نجمي عبدالمجيدإبداعاً وتاريخياً تنسب الريادة في الأدب العربي الحديث إلى دور ومكانة نجيب محفوظ في وضع الأدب الروائي العربي في إطار المشروع الحضاري والرؤية العالمية، لذلك يعتبر موضوعياً هو من أسس الفضاء الثقافي لهذا اللون من الأجناس الإبداعية في حياتنا.إن المشروع الحضاري في أدب نجيب محفوظ الذي تعدد مابين الرواية والقصة والأقصوصة والمسرحية والسيرة الاجتماعية، خلق مساحات من القراءات للزمان والمكان والإنسان، فهذا الوعي الإبداعي الذي تجاوز أكثر من 60 عاماً، لم يقف كتابياً عند حدود التسجيل لواقع الإنسان المصري وفترات الحدث، بل قدم الصراعات والأزمات في صور معبرة أدبياً لا يرتقي إليها الا من كان كاتباً يدرك أهمية الرواية في تاريخ الحضارات والشعوب.فالنص الروائي في أدب نجيب محفوظ هو إعادة كتابة تاريخ من لا تاريخ لهم، الفئات الدنيا من الناس في قاع الحياة، هناك حيث تجري أحداث وتقدر مصائر وتذهب أرواح في متاهات الضياع، وصعود رغبات الاختناق إلى حد مطاردة أشياء مجهولة في عوامل تتباعد بينها مسافات الالتقاء وتدخل في دوامة الفردية القاتلة التي تدفع بالفرد إلى الانتقام من الجميع، فالمجتمع الذي حكم على سعيد مهران بطل رواية (اللص والكلاب) بالسجن والنفي والموت عليه أن ينال نفس المصير، وهنا تصبح أزمة الفرد كونية لأن الذات مهما انسحبت من محيط الجماعة لا تستطيع إسقاطهم من دائرة صلتهم بها، إنهم أسباب استمرارها والخيوط الخفية التي تحرك مصيرها ولكن وجودهم خلف حاجز التخفي وتحولهم من حقائق إلى أشباح، هو ما يوقع الفرد في محرقة البحث عن المجهول وتوجيه الضربات عند كل بادرة شك بما هو أمامه، وعندما تكتشف الحقيقة تكون الضحية، إنساناً بريئاً ليس له صلة بهذا الجنون.رصدت المرحلة الاجتماعية في أدبه نفسية الإنسان عبر أزماتها فالمشكلة التي تعصف بالذات هي الامتداد لهموم وصراعات عالمية، ومن هنا نجد نجيب محفوظ يتعامل مع الفرد كجزء من حلقات متواصلة تربطه بأحداث العالم. لأن جزيئات المجتمع ومكوناته الاقتصادية والسياسية والفكرية والنفسية وما يجري من حوله من تغير لا تنفصل عن مجريات تربطها آلية تتحكم بقدرات شعوب، وهذا الأسلوب في الكتابة الأدبية ادخل فكر نجيب محفوظ إلى رحاب العالمية وجعل من أدبه وثائق اجتماعية ومرجعية لقراءة عمق الحياة في الشارع المصري، وهي حالة اقتدار إبداعية تنطلق.أولاً: من موهبة كبرى تتراكم معارفها عبر مراحل من التجارب.وثانياً: الدخول في عمق المجتمع ونفسية الإنسان والتعامل مع كل شرائحه وتصوراته برؤية تنقل الفرد إبداعياً من المحلية إلى العالمية، لذلك نظر النقاد إلى أدبه من المستوى الذي ينظرون به إلى أعمال تولستوي وبلزاك وجوركي وغير هؤلاء من عمالقة الأدب الروائي العالمي.وعالمية نجيب محفوظ في الأدب الروائي العربي هي الأولى، لأن وضع مشروعه الروائي في إطار الإبداع العالمي، جاء من استقراء لأشكال المعرفة في هذا الجانب، فالجنس الروائي في الأدب العربي لم يطرح قبل نجيب محفوظ في إطار مرحلة النهضة الأدبية العربية التي كانت أولياتها منذ القرن التاسع عشر ومحاولة إحياء تراث الحضارة الإسلامية حتى كانت لحظات الصدام بين الشرق والغرب، وتوسع عالم المعارف بين الشعوب، ومنذ ذلك الوقت تطورت مرحلة الأدب العربي وكان للرواية