بعد وقف إطلاق النار، سارعت «حماس» إلى إعلان الانتصار، واعتمدت خطة سياسية تحصنها وتحميها من المساءلة عن النتائج الكارثية للحرب الإسرائيلية الوحشية على سكان غزة، وحتى تمنع أي صوت يطالب بالتحقيق في مبررات «حماس» لاستدراج إسرائيل لشن عدوانها الهمجي، عبر إطلاق 22 صاروخاً دفعة واحدة على مستوطناتها فور انتهاء التهدئة وقبيل زيارة ليفني لمصر، قطعاً لأية إمكانية مصرية في مطالبة إسرائيل بضبط النفس، وتعجلاً لمعركة هي غير مستعدة لها، وكذلك حتى تغطي على تهربها المبكر من تحمل أية مسؤولية تجاه السكان الذين عرضتهم للنيران الإسرائيلية، مكشوفين، دون حماية وملجأ آمن، بل واحتمت بهم، مما جعل عدد القتلى من المدنيين والنساء والأطفال مرتفعاً مقارنة بقتلى «حماس» والمقاومة، لكل ذلك اتخذت «حماس» عدة إجراءات فور توقف القصف عبر محورين:أولا: في المحور الداخلي، لجأت إلى إحكام سيطرتها وتشديد قبضتها الأمنية، وإخضاع السكان (طوعاً وكرهاً) لتمجيد نصرها، ومنع أي انتقاد أو تشكيك في أدائها عبر الخطوات الآتية:1 - تسيير مسيرات شعبية ضخمة في شوارع غزة ابتهاجاً بالنصر الإلهي لـ»حماس».2 - المسارعة إلى إرضاء العائلات التي فقدت أبناءها أو بيوتها وشراء سكوتها بالتعويض الفوري (4 آلاف يورو للمنزل المهدم، وألف للشهيد).3 - معاقبة من انتقد «حماس» أو تساءل عن مبررات الحرب أو شكك في النصر.4 - تصفية الخصوم المحسوبين على السلطة بتهمة التجسس والخيانة.5 - المسارعة إلى استئناف النشاط في عشرات الأنفاق وإصلاح ما تضرر منها ودعوة المراسلين لتصويرها، كدلالة على أن إسرائيل لم تنجح في تحقيق أهدافها وكأن مقياس النصر «سلامة الأنفاق».6 - طمأنة الأنصار وإيهامهم بأن الحركة قادرة على إدخال السلاح «الطاهر» رغم الطوق الأمني الدولي -جواً وبحراً وبراً- كما قال أسامة حمدان.ثانياً: عبر المحور الخارجي، عززت «حماس» انتصارها بالتنسيق مع أنصارها وحلفائها وبخاصة جماعة «الإخوان» وفروعها في الدول العربية وذلك عبر الخطوات الآتية:1 - إقامة احتفالات ضخمة في العديد من العواصم العربية دعماً لانتصار «حماس» والإشادة بصمودها، وكانت «أم الاحتفالات» في دمشق.2 - حرص قادة «حماس» على إطلاق سلسلة من التصريحات (قبل أن تتوقف الحرب وقبل أن تتضح النتائج) بأن بشائر النصر قادمة، وأن هزيمة إسرائيل محققة، وأنها فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق أهدافها، بل بدت «حماس» واثقة من نصرها، غير متعجلة وقف الحرب، وليست بحاجة إلى مساعدة عسكرية من أحد. فقد سئل محمد نزال: لماذا لم تطلبوا من «حزب الله» وإيران مساعدتكم عسكرياً؟ فقال: «إننا لم نطلب من أحد أن يتدخل ويقاوم العدوان، وكل ما نطلبه الدعم السياسي والمالي والإعلامي»، وكأنها تريد إطالة أمد العدوان، غير مبالية بالخسائر ونزيف الدماء!3 - تظاهرت «حماس» بأن خسائرها قليلة (48 شهيداً من إجمالي 1500 شهيد و5500 جريح) وليست 500 كما ذكرت إسرائيل.4 - وحتى الـ1500 شهيد، حاول موسى أبومرزوق في محاضرته بدمشق، التهوين من شأنهم، بحجة أنه «إذا خسرنا 1500 شهيد فإن بناتنا الحرات وأخواتنا المجاهدات أنجبن خلال فترة العدون 3500 طفل فلسطيني»، مما دفع الكاتب مشاري الذايدي للتساؤل: هل يتحدث مرزوق عن مشروع إنتاج دواجن؟!5 - حرص بعض المشايخ المتعاطفين من «حماس» على تخفيف وقع المأساة على هؤلاء الذين فقدوا أبناءهم وآباءهم وتعزيتهم بالقول إن هؤلاء الشهداء «أحياء عند ربهم يرزقون».6 - روّج بعض الإسلاميين المؤيدين لـ»حماس» قصصاً وملاحم بطولية وآيات وكرامات تحققت، تأييداً من الله للمجاهدين بجند من عنده، وحرص هنية من مخبئه تحت الأرض أثناء الحرب على القول: «إننا نستشعر آيات الله وقرآن الله يتنزل علينا في هذه الأيام، وأن الصمود يكشف عن صور عظيمة تعيد صور الصحابة الفاتحين». ومؤخراً نشرت صحف رؤيا لمشائخ رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم في غزة!7 - قامت مجموعة من المتعاطفين مع «حماس» بتهديد وإرهاب كل كاتب ينتقدها أو يحمّلها جزءاً من المسؤولية أو يشكك في انتصارها. وقد أشار إلى ذلك الدكتور سعد بن طفلة وقال إن مجموعة من هؤلاء جمعت تواقيع لطرد الكتاب الكويتيين الذين انتقدوا «حماس» من جمعية الصحافيين وطالبت بمقاضاة كل من كتب ضد «حماس».هذه أهم الخطوات التي اتخذتها «حماس» لتأكيد نصرها، والهدف الرئيسي للتظاهر بالانتصار هو تحقيق مكاسب سياسية انتخابية مستقبلا ضد «فتح». لكن من حقنا أن نتساءل: هل يستحق تحقيق هذه المكاسب السياسية التضحية بشعب أعزل وتعريضه لكل تلك الأهوال والعذابات، فضلاً عن دمار الوطن؟ وما قيمة الإنسان لدى «حماس»؟ وهل هانت لدرجة أن هنية يقول: لن نغير مواقفنا ولو أبيدت غزة عن بكرة أبيها؟ لماذا هذا الاستخفاف العجيب بحياة آلاف البشر؟ وما الأهم لدى الجهاديين: حياة البشر أم الاستمرار في السيطرة والسلطة؟ الإنسان البسيط أم القائد؟ الإنسان أم المقاومة؟ الوطن أم الأيديولوجية؟ المدنيون الأبرياء أم الحزب؟إن «حماس» تعلم يقيناً أن إسرائيل دولة عدوانية وردود فعلها إجرامية وحشية، ومع ذلك سعت إلى استفزازها، وهي تعلم أن إسرائيل ستصب نقمتها على المدنيين الأبرياء وستدمر غزة شر تدمير، فماذا نسمي مثل هذا العمل غير المسؤول؟ لا أحد ينكر حق المقاومة في الدفاع عن نفسها وعن شعبها، ولا أحد ينازع «حماس» في أيديولوجيتها في المقاومة المسلحة، ولا نريد من «حماس» ولا من فصائل المقاومة أن يتخلوا عنها، وليس من المصلحة الفلسطينية التخلي عن المقاومة المسلحة، كما لا ننازع «حماس» انتصارها، لكن نزاعنا معها في شيء واحد فقط، أنها لا تبالي بحياة البشر، وأي بشر؟ هم أهل غزة الذين انتخبوا «حماس» وأيدوها واحتضنوا المقاومة وصبروا على الحصار الظالم وقنعوا بالأقل من مقومات العيش، هذا الشعب الصابر الصامد كان يستحق معاملة أفضل من قبل «حماس» وفصائل المقاومة، ما كان يستحق أن يغامر به فيُقتل أبناؤه وتهدم بيوته ويشرد ويهيم على وجهه في الطرقات، يقاسي آلام البرد والصقيع، لا ملجأ له، والعذاب ينزل من فوقه، يستغيث حيث لا مغيث إلا الله. أهل غزة ما كانوا يستحقون كل هذا العذاب أبداً وكل هذا الترويع النفسي الذي سيلازمهم. وإذا كانت «حماس» عاجزة عن توفير حياة كريمة لأهل غزة، فعلى الأقل لا تكون سبباً في معاناتهم، هل إلى هذه الدرجة تهون غزة على «حماس»؟ويبقى في النهاية أن نقول ما قالته المُسنَّة الفلسطينية: «إذا هذا -اللي جرى- نصر... كمان انتصارين ما يبقى في غزة سكان».[c1]* مفكر وأكاديمي من دولة قطر - عميد (كلية الشريعة ) بجامعة الدوحة سابقاً[/c]
أخبار متعلقة