للنص وهذا هو سر جمال تكوين النص وحضوره الدائم." لا أعرف منها إلا ابتسامتها العذبة التي ترسلها إلي كل صباح.. ولكنني من هذه الإبتسامة عرفت كل شيء عنها، وداعتها ورقتها ونفسها الحساسة المرهفة.عرفت كل شيء عن حياتها وماضيها ومستقبلها.. ونلتقي يوماً بعد يوم، وكل يوم تريني إبتسامتها شيئاً جديداً عن حياتها، والتقي بها كثيراً لأني أريد أن أرى أكثر من ابتسامتها، يبتسم لي كل شي في حياتي الأرض والسماء والوجوه التي أقابلها كل صباح، أصبحت لا أحتمل أن يمر علي يوم واحد دون أن أتزود بابتسامتها..كنت أحس كأنني ذاهب إلى شيء مقدس.. شي أغلى من نفسي" (1)انسياب في المسار السردي نحو الصورة المثالية والمقدسة للحب وصولاً إلى التماهي بين الحبيبين في عرش الحب السامي في لقاء مرتقب بينهما" وما أن وقع نظري على ابسامتها حتى نسيت نفسي ومخاوفي، وصرت أعد الخطوات التي تفصلني عنها:ثمان.. سبع.. ست.. وأهرول في مشيتي وروحي تكاد أن تسبقني إليها، كانت يدها الرقيقة الدافئة ترتعش في يدي كعصفور صغير.. والتقت أعيننا، وامتزجت نظراتنا، أشرب من عينها وتشرب من عيني، ولم ترتو ولم أرتو.. الفرحة تبدو في روحينا ووجهينا ونظراتنا التي اختلطت وتمازجت.. ولم يتغير شيء من الصورة التي رسمتها لي ابتسامتها في أول لقائي بها وكأني أعرفها منذ زمن بعيد.. وكأننا خلقنا في مهد واحد" (2)هذا التكثيف للصورة الرائعة والمقدسة للحب الذي أنتجه المسار السردي للنص هو ذلك التضافر للأحداث الذي يسخره النص لولادة المفارقة الحادة القادمة من أحشاء النص، فحين تستقر إنزياحات هذا المعنى الجميل في ذهن الملتقي وتتسع لديه عوامل التخيل لبناء كيان مثالي للعلاقات العاطفية المنشودة بين الناس يأتي ما تبقى من النص ليعصف بما ترسب في ذهن المتلقي ويخلخل عمليات الفهم لديه فتزلزل المفارقة بنيان الفهم السابق وتحضر هي بصورة طاغية في النص والذهن. لقد كشفت الدبلة المستقرة على إصبع المحبوبة صورة مغايرة تماماً لشفافية الحب وصدق العاطفة جعل منها الحبيب مفارقة في سلوك محبوبته لتشكل أولى الصدمات في ذهن المتلقي دأب النص على تعميقها وتضخيمها."ولكن.. هذه الدبلة بيدها.. قلت هذه الكلمات في نفسي، فقد التحمت الأحرف في شفتي وزاغت عيناي وأرتجف جسمي كمن أصابه مس من الجنون.لماذا لم تصارحني من الأول.. لماذا تركتني أحبها كل هذا الحب وهي مخطوبة؟ لماذا تخدعني.. لماذا؟؟" (3)إن النص منذ تلك الفقرة من مساره السردي يجعل المتلقي يدخل في صراع حاد معه وربما أقفل عائداً لقراءة النص من بدايته عله يجد في العبارات إنزياحات تمنح توازناً للإنكسارات الحادثة في عملياته الذهنية التي فاجأه بها النص بعد رحلة استقرار دلالي سافر معها إلى ما يزيد عن منتصف مساره السردي ومع هذا فلا يكاد المتلقي يمسك بأنفاسه حتى يكتشف في زمن قياسي سريع أن ما كان يعتقده مفارقة