حضورها في مسارات متعددة، غير أن نجيب محفوظ كان أول من أدرك أن العصر هذا هو عصر الرواية، وقد كتب مع نهاية الحرب العالمية الثانية بتاريخ 3 سبتمبر 1945م وكان عمره 34 عاماً في مجلة الرسالة القاهرية قائلاً: (لقد ساد الشعر في عصور الفطرة والأساطير، أما هذا العصر، عصر العلم والصناعة والحقائق، فيحتاج حتماً لفن جديد، يوفق على قدر الطاقة بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنانه القديم إلى الخيال وقد وجد العصر بغيته في القصة، فإذا تأخر الشعر عنها في مجال الانتشار، فليس لأنه أرقى من حيث الزمن ولكن لأنه تنقصه بعض العناصر التي تجعله موائماً للعصر، فالقصة على هذا الرأي هي شعر الدنيا الحديثة).لقد أدرك نجيب محفوظ أن الرواية هي ملحمة العصر، والشكل الأدبي القادر على وصول إمكانياته الإبداعية إلى الأفق العالمي للثقافة.وهذا يدل على أن قراءته لروح العصر مرتبطة من مكانة الإبداع في حياة الناس ودوره الخطير الذي لا يقل عن العوامل الأخرى العاملة على إعادة صياغة وجدان ومشاعر الناس، فالرواية في المجتمعات الغربية قد أصبحت من قادة الفكر في مسيرة الشعوب، أسهم إعلامها في صناعة القرار الحضاري ومواجهة تحديات عالمية من حروب وأزمات وأفكار وتحولات اقتصادية وانتقال العالم إلى عصر العلوم والصراع مع المقدسات والبحث عن حرية الفرد والثورات على حكم الفردية المطلقة، في كل هذا نجد للرواية حضورها الجبار والواسع، ومن هذه الأرضية التي وقفت عليها الرواية في الغرب ظهرت عدة مدارس وأساليب في كتابتها، بل ظلت تجدد في بنائها الإبداعي وتغير في شكل تقنيتها تواكباً مع أحداث العصر، ووظفت السياسة والتاريخ وعلم النفس والعقائد والأديان والفنون في خدمة تطورها على يد أساتذة أصبحوا من عمالقة الأدب الروائي العالمي عبر عصور التاريخ.لقد أسس نجيب محفوظ مشروع الرواية العربية، بعد إدراك ومعرفة لما جرى في الغرب في هذا الجانب، ولكن نجيب محفوظ لا يجعل من أدبه نسخاً عن أفكار وأسلوب الغرب في كتابة النص الروائي، بل هو وضع كل هذا في إطار مقدرته على التجديد فكرياً وهنا يكون التمازج بين المعرفة ومقدرة الموهبة على الارتقاء بالعمل الإبداعي وإخراجه بروح ورؤية تحمل صفات عالمها وواقعها، تسير نحو آفاق من تعالي العقل الذي لا يسقط في دوامة تكرار الشكل وأنواع الصيغ، ولا يحدد معالمه عند نقاط هي من صنع الآخر.لذلك نجد في أدبه مراحل من النقل شكلاً ومضموناً، وبين كل مرحلة وأخرى فترات من التأمل والاستيعاب والتعرف على ما تغير وأستجد في الحياة، قبل الانتقال إلى نقلة جديدة في عالمه الأدبي.وهذه المراحل من التأمل والإدراك هي من أعطى لأدبه طابع المشروع الحضاري والرؤية العالمية، فهو لا يسقط الفرد والمجتمع محلياً عن أحداث العالم، عندما يكتب لا يكتب عن منفرد ذاتي، ولكن عن كونية الإنسان على هذه الأرض عن معاناة عالمية، فالقومية لا تعني الوقوف عند أطراف صغيرة من الأمور، بل هي عملية فتح في الحاجز الذي يفصل بين حالة الإنسان في مجتمعه وبين الفضاء الواسع في هذا العالم وتلك بداية نحو الالتحام مع معاناة الشعوب في كل مكان، فالقهر والموت وتدمير روح الفرد وسقوطه إلى أدنى مستويات الإنهيار ومحاولة تقزيم إرادته وحقه في أبسط حقوق الحياة، حالات تشمل معظم سكان الأرض في هذا الزمان.من المواضيع الكبرى والنوعية والأزمنة والعلاقة بين الإنسان والمقدس، طرح نجيب محفوظ أكثر من تساؤل حول هذا المصير، هل التمرد على المقدس يوجد الحل أم يقود الإنسان الى متاهات وصراعات تسقط فيها كل مناحي الخير والقيم ؟؟وكيف تصبح حياة الفرد حالات من الهروب والبحث عن المجهول والسراب الذي يوصل الروح الى نهاية الفاجعة والسقوط الأخير.تلك بعض الملامح التي حددتها المرحلة الفلسفية ـ النفسية والتي بدأت عام 1958م مع ظهور رواية (اولاد حارتنا) وأرست قاعدة جديدة في كتابة الأدب الروائي العربي.إن الاغتراب الذي تعاني منه نفسية الإنسان في هذا العصر ونفي الذات إلى عوالم من العزلة والتخبط بين الملاذ والخوف، عبرت عنها روايات نجيب محفوظ برؤية إنسانية، ونجد ذلك في رواياته مثل (اللص والكلاب) عام 1961م (السمان والخريف) 1962م و(الطريق) 1964م (الشحاذ) 1965م و(ثرثرة فوق النيل) عام 1966م.فهذا الإنسان الحائر، الباحث عن الأمان المفقود، المطارد من شبح الانتقام والضحية التي لا تجد العدل ولا حتى لحظات من الاسترخاء من تعب السير لمسافات طويلة في دروب الحياة، فهذا الجسد المنهك وتلك الروح القلقة والقادمة من دنيا المجهول وعالم تتصارع فيه الرغبات والشهوات ورحلة تتساقط فيها أنفس من كثر ما عصف بها من دوامات مرعبة، وعند ما تأتي النهاية يسقط الجسد في تلك البئر العميقة المظلمة ويسكن كل شيء فالموت هو الحل لمثل هذه الأرواح الضائعة في هذا الوجود.تلك حالة عايشها نجيب محفوظ في الحياة وصورها إبداعياً في أعماله وفي هذا جسر الاتصال بين العقل والواقع وإدراك المسافة التي تفصل بينهما، وفي هذا تكون مقدرة الأدب على التمازج بينه وبين الحياة.إن الجوانب المظلمة والغبار العالق على ستائر النفس، والحرمان الذي تطول فتراته حتى يوصل الذات إلى حد الجنون والخوف من أن تأتي النهاية قبل التمتع بلحظات من النعيم، والعيش على مستوى من الأحلام الصغيرة وكأن البشر قد تحولوا الى كائنات دونية لا يحق لها تخطي حدود ما فرض عليها وحبسها في دوائر من البؤس فالمسافة التي تفصل بين الميلاد والموت في حياة الفرد هي الحرمان والحلم، غير أن الضربات الموجعة تجعل حتى هذه الأحلام البسيطة تمنيات بعيدة المنال والوصول إليها لا يكون الا عبر خطوات على الجمر والدخول في عاصفة من لهيب، وذلك ما عبر عنه في مجموعة قصصية هي (دنيا الله) الصادرة عام 1962م.هذه الحيوات الواسعة والمتعددة التي نجدها في عالم نجيب محفوظ الإبداعي حيث جاورت معاناة الإنسان في هذه الدنيا وتصاعد أزماتها، فقد ترقبها بعقل الكاتب ونفسية الفرد الذي يحمل هم الإنسانية ويمر بنفس معاناة الناس.فهو لم ينفصل يوماً عن الحياة في الشارع المصري وأحداثه، بل هو جزء من مسيرة الحياة فيه، وتلك هي العالمية في أدب نجيب محفوظ التي أوصلته عام 1988م الى جائزة نوبل في الأدب وهو أول كاتب من العالم العربي تصل إليه هذه الجائزة.سوف يظل تراثه الأدبي من شوامخ الآداب العالمية عبر عصور قادمة وسوف تجد فيه الأجيال صورة من حياة الإنسان المصري ـ العربي، وطالما ظلت المعاناة قائمة سوف يظل أبطاله حيوات تعيش بيننا، ونظل جزءاً منها طالما استمرت أمراض النفس الإنسانية وتصاعد القهر والرغبة في الانتقام ومطاردة المجهول.. إنها مأساة الإنسان.