الإنسان بطبعه كائن منتمٍ؛ على اختلاف وتنوع في طبيعة ومستويات هذه الانتماءات التي ترافق الإنسان منذ بداية وعيه بوجوده - كفرد واعٍ، وكفرد في جماعة - وإلى نهاية هذا الوعي المحدود بحدود الإنسان. والإنسان منتمٍ؛ لأن الانتماء حاجة إنسانية ضرورية، يفتقر إليه الإنسان سيكولوجيا وسوسيولوجيا، ويتعذر عليه التكيف بدونه، بل يتعذر عليه الوجود - الوجود النوعي - بدون أن يحظى هذا الجانب بقدر - ولو جزئ - من الإشباع. الانتماء ليس ترفا، بل هو أداة الفاعلية والإنسانية ونتيجتها في الوقت نفسه. وتعزيز الانتماء - أيا كانت صوره - تعزيز نوعي للإنسان. الإلحاح على الفردانية، لا يعني إمكانية الوجود خارج دوائر الانتماء، بل الفردانية ذاتها لا تتحقق إلا من خلال الانتماء، الانتماء الذي يحفظ لها وجودها الخارجي على الأقل. إذ هي بدونه تتحول إلى وجود هش، وجود معرض - دائما - للانتهاك. فهي وجود فردي أعزل، لا يستطيع الوقوف في وجه طوفان الانتماءات، التي يفرزها الوجود الاجتماعي حتما، كجزء من طبيعة قوانين الاجتماع البشري. لكن، ليس كل الانتماءات تحتفظ ببُعد إيجابي في علاقتها مع التوجهات الفردانية. فالانتماءات ذات الأبعاد الإقصائية: وهي ما سوى الانتماء المدني، لا تستطيع التسامح مع أي توجه فرداني؛ لأنها - من حيث وجودها - ليست قائمة على التمايز فحسب، وإنما على تشويه وتحقير وشيطنة الآخر. وهذا لا يعني هضم حقوقه المعنوية فحسب، وإنما يعني - كما تؤكد الشواهد الواقعية - اعتداء على الحق المدني، أي أن تلك الانتماءات غير المدنية، تتجاوز حدودها المعنوية، إلى أن تصل إلى حدود المدني، فتمارس النفي للمدني في الإطار المدني!. وسواء كانت هذه الصور التي ترسمها الانتماءات غير المدنية للآخر، صحيحة في بعض أجزائها، أو كانت مغلوطة تماما، فإن النتيجة الحتمية - بصرف النظر عن بعدي: الصحة والخطأ - تتحدد في تكوين انتماء تمايزي، يقع خارج حدود التعايش المدني. وهذا يعني أن الانتماء المدني، هو الانتماء الوحيد الذي يحفظ للفردانية وجودها العابر لجميع أنواع الانتماءات. الانتماء المدني - كشعار متعالٍ - يتحدد واقعيا بالانتماء (بأوسع ما تعني كلمة: انتماء) إلى مؤسسات المجتمع المدني. ومؤسسات المجتمع المدني لا أقصد بها هنا: المؤسسات غير الرسمية التي تقع خارج التبعية المباشرة للدولة - كما يقصد في التعميم الغالب - وإنما أقصد بها تحديدا: المؤسسات المدنية الرسمية والأهلية، التي يتحدد وجودها الأولي، خارج الانتماءات ذات الأبعاد المتحيزة بالضرورة، كالانتماء الطائفي والمذهبي والقبلي والمناطقي والإثني...إلخ. فالمجتمع المدني في سياقي هذا، يشير إلى الوجود المادي المحايد للمؤسسات التي يتعامل معها الإنسان هنا، بوصفه: مواطنا فحسب، دونما اعتبار لأية صفة أخرى. ما يؤكد عليه خطابي هنا، هو تمدين الوجود المؤسساتي، حتى وإن كان هذا الوجود وجودا مدنيا في الأصل، بما يؤدي إلى تعزيزه من جهة، وحفظه من اختراق بقية الانتماءات المنافسة، من جهة أخرى. وهذا التعزيز المدني للمؤسساتية، يؤكد في النهاية على تعزيز المواطنة، كإطار مدني، يلتقي عنده جميع الفرقاء، ويحتوى أنواع المختلف: اجتماعيا ومذهبيا وطائفيا ومناطقيا وإثنيا، بما يؤدي إلى كون كل هذا الاختلاف وحدة متكاملة، تمد المجتمع بأنواع من الفاعلية، لا تمتلكها - في الغالب - المجتمعات المنمطة، كما لا تمتلكها - أبدا - المجتمعات