ليس كذلك مطلقاً إنما هي صورة أخرى سامية من صور المثالية والقداسة في الحب تضاف إلى سابقاتها من الصور منذ بداية المسار السردي للنص لينشأ صراع آخر في عمليات الفهم لديه تصطدم فيها اللغة ببعضها وتقوده إلى المفارقة الحقيقية التي راوغه النص في الوصول إليها ليبقى حاضراً في ذهنه ليس لحظة قراءته فحسب، مانحاً إياه إنزياحات يتخلق من خلالها النص في صورة مغايرة باستمرار."تكلمت في صوت هافت فيه رجاء وضعف:- أنا مخطوبة.. بس مش لحد ثاني غيرك..- وهذه الدبلة اللي انتي لابساها من مين؟- أنا التي أخذتها ولبستها في أول لقائنا وذلك لكي أوهم كل من يحاول أن يتقرب مني من الشباب بأنني مخطوبة.. لأبقى لك وحدك" (4)ففي الوقت الذي ظن فيه المتلقي أن النص نجح في استلاب المفارقة من ذهنه نجده وقبل أن يلتقط أنفاسه يرمي بكل ثقله عليه فيصدمه بالمفارقة الحادة التي راوغه بها طيلة رحلة مساره السردي ليترنح بها المتلقي داخلاً في صراع حاد مع كل عبارات النص منذ عتبته."ودعتها.. والدنيا تكاد لا تسعني من الفرح، ولكن الفرحة لم تدم طويلاً، فقد تذكرت شيئاً مهماً نسيت أن أقوله لها.. شيئاً أنساه دائماً عندما التقي بها.. هو إنني متزوج!!" (5)لقد جن جنونه حينما ظن أنها خدعته وأنها نسفت كل معاني الحب السامية والمقدسة رفض منها بصورة قاطعة السلوك المجانب لشفافية العلاقة بينهما غير أن المفارقة الحادة تكمن في ارتضائه لنفسه ذلك السلوك المشين مانحاً نفسه كل الحق في ممارسته محاولاً بصورة متنافرة ومتناقضة تبرير سلوكه بالنسان أو التناسي. إن الحقيقة التي تكشفت للحبيب عن صدق وصفاء وشفافية محبوبته لم تغير شيئاً من سلوكه المفارق الأمر الذي تتصاعد معه حالة التوتر والسخرية عند المتلقي.عندما نلتقي إذن ليس مجرد عنوان يتربع على عرش النص (6) بل هو إختزال للرؤية المفارقة بكل إنزياحاتها التي تنتجها بنية النص الكلية فهو يكشف التنافر والتناقض الشديد بين ما نؤمن به وبين ما نمارسه هو اللحظة الزمانية والمكانية التي تتكشف فيها اقنعتنا الزائفة، هي رؤية للحياة المختلفة المريضة التي يعيشها الإنسان في عوالم الحب والعاطفة التي يدعي قدسيتها، إن علامتي التعجب التي ينتهي بها النص إنما تعمقان حدة المفارقة ليبدأ معها المتلقي حياة جديدة مع النص أكثر إنفتاحاً على الدلالة وسميائيتها.الإخلال بالتوازن الرتيب والنمطية السائدة في الحياة:-سيادة النمطية في الحياة الفكرية بخاصة تفرض سياجاً من الجمود للمستوى الثقافي والفكري من حياة الناس في المجتمع تدفعهم بشكل أو بآخر إلى محاولة إختراق هذا السياج من الجمود واللجوء قصدياً إلى المفارقة لكسر هذه النمطية كشكل من أشكال التمرد العنيف للتحرر منها، وهذا هو ما حاول نص الفقيد من مجموعة (الحذاء) أن يشتغل عليه، فالمجتمع الذي وصل فيه الأديب في ذاكرته إلى زاوية الجمود والتعتيم وبالتالي