الأديب أحمد محفوظ عمر:
[c1] أنا مدمن لفن المرشد.. وقد فشلت في الإقلاع عن هذا الادمان!![/c]يحق لنا أن نقول أن الأستاذ الأديب أحمد محفوظ عمر هو أحد عمالقة ورواد كتابة القصة والرواية في اليمن ، بل والأبرز بين فرسان كتاب القصة والرواية على مدى أكثر من أربعة عقود .. ونؤكد هنا .. أن الاستاذ أحمد محفوظ عمر مازال قلماً ينبض بالابداع ولديه العديد من الكتب التي تضم الروايات والقصص القصيرة الرائعة.. ولكن كبرياءه تمنعه من عرض ابداعه العظيم على المسئولين في وزارة الثقافة أو اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الذي يعتبر أحد أبرز مؤسسيه ، ويشعر بالاحباط وهو يرى عشرات الكتب تصدر كل شهر حاملة أعمالاً ادبية متواضعة المستوى .. بينما لا تجد كتب المبدعين الكبار فرصتها في النشر لأن اصحابها يجيدون الابداع العظيم ويجهلون فن العلاقات العامة والخاصة التي تمكن انصاف الموهوبين من نشر انتاجاتهم المتواضعة المستوى!! وهذه مأساة بكل المقاييس!! لنترك الأدب جانباً .. ونرحل مع استادنا أحمد محفوظ عمر في حديث عن فن الغناء وابرز فرسانه الاستاذ محمد مرشد ناجي الذي يعتبر صديق عمر لأحمد محفوظ .. فماذا يقول فارس الأدب عن فارس الفن؟!في البدء .. يجب أن اعترف بأنني مدمن لفن الأستاذ محمد مرشد ناجي .. فصوته الجميل يشدني ويشجيني ويحلق بي في ذرى النشوة والانبساط العميقين.. والحانه الرائعة المضمخة بعبير التربة اليمنية الأصيلة تهزني وتسمو بي إلى عوالم حالمة من الرقة والتطريب.. وتبقيني متبتلاً في المحراب الفني المقدس لفترات طويلة..واعترف أيضاً هنا.. بأنني حاولت جاهداً مرات كثيرة الاقلاع عن هذا الادمان ، والفكاك من سطوته الآسرة، ولكنني فشلت.. ففي كل محاولة كان صوته يغزوني حتى الاعماق.. عملاقاً يتهادى على جواد أشهب.. وينساب كرحيق سلسال.. فتتحلل المحاولة، ويتكرس الادمان بثبات أكبر.. ويبقى أبداً ذلك المتجبر الذي يفرض نفسه عليك!!وحين يغيب ذلك الجبروت فترة من الزمن.. لاتملك إلا البحث عنه بجنون لا يقاوم .. فلقد عايشت هذا الصوت الساحر منذ فجر حياتي .. وتفتحت مداركي الفنية عليه.. أنهل من معينه الكثير من أطايب النغم الطروب.. ومع مرور الزمن اسس له في نفسي ونفوس الالاف من محبي الفن مكانة عالية لا تطال ، بنبرات صوته الشجية المتجمعة من قمم اليمن.. والمتوحدة في نغم يسترسل شلالاً متدفقاً في هدير متصاعد متماوج منحدر كماء نمير إلى النفوس البشرية حاملاً في حناياه دفق الحياة ونبضها وعبيرها الفواح..ويظل منيعاً كالجبال الشاهقة في حالتي الاحتواء والتبدد لانه الصوت الذي يجعل من الكلمات البسيطة معنى مكثفاً للانطلاق والتسامي فيه خصب الحياة ونورها وتباشير يوم جديد يمور بالعطاءات الانسانية النبيلة بلا نضوب..يرعش ويسعد ويرتفع بنا إلى عوالم حالمة من النشوة والانبهار .. ولذلك أضحى الفنان الأثير إلى قلبي من بين فناني العالم أجمع .. استزيد نفحاته الجبارة وأرتضيها قيداً يغل احاسيسي ويثريها عطاء وبشارة..لقد حبب محمد مرشد ناجي إلى الكثيرين من الشباب أغاني التراث ..فهو يشدو بها ويضفي عليها مسحة من الجمال والتجدد .. وهو حين يغني يفعل ذلك بولع واحساس عميقين بالكلمات والمعاني فيرتفع إلى صرحه العالي ويرفعنا معه إلى دنيا تشي بالانوار والازهار والافراح التي لا تنتهي..وأثناء مسيرته الشاقة في الحياة وفي عالم الانغام استطاع أن يبني لنفسه مدرسة خاصة به وتتلمذ على يديه الكثيرون من الهواة ووجدوا منها التشجيع والعون والتوجيه وتسنموا مناصبهم المرموقة في عالم الطرب بفضله وإن اصبح تأثيره واضحاً على الدوام..