التي يطغى فيها المختلف على المكون الوحدوي العام. المواطنة النابعة من الانتماء الوطني ضرورة، هي مفهوم مدني. ولم يكن للمواطنة وجود قبل وجود الدولة الحديثة، التي بدأت تتكون في الغرب الأوروبي قبل أربعة قرون تقريبا. ومفهوم المجتمع المدني مفهوم ملازم لمفهوم المواطنة، وهما - من جهة أخرى - ملازمان للتشكل النهضوي الغربي، الذي كان بداية لظهور الدولة القومية الحديثة في أوروبا. هذا ما جعل الباحثين السياسيين يؤكدون أن المواطنة - كمفهوم - نابعة - في الأساس - من تصور ليبرالي، يعتمد المساواة بين المواطنين، بصرف النظر عن الانتماءات الأخرى التي تفرق بينهم. ولهذا أكد جان جاك روسو أن المواطن مساوٍ تماما للآخرين جميعهم، وعلى أنه يساهم معهم على قدم المساواة في تشكيل الإرادة العامة، أي: إرادة الوطن. إذن، فشرط المساواة في المواطنية شرط في تحقق المواطنة ذاتها. فلا يوجد مواطن من الدرجة الأولى، ومواطن من الدرجة الثانية. لا يوجد مواطن أكثر مواطنية من الآخر. المواطنة، إما أن تكون - بحكم بطاقة الهوية -، أو لا تكون. لا وجود للنسبية هنا. النسبية توجد في عاطفة الانتماء التي هي مشاعر كامنة في الضمير، بينما المواطنة، بما تستلزمه من حقوق وواجبات، وجود واقعي غير نسبي، فللمواطنين - جميع المواطنين - الحقوق نفسها، وعليهم الواجبات نفسها. المواطنة ليست وجودا ثانويا في حياة الإنسان، بل هي وجود أولي، يحدد نوعية وجود الإنسان، كما يحدده - من قبل - كونه إنسانا. لا ينازع الوطنية في هذا، إلا الوجود المبدئي للإنسان. أقصد هنا، أن الإنسان في هذه الحياة يتحدد وجوده - المادي على الأقل - من خلال بعدين، أو يتم التعاطي معه وقائعيا من خلال بعدين: الأول: هويته الإنسانية. فالإنسان في كل مكان، يتم النظر إليه مبدئيا، من خلال كونه إنسانا. فالتعامل معه يختلف - جذريا - عن التعامل مع بقية الكائنات الأخرى. فالقاعدة الأولى، المباشرة والبدهية، هي الإنسانية. وهي لمباشرتها ووضوحها، يتم التعاطي معها تلقائيا، وعلى نحو غير واع؛ لأنها من البدهيات الأزلية في وعي الإنسان. الثاني: هويته الوطنية. وهذه الهوية الآن، هي التي تمنحه الحقوق، وتطالبه بالواجبات. والتعاطي معه عالميا ومحليا، يتم بواسطة هذه الهوية المدنية. ومن لا يتمتع بهذه الهوية الوطنية، فكأنه لا يتمتع بالوجود ذاته، إذ حتى الأموات ينظر إليهم من خلال هذه الهوية بأثر رجعي. ولهذا لا يتصور - اليوم - أحد خارج هذه الهوية - صراحة أو ضمنا - وإلا كان خارج الوجود الإنساني. ولأن المؤسسات المدنية - الأهلية منها والرسمية - هي التمظهر الحي الفاعل للوطن، ومن ثم المحك الذي تتجلى فيه حقوق المواطنة وواجباتها، فقد عمدت جميع الدول إلى تمدين هذه المؤسسات، وذلك عبر رؤية قانونية وتنظيمية، تحفظ للجميع: المواطنين، المساواة في التعاطي معها، وحرصت على أن تتجنب أية صياغة، قد تستخدم للتمييز بين المواطنين على أساس الانتماءات الأخرى، الانتماءات الما قبل مدنية. لا يعني هذا أن المواطنة المتمثلة في مؤسسات المجتمع المدني، تنفي بقية الانتماءات، أو تحاربها، بل هي على العكس من ذلك، تحتويها، وتصونها من الاعتداء عليها. لكنها - في الوقت نفسه - لا تسمح بالتمييز على أساسها؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون جزء من المكون الوطني ضد الجزء الآخر. وهذا يؤدي إلى زعزعة الإطار: المواطنة، الذي به