قبوعه في ركن هامشي من الحضور الثقافي يجد هذا المجتمع مذاقاً حلواً ومتعة فكرية لنقل هذا الأديب إلى عالم الأموات وإن كان حياً حاظراً بجسده فقط. لعله يخلق من خلال هذه الصورة المفارقة - في التعامل مع الأحياء كأموات - صدمة تكون بعثاً جديداً له، فحين أرتكن أديب كبير (كثابت يقظان) إلى الجمود الفكري والثقافي لم ير المجتمع للخروج من هذه النمطية السائدة إلا المفارقة فأحاله إلى عالم الأموات لعله بهذه المفارقة يكسر حدة تلك النمطية الجامدة رافضاً بها التوازن الرتيب الذي يفقد الحياة ديناميكيتها الباعثة لديمومتها."للمرة السابعة أخذ ثابت يقظان يقرأ نبأ وفاته المنشور على الصفحة الثقافية من صحيفة الشعلة" (7)وفي موضع آخر"ولكن لماذا اخترتني أنا بالذات من بين كل الأدباء.- أصل لي مدة طويلة لم أسمع عنك شيئاً ولم أقرأ لك أي إنتاج أدبي جديد" (8)وفي موضع ثالث "قال (فريق من الناس) إنك هاجرت وهجرت الكتابة" (9)لقد أنتجت المفارقة في نشر عدد من صحف المجتمع خبر وفاة الأديب"الحي" ثابت يقظان جدلاً وحراكاً ثقافياً في المجتمع حول ذلك الأديب وإنتاجه كاسرة سيادة النمطية في الحراك الثقافي للمجتمع بدءاً باعتبار وفاته كارثة فكرية ووطنية "ننعي الشعب وفاة أحد أبنائه البررة وهو في أمس الحاجة إليه" (10) إلى الكشف عن شخصيته المحبوبة وفكره المضئ وريادته في خوض غمار المعترك الأدبي "لقد كان الفقيد شخصيته محبوبة وفكراً مضيئاً وشعلة وطنية" (11)"توفي إلى رحمة الله الأديب الكبير "ثابت يقظان" وهو من الرواد الأوائل الذين خاضوا غمار المعترك الأدبي، وله كتابات جليلة في الأدب عموماً وفي القصة بشكل خاص..إلخ" (12) إلى التعامل مع شخصيته الجديدة الحية الميتة بشفافية عالية."- ألو صحيفة الشعلة؟وجاءه الصوت الناعم- نعم من يتكلم- ثابت بن يقظان- أهلاً بروح الروح.. مع السلامة يا روحي أقصد ياروح ثابت بن يقظان" (13)وهكذا تخلق المفارقة بعثاً جديداً للأديب" وضع السماعة ثم قام من على مكتبه وأتجه إلى التقويم خلفه على الحائط ونزع منه آخر ورقة للعام المنتهي وأتجه إلى النافدة أمامه ورماها ووقف يتأمل طيرانها في الهواء وكأنه يودع ضيفاً ثقيلاً، ثم عاد إلى مكتبه ممتلئ النفس بالبشر والتفاؤل، ثم بسط أوراقه وبدأ يكتب قصته الجديدة" (14)إن التفات المجتمع إلى مفكريه وأدبائه وإنتاجاتهم بعد مماتهم هي صورة من صور المفارقة (الإهتمام بهم أمواتاً وإهمالهم أحياء) غير أن هذه المفارقة تقرر حقيقة هي إدمان المجتمع على إهمال الإنسان الحي أوجد سياجاً نمطياً جامداً في الحياة فأنساق إلى كسر هذه النمطية وهذا التوازن الرتيب إلى الإهتمام البالغ بالإنسان الميت" لماذا نحن العرب هكذا لا نحتفي بأدبائنا ومفكرينا إلا بعد وفاتهم، أكان يجب عليهم أن يموتوا أولاً لكي نعدد مزاياهم" (1)رؤية مفارقة يتبناها النص بدءاً من اسم الأديب