ومحمد مرشد ناجي الفنان هو أيضاً مثقف غزير الاطلاع ذو اسلوب ادبي سلس يعشق النغم والكلمة .. فهو يختار كلمات أغانيه بدقة وحرص كبيرين، منطلقاً في ذلك من ذوق فني رفيع وثقافة راقية .. فيتدخل أحياناً في شطب كلمات معينة في القصيدة ، أو مقاطع كاملة يلمس فيها الركاكة أو غموض المعنى أو الابتذال .. ولهذا تكتسب اعماله الفنية الكمال والشموخ.. ولم يتوقف فناننا الكبير عند إثراء حياتنا بروائع النغم وتطوير تراثنا الفني.. بل عكف ينقب ويبحث ويدقق عن أصول الحاننا الشعبية والتراثية من مختلف مناطق اليمن ويدونها ، وتمكن من إثراء مكتبتنا اليمنية بكتابه الأول " أغانينا الشعبية" الذي صدر عام 1959م ثم كتابه الثاني " الغناء اليمني القديم ومشاهيره" في بداية عام 1983م والذي كلفه الكثير من الجهد والاستقصاء في مختلف مناطق اليمن .. وأخيراً هذا الكتاب الجميل والممتع الذي بين ايدينا والموسوم بـ" أغنيات وحكايات" ومن أجله سوف أتوقف قليلاً لأتحدث عنه . حين بدأ الفنان الكبير محمد مرشد ناجي يمارس الفن كهواية وهو يافع، كان الاستعمار البريطاني كابساً بكلكله على البلاد . يمنع عنها الهواء النقي، ويجرد ناسها من أبسط حقوق الانسان، والحركة الوطنية تطل برأسها على وجل وغموض .. يتناثر النقد ضد ممارسات الاستعمار وعملائه في الجنوب ، وضد الإمامة في الشمال ، في المجالس وزوايا الصحف المحلية .. رأى الفنان المرشد.. أن للفنان دوراً مهماً ومؤثراً في حياة الجماهير .. وأنه يمكن أن يكون الفن الشرارة التي تشعل اللهب المدمر.. فاستيقظنا في فجرنا الداكن على أغانيه الوطنية اللاهبة ، تتفجر براكين من مكبرات الصوت المسجلة وفي الحفلات العامة حية معبرة، وسرعان ما انتشرت بين أوساط الجماهير تلهب حماسهم وتفتح أعينهم واذهانهم على الطريق الشائك المطلوب ، وانتشرت أغانيه بسرعة البرق بين الناس ، وترددت على الألسنة وفي الآذان أغان تحريضية مثل " ابن الجنوب ، وهات يدك على يدي ، وأخي كبلوني، ونداء الحياة، وشعبي ثار اليوم، وأنا الشعب، وطفي النار، وامنعوا الهجرة ، وكركر جمل، وغيرها من الأغاني الحماسية والمنولوجات الساخرة ، ولما كان لكل قصيدة وطنية ظروفها وأسبابها .. أرتأى الاستاذ المرشد أن يطلعنا على خفايا تلك الظروف والاسباب باسلوب قصصي بديع وشيق ، ويكشف لنا اللثام عن أحداث صاحبت تلك الاناشيد التحريضية في هذا الكتاب الهام، واطلعنا على خفايا حقبة كاملة من تاريخنا المليء بالصراع والحيوية والاحداث الجسام ، والتي اوصلتنا إلى نعيم الاستقلال ، وشموخ الكرامة . سفر لنا وللجيل الجديد من أبناء شعبنا العظيم .. ونتيجة لذلك، فقد جوبه فناننا الكبير بعداء واضطهاد معلنين، من قبل الاستعمار وركائزه من "مستوزرين " وعملاء.. ولكنه لم يهن أو يضعف أو يساوم ، بل بقي صامداً بكبرياء واعتزاز وطني، وحافظ بتصميم لا يلين على قوة اندفاعه في خوض المعركة حتى نهايتها وهو الفقير المعدم إلا من غنى الكرامة ، والاعزل من كل سلاح إلا من حماية الشعب العظيم وحبه السخي الذي لا ينضب.وفي الأخير .. أعترف .. أنني - رغم ماقلته عن فناننا المحبوب المرشد- لم أوفه حقه من التقدير.. وسيتفق معي كل الذين عايشوه عن قرب.. ولكن كلمة أخيرة أقولها للتاريخ .. بأن محمد مرشد ناجي .. علامة فنية متفردة، لها كل مزايا الخلود الذي لا يمكن للزمن أن يطمسها ، أو يثير حولها الغبار.