تتحدد طبيعة التعايش مع بقية العالم. وبما أنني هنا أتناول الشأن المحلي، فإن الدين ليس إشكالية هنا، فنحن - في هذا الوطن - جميعنا مسلمون. مما يعني أن علاقة الانتماء الديني بالانتماء الوطني مسألة غير مطروحة نظريا؛ لأنها غير موجودة واقعيا. فنحن نتحدث عن مجتمع المواطنية فيه تطابق الإسلام، فلا مواطنية بلا إسلام. لكن، تبقى الانتماءات المذهبية والطائفية والقبلية والمناطقية، انتماءات حية، يجب إخضاعها للمواطنة التامة. وهذا لا يعني نفيها، أو التنكر لها، أو حتى تجاهلها، وإنما يعني التعامل معها بالحياد التام؛ ومنعها من اختراق المؤسسات المدنية؛ لأن مثل هذا الاختراق، يمثل تهديدا مباشرا لقيمة المواطنة الشاملة، المواطنة التي تكفل حقوق الجميع، لصالح انتماء جزئ، يبدد بقية الحقوق. في الماضي كانت بعض هذه الانتماءات هي المحدد لهوية الإنسان. كانت هوية الإنسان تتحدد من خلال نوعية دينه، أو من خلال العرق الذي ينتمي إليه، أو القبيلة التي ينتمي إليها، أو المنطقة التي يستوطنها. كان الدين وطنا، كما كانت القبيلة وطنا أيضا. وكانت هذه الهويات ذات أثر فاعل في تحديد مصير الإنسان، من خلال موقع الإنسان من كل ذلك؛ لأنها كانت تمارس الدور الذي تمارسه الكيانات الوطنية اليوم. كان هذا فيما قبل النظام الحديث للدول، هذا النظام الذي يعتمد المواطنة، كانتماء مادي ملموس الأثر، ولا يستطيع التوفيق بينها وبين انتماء آخر، إلا بالتضحية بكلا الانتماءين. اليوم، لم يعد أحد يسأل عن بقية الانتماءات، في ظل الممارسات المدنية المجردة التي تهيمن على الوجود الإنساني كله. اليوم، حتى أشد المتعصبين دينيا، بل ومن يرون الوطنية كفرا، لا يمارسون وجودهم المادي إلا من خلال الوطنية التي يرونها: جاهلية. يتحدد وجودهم - كأحياء - بالهوية: الوطنية، ويسافرون بالهوية: الوطنية، وينتمون لوظائفهم بالهوية: الوطنية، ويودعون في البنوك بالهوية: الوطنية...إلخ. كل تفاصيل وجودهم اليوم تتحدد - إيجابا وسلبا - بالمواطنة، ولا وجود لهم خارجها، حتى وإن حاولوا ذلك. لا يخفى أن المواطنة - كمفهوم جديد وطارئ على الوعي التقليدي - واجهت رفضا صريحا حينا، وضمنيا في أكثر الأحيان، من قبل منظري الإسلاموية المعاصرة. كثير من الحركات الإسلامية كانت ترفض الاعتراف بها، وإن رأت التعامل معها ضرورة. بعضهم رآها جاهلية وكفرا؛ لأنها - بزعمهم - انتماء مناقض للانتماء العقدي الأممي، وبعضهم تسامح معها، فرآها مجرد بدعة يجب التنكر لها وإنكارها. والجميع - من هؤلاء وهؤلاء - تراوده أحلام اليقظة بدولة الخلافة الأممية، التي لا تغرب الشمس عنها!. هذا المنحى، هو الطابع العام للحركات المتأسلمة التي كانت - ولا تزال - هي المصدر الأساسي للفكر السياسي الإسلامي. مؤخرا، بدأ بعض مفكري هذه الحركات يطرحون مسألة التوفيق بين الإسلامية والمواطنة القطرية، ويجتهدون في البحث عن مبرر شرعي للمواطنة!. لكن، هذا البحث عن مبرر، وهذه المحاولة التي تنتهج التوفيق، وهذا التردد في الاعتراف بالمواطنة، كل ذلك يؤكد سلبية الموقف الوجداني - قبل الفكري - من التسامح الذي تتكفل مؤسسات المجتمع المدني بتوفيره في إطار المواطنة، وأن تشظي المجتمع على أيديهم، وبواسطة الانتماءات العصبية، لا يزال خطرا قائما، بل ومترجحا في بعض الأحيان. [c1]* عن / صحيفة (الرياض) السعودية [/c]
موقف الحركات المتأسلمة من الانتماء المدني
أخبار متعلقة