ثابت بن يقظان التي لا تعني اليقظة في اسمه إلا الخمول والجمود في الإنتاج الأمر الذي جعله من خلال المفارقة التي حصلت له يعيد النظر في مسيرة حياته الثقافية والفكرية مروراً بالتفتيش عن الحياة في الموت ووصولاً إلى الإقتناع بوجود الحياة في الموت ووجود الموت في الحياة، إن العبارات التي شكلت البنية السردية للنص تهرب من إطارها المعجمي بما تصوره من مفارقات إلى إنزياحات في المعنى والتركيب تجد لها مناخاً خصباً في عمليات الفهم لدى المتلقي المستهدف الأول للنص تتصارع الدلالات الناتجة عنها في ذهنه في محاولة لإيجاد توافق أو اختلاف مع بنية النص الكلية والرؤية التي يجسدها.فالتعامل مع الحياة الثقافية والفكرية بكل تمظهراتها في مجتمعاتنا - العربية بخاصة يقرها النص على أنها ضرب من النمطية الجامدة السائدة فيه والتوازن الرتيب الممل يفرز قيماً مهلهلة للتكوين الثقافي والفكري البشري ينساق معها نحو تقديس الضدية الغائبة على حساب الواقع الحاضر في إشارة واضحة إلى أننا نحتاج كثيراً في حياتنا إلى المفارقة لكسر نمطيتها السائدة ورتابتها المملة لإعمال تغييرات جذرية في مكونات منظومتنا الثقافية والفكرية هذه الرؤية هي من سيقلب موازين الفهم لدى المتلقي لإعادة النظر نحو فهم مغاير للنص في دلالات اسم الأديب ثابت بن يقظان، في الموت بالسكتة في معنى اسم الصحيفة الشعلة في معنى الخطاب السياسي العربي في التعبير عن الهزيمة بالإنتصار (2) في معنى مكتب الأديب ثابت بن يقظان الذي عبر عنه بالقبر في دلالات المفارقة المتمثلة بالتعجل في نشر نجاة الأديب بعد موته (3) في حقيقة مطابقة الوصف الذي أطلقه الكاتب على المحرر الذي نشر خبر وفاته بإنه محرر الشؤم (4) فهل تستقيم أحياناً الحياة بالمفارقة أو بمعنى أدق هل تصبح المفارقة ضرورية في حياتنا عندما يصبح التوازن الرتيب والنمطية هما السائدين فيها.إذن فالمتلقي لا يجد أمامه نصاً تقليدياً جامداً ينتهي عند أول قراءة له بل سيرى فيه نصاً ممتلئاً بالإنزياحات المختلفة في متنه الحكائي عبر صور المفارقات المهيمنة على أنساقه ويكفي المفارقة أنها من أبرز مظاهر شعرية السرد تمنح المتلقي قدرة على رفض ما يقال له ونقده وتأويله حتى يتفق مع مالديه من وعي ومعلومات.مصادر وهوامش:[2 - 2]1- مجموعة »الرمال الذهبية« قصة »عندما نلتقي« ص 34 - 35 عبدالله سالم باوزير2- نفسه ص 36 - 373- نفسه ص 374- نفسه ص 385- نفسه ص 386- أنظر ثريا النص »مدخل لدراسة العنوان القصصي« محمود عبد الوهاب7- مجموعة الحذاء قصة »الفقيد« ص 93 عبدالله سالم باوزير8- نفسه ص 1009- نفسه ص 10110- نفسه ص 9511- نفسه ص 9512- نفسه ص 9313- نفسه ص 97 - 9814- نفسه ص 10215- نفسه ص 9516- نفسه ص 9617- نفسه ص 10218- نفسه ص 9719- أنضر جريدة »الأسبوع الأدبي« عدد (860) 2003/5/31م السرد في الرواية ، سلام مراد