اضواء
إضافة للأسباب الإيديولوجية التي تكمن وراء الانتماءات الفرعية للفرد، سواء أكانت طائفية أم قبلية أم حزبية، هناك أيضاً أسباب أخرى. وفي مقدمة الأسباب الخفية، هناك الانتهازية النفعية التي تعود على الفرد بمنافع مادية ومعنوية، وهناك المباهات والمظهرية الاجتماعية الرٌاسخة بعمق في الثقافة العربية منذ أقدم العصور. مناسبة الحديث عن هذا الموضوع هي الظاهرة الجديدة التي بدأت تنتشر في مجتمعات دول مجلس التعاون الخليجي في الآونة الأخيرة. إنها ظاهرة إحياء الانتماء العائلي، والتي تظهر في صورة نشاطين محمومين: التفتيش عن الأصول وإضافة “الـ” التعريف على الأسماء. فجأة وفي قلب موجة العودة إلى الطائفية والقبلية، بدأت العائلات الخليجية تبحث في بطون الكتب عن أصولها القبلية في أعماق التاريخ. ومن أجل أن لا يبقى شك في ذهن أفرادها أو شك في ذهن منافسيها أو المشكُّكين في أصولها، تدخل تلك العائلات في أدقٌّّ تفاصيل التفريعات القبلية: العشائر والأفخاذ والأنساب والتحركات الجغرافية في الصّحاري والبحار. وحركة التفتيش هذه ليست معنيُّة بمدى صدق من كتب تلك الكتب أو مكانته التاريخية العلمية أو مدى التناقض مع المؤلفين الآخرين... فالمهم هو وجود فقرة أو جملة تؤكد ما تتمنٌّاه هذه العائلة أو تلك أو ما تحلم به من أصول تفاخر بها الآخرين. وإذا لم تسعف الكتب فهناك الوثائق الإنجليزية إبٌّان فترة الاستعمار، والأساطير الشفوية التي انتقلت عبر الأجيال.وما أن تُقنِعَ العائلة نفسها، وتعتقد أنها أقنعت الآخرين، حتى تنتقل إلى مرحلة إضافة “الـ” التعريف للتأكيد على أنها عائلة كبيرة مترامية الأطراف ومتعدًدة الفروع. وحتى يضاف الملح إلى تلك الوجبة تضاف كلمتا بن للرجل وبنت للمرأة. فالرجل يصبح محمد بن علي والمرأة تصبح عائشة بنت يوسف. فآل التعريف والتوكيد على الارتباط بالأبوة، هي من المباهاة الرمزية الأساسية في حياة العرب القبلية.هذا الهوس الجديد بالتركيز على انتماء فرعي قديم، كنا قد اعتقدنا أنه في طريقه الاندثار، هو هوس عبثي وسطحي في ظاهره، لكنه في الواقع يعكس أسباباً سياسية واقتصادية. فمع غياب مفاهيم المواطنة في مجتمعات غير ديمقراطية، ومع تراجع أهمية الكفاءة الشخصية وتكافؤ الفرص في الحياة العامة، ومع ضعف الانتماءات القومية العربية والدينية الإسلامية الكبرى الجامعة، تقدمت بقوة ملحوظة، تفوق ما كان سائداً في الماضي بكثير، قيم ورموز جديدة؛ كالانتماء المذهبي أو القبلي أو العائلي. وأصبحت الفرص في التعيينات السياسية مرتبطة أشدّ الارتباط بالأصول وبألـ التعريف وبكل ما يؤكد ارتباط العائلة، ومن ثمٌ الفرد، بنوع محدٌد من الجذور والتاريخ. وأصبح الولاء للوطن وللنظام السياسي والأحقية في الثروة البترولية الهائلة الجديدة... لا يقرأ إلا من خلال هذه الظاهرة المستفحلة، حتى وصل الحال في بعض بلدان الخليج إلى تقنينها علناً.ظاهرة التفتيش عن الجذور والشجرات العائلية، موجودة في كل المجتمعات، وتمارسها بعض العائلات وبعض الجماعات الإثنية. والانعكاسات السياسية والاقتصادية لذلك الاتجاه، موجود أيضاً في كل المجتمعات. لكن أن ينقلب الأمر إلى وباء مرضي وهوس ينتشر في كل طبقات المجتمع ويكون قاعدة أساسية في السّاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فهذا أمر سيسٌّمم حياة هذه المجتمعات ويلهي الناس بالتوافه من الأمور. إن الأنظمة ومكونات المجتمع يجب أن تعرف بأن كلامها عن الانتقال إلى الديمقراطية يتناقض كلياً مع تشجيع بعضها لهذه الظاهرة الزبونية الجديدة. إن قيم الديمقراطية والمواطنة والحداثة، لا ترى في الإنسان إلاٌ ذاته، كفاءة والتزاماً أخلاقياً وعملاً للوطن، ولا تلتفت إلى ما عدا ذلك.*عن / صحيفة (الاتحاد) الإماراتية